في الـ31 من شهر ديسمبر/كانون الأول 2014 وقف الباجي قائد السبسي أمام نواب الشعب في البرلمان واضعًا يده اليمنى على القرآن الكريم وأقسم بعد فوزه برئاسة البلاد على الحفاظ على استقلال تونس وحماية سيادتها ووحدتها والسهر على حماية مصالحها واحترام الدستور.
يومها أقسم على احترام الدستور الذي أشاد به العالم أجمع، وأكد أنه سيكون رئيسًا لكل التونسيين والتونسيات، وأن يكون ضامنًا للوحدة الوطنية، فلا مستقبل لتونس دون توافق وفق قوله، إلا أن الرئيس لم يفِ بالقسم ونكث عهده.
العودة لنظام الشخص الواحد
ما فتئ الرئيس التونسي منذ انتخابه يحاول خرق الدستور والدعوة إلى تعديله في الآن ذاته، آخر دعواته كانت مساء أمس الإثنين، حيث طالب الباجي قائد السبسي بتغيير الدستور الحاليّ والقانون الانتخابي الذي أضحى “غير ملائم”، مشددًا على أنه اتخذ قرارًا بعدم طلب تنقيح الدستور خلال ولايته الرئاسية حتى لا يتهم بالتشبث بالحكم.
هذه ليس المرة الأولى التي يطالب فيها رئيس تونس بتغيير الدستور، فقد اعتبر السبسي في وقت سابق أن النظام السياسي المنبثق عن الدستور الحاليّ يشكو هنات عدة، وهو نظام شل العمل الحكومي أو يكاد، وطابعه الهجين لا يساعد الحكومة ـ أي حكومة ـ والسلطة التنفيذية عمومًا على القيام بواجباتها في تسيير الدولة وتحقيق التنمية في إطار مجتمع ديمقراطي تتحقق فيه قيم الحرية والكرامة.
ويسعى السبسي إلى تعديل دستور 2014، وتغيير النظام السياسي في تونس بما يسمح له بالحكم بمفرده أسوة بالحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، فقد تربى في ظل حكمهما ويسعى لإعادة طريق الحكم الفردي في البلاد.
https://youtu.be/cv8KNhhWz0U
ما يفسر رغبة الرئيس السبسي تغيير دستور البلاد، نزعته السلطوية ورغبته في جمع كامل صلاحيات الحكم في يديه، وأن يكون الحاكم الناطق القاضي بأمره في البلاد، فهو يريد نظامًا رئاسيًا يتحكم فيه الرئيس بالبلاد ككل ولا سلطة للبرلمان أو رئيس الحكومة أمام سلطته.
ويعيب السبسي في الدستور الحاليّ أنه لم يمكّنه من هذه الصلاحيات، فصلاحيات الرئيس في تونس محدودة وفق نظام الحكم الحاليّ، وتقتصر على تعيين مفتي الجمهورية وإعفائه، والتعيينات والإعفاءات في الوظائف العليا برئاسة الجمهورية والمؤسسات التابعة لها، وتعيين محافظ البنك المركزي باقتراح من رئيس الحكومة وبعد مصادقة الأغلبية المطلقة لأعضاء مجلس نواب الشعب.
طوال هذه المدة لم يطالب السبسي بتعديل الدستور فقط، بل خرقه أيضًا، فتنحية الحبيب الصيد رئيس الحكومة السابق من منصبه مثلًا جاءت نتيجة ممارسة هذا الأخير لمنصبه كرئيس للحكومة وفقًا للنظام السياسي الجديد في تونس، لا كوزير أول وفقًا للنظام السياسي القديم المعمول به في البلاد قبل الثورة، الذي يسعى الرئيس الباجي قائد السبسي إلى إعادته وفرضه على البلاد.
وما رغبته في استبعاد يوسف الشاهد عن قصر قرطاج وتعيين أحد المقربين إليه إلا تواصل للتمشي الذي اختاره لنفسه منذ انتخابه رئيسًا لتونس، فالسبسي يريد معاملة حاكم القصبة كوزير أول لا يملك من أمره شيئًا سوى السمع والطاعة لا كرئيس وزراء يملك كل الصلاحيات.
يصر السبسي الأب والابن والمحيطون بهما، على إبعاد يوسف الشاهد من منصبه بدعوى إخفاقه في إنعاش الاقتصاد المنهك
لسائل أن يسأل، لما لم يعمد السبسي لتقديم مبادرة لتغير الدستور إن كان يسعى لذلك حقًا وحزبه الفائز في الانتخابات والمتحكم في البرلمان؟ هنا نقول إن السبسي يعي جيدًا صعوبة هذا الأمر، فلا الأطراف الداخلية ولا الخارجية تقبل بذلك في الوقت الحاليّ، فأي خطوة من هذا القبيل ستدخل البلاد في دوامة من عدم الاستقرار والتشكيك في مؤسسات الدولة المنبثقة عن الدستور الذي صيغ قبل 4 سنوات فقط.
كما أن السبسي يعلم يقينًا أن البرلمان المخول له النظر في مثل هذه المبادرات لا يملك فيه الأغلبية حاليًّا، حتى إنه لا يمكن له أن يمرر أي شيء من خلاله في الوقت الحاليّ، وإن كان باستطاعته ذلك لفعل الفصل 99 من الدستور وقدم لائحة لوم ضد يوسف الشاهد تجبره على المرور أمام البرلمان لنيل الثقة مجددًا.
ضرب استقرار البلاد
إطلالته البارحة في قناة تليفزيونية خاصة لم تشذ عن المألوف، فقد حملت في طياتها أيضًا دعوة الشاهد للاستقالة من رئاسة الحكومة، رغم ما يحمله ذلك من تهديد جدي لاستقرار البلاد في هذه المرحلة الحرجة التي تمر بها على جميع الأصعدة.
يعلم الرئيس السبسي أن استقالة الشاهد من منصبه في هذا الوقت الذي تستعد فيه تونس للخروج إلى السوق المالية العالمية لطلب قروض لتمويل العجز الحاصل في ميزانية الدولة، سيربك صورة تونس ويقلل من فرصها في الحصول على الدعم، إلا أنه فضل مصلحته الشخصية والعائلية على مصلحة البلاد.
ويصر السبسي الأب والابن والمحيطون بهما، على إبعاد يوسف الشاهد من منصبه بدعوى إخفاقه في إنعاش الاقتصاد المنهك ووصول المؤشرات الاقتصادية إلى مستويات “كارثية”، وإيجاد ربان جديد لرئاسة الحكومة، على أن تكون شخصية ندائية تلتزم بالسمع والطاعة وعدم قول “لا” في وجه الجماعة.
إنهاء العلاقة مع النهضة
لم يتوقف الرئيس الذي اعتاد التونسيون على خرجاته “النادرة” عند هذا الحد، حيث أعلن خلال لقاء الأمس انتهاء علاقة التوافق التي تجمعه بحركة النهضة الإسلامية، بعد أن فضلت النهضة تكوين ائتلاف مع رئيس الحكومة يوسف الشاهد، بدل التحالف مع نجله حافظ الذي ساهم في إرباك “النداء” والبلاد على حد سواء.
بدأ التوافق بين الطرفين سنة 2013
تتبين هنا النزعة السلطوية للباجي قائد السبسي وحب التفرد بالقرار وفرض رأيه على غيره، ففي أول مناسبة قالت حركة النهضة “لا” له، أعلن على إثرها فض التوافق معها، وهي التي تنازلت مرات عديدة سابقة حرصًا على تواصل التوافق الذي جنب البلاد ويلات العنف والفوضى طوال السنوات التي تلت 2013.
سبق للنهضة أن تنازلت وشاركت في الإطاحة برئيس الحكومة السابق الحبيب الصيد وهي غير مقتنعة بذلك، كما سبق لها أيضًا التنازل عن ترشيح مرشح لها في الانتخابات الجزئية بألمانيا ودعمت مرشح النداء، وتنازلت في العديد من المرات الأخرى، كل ذلك لأجل عيون نداء تونس ورئيسه المؤسس الباجي قائد السبسي، الذي سارع بفض التوافق عند أول مناسبة ترفض فيها النهضة رأيه.
ويرى السبسي أنه الشخص الذي خلص النهضة من خلال التوافق معها من الإقصاء، وهي التي تمتلك أغلبية مقاعد البرلمان التونسي والفائزة بالمرتبة الأولى في الانتخابات المحلية الأخيرة التي أجريت في الـ6 من مايو/أيار 2018.
ويؤكد السبسي من حين لآخر رغبته في تابع لا شريك، تابع يسمع ويطيع فقط، لا حق له في إبداء رأيه وإن كان بالكلام فقط لا الفعل، فقد تربى في مدرسة سلطوية لا مكان فيها للرأي والرأي المخالف، مدرسة ترى في الاستبداد بالرأي سبيلًا للنجاح وإن كلف الأمر البلاد الويلات.
النهضة لا تريد خسارة السبسي ولا تريد خسارة الشاهد في الوقت نفسه، فهي تعلم علم اليقين أن حركة نداء تونس بمفهومها وشكلها القديم لم تعد موجودة، لذا فإن المرحلة تقتضي التحالف مع الشاهد خدمة للبلاد ولها أيضًا
يعيب السبسي على حركة النهضة رفضها المشي وفق هواه وموافقته استبعاد الشاهد من الحكومة، ذلك أن النهضة تدعو لتعديل جزئي في الحكومة حفاظًا على الاستقرار السياسي في مرحلة تحتاج فيها البلاد إلى إصلاحات اقتصادية جريئة يطالب بها المقرضون الدوليين.
ويراهن السبسي على عودة الصراع الأيديولوجي بين من يصفهم بـ”الحداثيين” والنهضة إلى مربعه الأول، حتى يستعيد الزخم الشعبي الذي كان يملكه نتيجة هذا الصراع الوهمي، وكان “نداء تونس” قد تأسس في منتصف سنة 2012، بقصد القضاء على حركة النهضة التونسية والإمساك بزمام الأمور والاستحواذ على السلطة في البلاد، وضم الحزب يساريين ودستوريين وتجمعيين ورجال أعمال ونقابيين ومستقلين.
غير أن العديد من التونسيين يرون أن كلام الباجي قائد السبسي وتأكيده انتهاء العلاقة مع النهضة لن يخدم الرئيس ولا حزبه الذي يشهد تشققات وانقسامات كبرى جعلته عبارة عن دكاكين حزبية لا حول لها ولا قوة، نتيجة تشبث نجله بسلطة القرار ومحاولاته المتكررة الانفراد بالحزب.
تؤكد هذه المعطيات أن ما يحصل اليوم في تونس يدخل في إطار حرب التموضع والأجنحة بين قصري قرطاج والقصبة، وهي الحرب التي نتج عنها فشل الحكومة فشلًا ذريعًا في القيام بمهامها باعتبار أن أعضاءها منهمكين في هذه الحرب بدل التفرغ لمهامهم الأساسية.
ماذا عن النهضة؟
حركة النهضة المعنية مباشرة بكلام الرئيس الذي اتهمها بتفضيل الشاهد على حساب ابنه، رأت في بيان لها أن الاختلاف في وجهات النظر بشأن عدد من القضايا التي تعيشها البلاد وفي مقدمتها الاستقرار الحكومي لا يعني تنكّر الحركة للتوافق.
إلى جانب ذلك، أكد المتحدث باسم حركة النهضة عماد الخميري أن حزبهم سيبقى حريصًا على التوافق والحوار بما يخدم مصلحة البلاد، مع تأكيده أن النهضة ما زالت متشبثة بفكرة الاستقرار الحكومي، فهي لا ترى فائدة من تغيير الشاهد في هذا الوقت.
تصر حركة النهضة على نهج التوافق
يتبين من هنا، أن النهضة لا تريد خسارة السبسي ولا تريد خسارة الشاهد في الوقت نفسه، لكنها تعلم علم اليقين أن حركة نداء تونس بمفهومها وشكلها القديم لم تعد موجودة، لذا فإن المرحلة تقتضي التحالف مع الشاهد خدمة للبلاد ولها أيضًا.
تعلم النهضة أن لا بديل عن التوافق في تونس، وأن لا أحد قادر على أن يحكم وحده أو أن يقصي الآخر، إلا أنها تعلم أيضًا أن التوافق يصلح مع الأحزاب والأطراف القوية لا مع “الدكاكين الحزبية” التي لا تقدر على القيام باجتماع داخلي دون أن يؤدي إلى انقسام جديد وظهور حزب هامشي آخر.
ويعد التوافق السياسي في تونس أحد أهم مقومات الصمود أمام محاولات الانفلات بالوضع الاجتماعي والأمني في البلاد، فقد أغلق هذا التوافق مساحات كبرى من الفراغات التي كان يمكن للانفلات النفاذ من خلالها حيث ضيق من هوامش المناورة من الأطراف وسد منافذ التلاعب على المتناقضات.
ما يستخلص من كل هذا أن المشروع الذي جاء به الباجي قائد السبسي صيف سنة 2012، واجتمع حوله جمع من اليساريين والدستوريين والنقابيين ورجال الأعمال وبعض المستقلين، انتهى فعليًا إلى غير رجعة، فنجله حافظ لم يتمكن من صون الأمانة التي تركها له والده مع تحوله إلى قصر قرطاج.