لا يكاد يمرّ يوم أو اثنان دون أنْ تحتكّ بأشخاصٍ أو تقرأ على مواقع التواصل الاجتماعي أو تشاهد “ستوري” على إنستجرام لأشخاصٍ يتحدثون عن “شغفهم” في الحياة ككلّ أو في عملهم على وجه الخصوص، أو في علاقاتهم الحميمية أو في تربية أبنائهم أو في هواياتهم، وغيرها الكثير من الأشياء.
فواحدة من أكثر الأفكار المبتذلة والمنتشرة في عصرنا الحالي هي الافتراض بأننا يجب أن نكون قادرين على العثور على عملٍ أو وظيفة لا نقوم بها لأجل المال وحسب، بل لأجل شغفنا بها وحبّنا لأدائها لما تعود به على صورة ذواتنا “Self-Esteem” بإيجابية ورضىً. وأصبحت الوظيفة الجيّدة أو المقبولة هي تلك التي يمكن من خلالها الوفاء بحاجات الفرد المادية من جهة وتحقيق ذاته من جهةٍ أخرى، فصرنا بحاجةٍ ماسّة ومستمرّة لإرضاء الذات والروح لاهثين وراء المعنى والشغف في كلّ ما نفعله.
معادلة معكوسة
لو عدنا قليلًا إلى الماضي، لوجدنا أنّ مجرد التفكير بالشغف كان يعدّ غريبًا أو ربّما مضحكًا، إذ كان من المستبعد أنْ يتحدث فردٌ ما عن شغفه بعمله في الحقل، أو في دكّان والده، أو تتحدث إحداهنّ عن شغفها بالخياطة والتربية وغيرها من المهام. ولم تكن الكلمة التي وصلت إلينا عن طريق تداولنا للإنجليزية وانفتاحنا عليها، مستخدمة بكثرة قبل القرن السابع عشر، حيث تطورت إلى أكثر استخداماتها شيوعًا “Passion”، أي الرغبة الشديدة بشيءٍ ما والحماس له.
فالمعادلة في الماضي كانت إما أنْ يتبع الفرد موهبتك وهواه دون أن يتوقع كسب المال من جهوده، أو أنْ يعمل من أجل المال دون أنْ يفكّر كثيرًا فيما إذا كان فعلًا يستمتع بعمله بالفعل. لكن وفي نقطةٍ معيّنة من التاريخ، تحديدًا في منتصف القرن السابع عشر، ظهرت أيديولوجية جديدة وخطاب معيّن ينادي بضرورة الجمع بين الاثنين: المال والتحقيق الذاتيّ للشغف والسعي وراءه.
أصبحت العلاقة بين “الشغف” و”السعي” معكوسةً تمامًا في العقل الجمعيّ للأجيال المعاصرة، فيعتقد الكثيرون أنّ سعيهم لما يحبّون يأتي بعد إيجادهم للشغف فيه، غير أنّ الواقع يخبرنا أنّ التحرّك والسعي هما ما يقودان للشغف وليس العكس
إذن فالمعادلة الحالية هي كالآتي: ابحث عن شغفك وما إنْ وجدته اذهب للعثور على وظيفةٍ تتطابق معه. ولا تكاد تسمع لممثل أو مغنٍ أو رجل أعمال أو كاتبٍ ناجح إلا وينصحك هذه النصيحة: “اتبع شغفك”. فهل حقًا هذه المعادلة هيَ ما يسيّرنا؟
الشغف أولًا أم الدافع؟
لأسباب كثيرة، أصبحت العلاقة بين “الشغف” و”السعي” معكوسةً تمامًا في العقل الجمعيّ للأجيال المعاصرة، فيعتقد الكثيرون أنّ سعيهم لما يحبّون يأتي بعد إيجادهم للشغف فيه، غير أنّ الواقع يخبرنا أنّ التحرّك والسعي هما ما يقودان للشغف وليس العكس. وبكلماتٍ أخرى، فالشغف لا يأتي من لا شيء، بل يُذهب إليه ويتمّ العمل على اكتشافه في كافة المجالات والجوانب.
يخبرنا علم النفس، بعيدًا عن كليشيهات التنمية البشرية وعلم النفس الشعبيّ، أنّ الفرد يحتاج دافعًا “drive” ليبدأ بالعمل، ثمّ يحتاج ليزيد من قدر ذلك الدافع ليزيد من العمل، وهكذا. فكلّ إنجاز يمكن تحقيقه يؤدي إلى تحقيق دافعٍ أو حافزٍ أكبر، فإما أنْ يصل الفرد إلى مرحلة تحقيق الذات وإشباعها “self-actualization” أو مرحلة الملل وعدم القدرة على المتابعة نتيجة عدم القدرة على تجديد الدافع، وهنا قد يبدأ بالبحث عن مجالٍ آخر أو طريقةٍ مغايرة يستطيع من خلالها خلق الدافع.
الاكتئاب وانعدام الرضا
معظم الأشخاص يخلطون كثيرًا في حديثهم ما بين الدافع والشغف، لذلك كثير منهم يُصابون بالاكتئاب عندما يفقدون دافعهم للقيام بالكثير من الأمور ظنًا منهم أنّ الأشخاص الناجحين من حولهم يمتلكون “الشغف” بينما يفتقدونه هم، الأمر الذي رسّخته وعزّزته مواقع التواصل الاجتماعي التي تعمل على ترسيخ المقارنة السلبية بين الأشخاص.
كما يرجع الأمر أيضًا إلى تبنّي شريحة واسعة من المشاهير، فنّانين كانوا أو رجال أعمال، لخطاب الشغف الذي يسيطر على كافة حياتهم وأعمالهم، متجنّبين ومتجاوزين للجوانب المهمّة التي تشكّل دوافع لهم مثل المال والشهرة والسيطرة والتنافس وغيرها الكثير. بالنهاية، فالمغنّي لن يقول في مقابلته الصحفية أنه يغني لأجل المال، بل سيقول أنه يفعل ذلك لأجل “شغفه”.
نظرًا لأننا وضعنا أهميةً أكبر ومركزيةً أضخم على فرضية الشغف، فقد أصبحنا أقل اهتمامًا بما نفعله وما نشعر به، وبالتالي أكثر تعاسة أو أقلّ رضًا، سواء على مستوى العمل أو على مستوى العلاقات
وبالرغم من وجود العديد من الأسباب التي يمكن أنْ تفسّر انعدام الرضا عن الذات والعمل والحياة التي ترجع لعوامل كثيرة، إلا أنّ فكرة “انعدام الشغف” تلعب دورًا كبيرًا في ذلك. فأنتَ تفسّر عدم رضاك عن وظيفتك لغياب شغفك فيها، وأنّ مللك من علاقتك مع حبيبتك هو نتيجة غياب شغفك فيها وفي العلاقة نفسها. لكن هل تساءلتَ يومًا عن مصدر هذه الأفكار المزروعة في عقلك بخصوص ما تسمّيه “شغفك”؟
أستاذ الكمبيوتر والكاتب “كال نيوبورت” في حديثه عن وهم اتّباع الشغف
وبعبارة أخرى، نظرًا لأننا وضعنا أهميةً أكبر ومركزيةً أضخم على فرضية الشغف، فقد أصبحنا أقل اهتمامًا بما نفعله وما نشعر به، وبالتالي أكثر تعاسة أو أقلّ رضًا، سواء على مستوى العمل أو على مستوى العلاقات. يعيد”كال نيوبورت“، أستاذ الكمبيوتر في جامعة جورجتاون، تعريف معادلة الشغف هذه كالآتي: كلما زاد تركيزك على العثور على العمل الذي تحبه وتجد شغفك فيه، ستصبح أكثر تعاسة في كلّ دقيقةٍ لا تحبّها في العمل الحالي الذي تقوم به. كما يرى نيوبورت أنّ الشغف ليس بالشعور الموجود الذي يتمّ اكتشافه وإنما تتم زراعته بجهدٍ ويحتاج للتخطيط والتطوير والاستفادة من التجارب.
يرى نيوبورت أنّ نصيحة “اتبع شغفك” تعدّ من أسوأ النصائح التي يمكن لها أنْ توجّه لمن هم في حيرةٍ من أمرهم في تحديد خياراتهم في الحياة، ويرجع الأمر لكون هذه النصيحة تفترض أنه يوجد للشخص شغف مسبق يمكن الرجوع إليه لاتخاذ القرار، لكنّ الحقيقة أنّ معظم الناس لا تعرف ماذا تريد ومن الممكن دائمًا أن ينتهي الأمر بالتيه وعدم تحقيق إنجاز ملموس.
كثيرًا ما ينصح نيوبورت إذن بزراعة الشغف الذي يمكن أن يوجد في العديد من المجالات المختلفة. لذلك فهو يرى أنه من غير المنطقي أنْ يقول أحدنا “لا أعرف ما هو شغفي”، أو أن يربط فكرة السعادة بفكرة إيجاد الشغف ومتابعته. وبالنهاية، فمطارة الشغف لن تحصّل السعادة المأمولة والرضا عن الذات اللذين سيبقيان هواجس مقلقة وهمومًا يومية لا تنتهي، لا سيّما في هذا العصر المحكوم بالبحث عن السعادة وتحصيل المتعة الآنية.