تقف روسيا حائرة فتضطر للرد، لكنها مترددة في الفعل، حيرة رئيس ممتلئ بمشاعر القوة، يتجرع مرارة قتل 15 جنديًا من قواته، أشبه بـ15 صفعة تحتاج كثيرًا من الماء لمحو إهانة غير عادية في حجمها ومصدرها، وفي ردها اختارت موسكو طريقًا ثالثًا، فقررت تزويد نظام الأسد – الذي أُبلغ بالأمر عبر الهاتف – بصواريخ “إس 300″، وهي منظومة دفاع جوي يمكن أن يتجاوز مداها 250 كيلومترًا، وقادرة على إصابة الأهداف بارتفاعات عالية.
الدرس الأول في التاريخ العسكري: لا تعبث مع الروس
ليست هذه المرة الأولى التي تلوح فيها روسيا بتسليم النظام السوري المنظومة الصاروخية، فبعد الهجوم الكيماوي الأخير على دوما في أبريل/نيسان الماضي، وتوجيه ضربة موجعة للنظام السوري من الولايات المتحدة وحلفائها فرنسا وبريطانيا، أعلنت موسكو قرارًا بتسليم ذات المنظومة للأسد.
هرع وقتها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى موسكو، وقيل إنه مارس ضغوطًا كبيرة على بوتين لإقناع القيادة الروسية بعدم تقديم هذه الصواريخ لسوريا، ونجح فعلاً في منع ما اعتبره “إيذاءً لإسرائيل”، رغم أنها لم تكن معنية بكلام بوتين الذي ينفي حتى اللحظة وبلسان مسؤوليه سوء نواياه في هذا القرار الذي سيحمي قواته أولاً، ويمكِّن قوات الأسد الدفاعية ثانيًا، بحسب قوله.
يبدو أن حادث إسقاط الطائرة الروسية “إيل 20” فوق الأراضي السورية كان مفتاح الباب الذي ستدخل منه المنظومة الروسية إلى دمشق
لكن هذه المرة فشلت “إسرائيل” في احتواء الغضب الروسي، فعقب حادثة إسقاط الطائرة، استشعرت “إسرائيل” سخونة الموقف الروسي، فأرسلت وفدًا من كبار مسؤوليها، معربةً عن تفاؤلها من هذه الزيارة التوضيحية لحسن النية الإسرائيلية، لكن هذا التفاؤل قابلته تصريحات شديدة اللهجة من الجانب الروسي، فقد أرسلت موسكو خلال الأسابيع الماضية رسائل تحمل في سطورها نبرة تصعيدية حيال القصف الإسرائيلي المتكرر لأهداف تابعة للنظام السوري.
“لست مقتنعًا برواية تل أبيب عن إسقاط الطائرة”، جملة لخص بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين موقفه مما استفاض الوفد العسكري الإسرائيلي في شرحه خلال زيارته الأخيرة إلى موسكو، ورفض الرئيس الروسي استقبال قائد سلاح الجو الإسرائيلي، ما يشير – بحسب مراقبين – إلى فتح صفحة جديدة بين الروس والإسرائيليين من الممكن أن تغير المشهد في المنطقة بشكل كامل.
موقف ترجمه بوتين بخطوات عملية هذه المرة، فليس هناك أفضل مما سعت “إسرائيل” لمنعه في السابق، فعلى مدى السنوات الماضية لم تدخر تل أبيب جهدًا للحيلولة دون تزويد دمشق بمنظومة الدفاع الصاروخية “إس 300″، لدرجة أن تل أبيب هددت بتدمير أي نظام دفاع جوي روسي متقدم في سوريا، وجر موسكو إلى حرب مع واشنطن على الأرض السورية، في حال قصفها بمساعدة أمريكية.
لكن يبدو أن حادث إسقاط الطائرة الروسية “إيل 20” فوق الأراضي السورية كان مفتاح الباب الذي ستدخل منه المنظومة الروسية إلى دمشق، وهو ما عبَّر عنه وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو بقوله: “المنظومة يمكن أن تعزز من القدرات القتالية للدفاعات الجوية السورية”.
“عليك أن تتذكر دائمًا الدرس الأول في التاريخ العسكري: لا تعبث مع الروس” يقول أحد قيادات جيش الاحتلال لصحيفة “هآرتس”
ليس هذا فحسب، بل ستترتب على هذه الحادثة إستراتيجية جديدة بين الصديقين الروسي والإسرائيلي، إذ توعد الوزير الروسي بإجراءات أخرى في حال لم تهدء من وصفَها بـ”الرؤوس الحامية”، ومن جراء هذه الإجراءات سيُمنع الطيران الإسرائيلي من التحليق فوق الأراضي السورية مما يشكل عامل قلق إسرائيلي حيال استغلال إيران لأي تهدئة في الجو لنقل الأسلحة إلى سوريا وإلى ذراعها “حرب الله”، وتعزيز قبضتها العسكرية في سوريا.
هذا القلق الإسرائيلي دفع أحد قيادات جيش الاحتلال إلى القول: “عليك أن تتذكر دائمًا الدرس الأول في التاريخ العسكري: لا تعبث مع الروس”، حتى بدت مقولته ذات السمت السينمائي أقرب للنبوءة، نبوءة لم تكن أكثر من انعكاس لأجواء مشتعلة وخطوط ساخنة وأجراس إنذار تدق بلا توقف في الأروقة السياسية والعسكرية بتل أبيب.
الأسد صندوق بريد رسائل موسكو القوية
الأمر لا يتوقف عند منظومة “إس 300” التي تتصدر المشهد، بل قرر الروس تسليم دمشق نظام تحكم آلي للدفاع الجوي فريد من نوعه يضمن الإدارة المركزية لجميع الدفاعات الجوية وتحديد جميع الطائرات الروسية في الأجواء، علامة على تنصيب أجهزة تشويش على عمل الملاحة عبر الأقمار الصناعية ورادارات الطائرات وأنظمة اتصالات الطائرات الحربية في المناطق المحاذية لسوريا بالبحر المتوسط لعرقلة الأنشطة المعادية في المجال السوري.
التصريحات الروسية بدت متناقضة وأظهرت حرصًا على عدم استفزاز “إسرائيل”، إلى درجة أن البعض وصف المشهد بحيرة بوتين بين أن يُغضب الإسرائيليين وأن يحافظ على هيبته
لم تتوقف ردود الفعل منذ إسقاط طائرة الاستطلاع الروسية “إيل 20” في الأجواء السورية فوق البحر المتوسط، فتل أبيب حاولت احتواء غضب موسكو لكنها فشلت، فالروس حسموا موقفهم، ومن وجهة نظرهم، فإن “تصرفات سلاح الجو الإسرائيلي سبب تحطم الطائرة الروسية”، وسبق أن أبلغ الكرملين مسؤولين إسرائيليين وبشكل واضح أن مهاجمة أهداف في سوريا يتعارض مع الأهداف الروسية في المنطقة، التي تتجلى في إنهاء الحرب في هذا البلد لصالح الحليف الأسد.
لكن التصريحات الروسية بدت متناقضة هذه المرة، وأظهرت حرصًا على عدم استفزاز “إسرائيل”، ففي حين يقول المتحدث باسم الرئاسة الروسية: “سلوك الطيارين الإسرائيليين المتعمد الذي تحطمت بسببه الطائرة لا يمكن إلا أن يضر بالعلاقات الروسية الإسرائيلية”، يستبعد نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بجدانوف أن يؤدي إمداد النظام السوري بمنظومة “إس 300” إلى الإساءة لهذه العلاقات، فهي أوسع وأشمل، بحد تعبيره، إلى درجة أن البعض وصف المشهد بحيرة بوتين بين أن يُغضب الإسرائيليين وأن يحافظ على هيبته.
كان حادث الطائرة الروسية مفتاح الباب الذي ستدخل منه المنظومة الصاروخية إلى دمشق
وبين تصعيد موسكو وتمسك تل أبيب، لا يكتمل المشهد دون تصريحات واشنطن التي صدرت عن مستشار أمنها القومي جون بلتون، الذي اعتبر قرار موسكو برمته “تصعيدًا خطيرًا”، ووضع لمسته باتهام إيران بمسؤوليتها عن كل ما حصل، في حين أبلغ نتنياهو بوتين أن تزويد من دعاها “جهات غير مسؤولة” بمثل هذا السلاح سيزيد المخاطر في المنطقة.
وبينما تبحث أمريكا عن سبب لتهدئة هذه الزوبعة التي لا تنقصها المنطقة تستبعد روسيا مواجهة عسكرية مع “إسرائيل” إثر هذا القرار، لكن العارفين بالأمر يعلمون أن بوتين الذي يعيش على أنقاض إمبراطورية يحلم بإحيائها لا يريد الآن سوى رد اعتباره بأي شكل بعد الإهانة التي تعرضت لها قواته على ما يعتبره أرضه وبين جمهوره.
ومع تدحرج كرة الثلج بين الأطراف المتداخلة، ثمة تساؤلات عن أطراف معنية بالرسائل الروسية التي حملت عنوان “إس 300″، فالقتلى اليوم روس، وما يزيد من مرارة روسيا اليوم آلية الإسقاط، فوفق موسكو، أُسقطت “إيليوشن” بدفاعات النظام السوري، وقد تخفت وراء الطائرة الروسية في غاراتها على اللاذقية، وليست تلك طعنة في ظهر الصداقة القديمة فحسب، بل في قلب التفاهمات الثنائية التي رسمت يومًا من أيام 2015 ما يشبه خريطة طرق لطائراتهما في السماء السورية.
قد يكون أمر المنظومة الصاروخية إعادةً لترتيب التوازنات أو توسيع النفوذ الروسي، لكن الأرجح أنه تحذير تستعيد به روسيا هيبتها وترد الخطر عن نفسها بقفازات سورية
وتلك رسالة قوية لتل أبيب، ومرورها لن يكون إلا عبر الأراضي السورية، فالحدود رسمتها روسيا بتوضيح أنها ستسقط أي جسم يقترب من المجال الدولي لقاعدتها في “حميميم” عند الساحل السوري، ولحماية جنودها هناك، رغم أن المنظومة سبقتها شقيقتها الأحدث “إس 400“، ولم تعترض هذه يومًا أسراب الطائرات الإسرائيلية عندما كانت تلوِّن الرادارات الروسية، في طريقها لضرب قوات النظام أو حلفائه الإيرانيين، عشرات المرات.
وهنا تتداخل الأسئلة عن أطوار العلاقة القادمة، فقد تزامن الخبر مع انتشار قوات روسية في 6 نقاط عند المنطقة الفاصلة مع الاحتلال الإسرائيلي في الجولان المحتل، ورغم أنه تطبيق لاتفاق سري مسبق بين بوتين ونتنياهو، كشفته صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية، لكن التوقيت مهم في ظل ضبابية الموقف الروسي.
حصول دمشق على منظومة “إس 300” سيغير قواعد الاشتباك في المنطقة
خيارات الخروج من الورطة.. عن الثمن الذي ستدفعه “إسرائيل”
قد يكون أمر المنظومة الصاروخية إعادةً لترتيب التوازنات أو توسيع النفوذ الروسي، لكن الأرجح أنه تحذير تستعيد به روسيا هيبتها وترد الخطر عن نفسها بقفازات سورية، فلا يكون الأسد إلا ستارًا مع تشكيك الخبراء أن في قواته من يملك دراية بتشغيل المنظومة، أما قطع الأجواء على “إسرائيل”، فذاك ما ستبديه الأيام لمن يجهل.
ويرى محللون أن حصول دمشق على منظومة “إس 300” سيغير قواعد الاشتباك في المنطقة بشكل جذري، فالأجواء السورية كانت مستباحة على مدى سنوات، وللمصادفة؛ وقبل أسبوعين من حادثة الطائرة الروسية، كشفت “إسرائيل” للمرة الأولى وبشكل رسمي، أنها شنت 200 غارة ضد مواقع داخل سوريا، استطاعت بها الطائرات الإسرائيلية ضرب المواقع المستهدفة والعودة إلى مواقعها في الأراضي المحتلة، مستغلةً الفوضى الناتجة عن الحرب السورية، ومحمية تحت غطاء أمريكي وروسي على السواء، ومواجهة في أحيان قليلة ردًا عسكريًا من طائرات الدفاع الجوي التابعة النظام السوري.
ميخائيل ألكسندروف: “إس 300″ في سوريا ستجعل من الصعب للغاية على الولايات المتحدة توجيه ضربة بمساعدة الطيران”
وبينما سعت واشنطن لإلقاء الكرة في ملعب طهران، يكاد يجمع المحللون أن هذه الرسائل تستهدف بالأساس الولايات المتحدة الأمريكية بعد إقدامها على الضربة الثلاثية على سوريا، وبحسب أستاذ العلوم السياسية في مركز الدراسات العسكرية والسياسية بمعهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية ميخائيل ألكسندروف، فإن حظر الطيران الإسرائيلي ليس الشيء الأكثر أهمية؛ فالشيء الرئيسي أن “إس 300” في سوريا ستجعل من الصعب للغاية على الولايات المتحدة توجيه ضربة بمساعدة الطيران“.
وبحسب محلل صحيفة “يديعوت أحرونوت” للشؤون العسكرية، ألكس فيشمان، فإن “إسرائيل” ستكون مجبرة من اليوم فصاعدًا على ملاءمة نشاطاتها في سوريا للمصالح الروسية، مضيفًا أن روسيا تدرك الآن أن بمقدورها كسب إنجازات سياسية ضد “إسرائيل”.
هي كرة الثلج إذًا متى بدأت في التدحرج، لكن ليس في وسع أي متابع القول متى تنتهي رحلتها وأين تمضي، ومع تدحرج الكرة الثلج ثمة تساؤلات عن خيارات التحرك الإسرائيلي للخروج من هذه الورطة، مقابل التحرك الروسي الدبلوماسي المتقن الذي يخوض فيه الروس الآن لعبة “شد الحبل” كمحاولة جديدة لمواجهة تل أبيب التي تجرأت وقصفت طائرتها، وواشنطن التي تجرأت وضربت النظام السوري.