منذ بداية حرب الإبادة التي تشنها “إسرائيل” على قطاع غزة وتتم هذه الأيام عامها الأول، كانت سوريا ساحة لضرب أهداف مرتبطة بإيران في سوريا، مواقع وقيادات، رغم انكفاء من دمشق عما يجري في هذه الساحة.
وشمل النشاط الجوي الإسرائيلي في سوريا بين أكتوبر/تشرين الأول الماضي وسيتمبر/أيلول الحالي، أنحاء الخريطة كافة، من دير الزور والحدود السورية شرقًا إلى الساحل السوري غربًا، ومن حلب شمالًا إلى أقصى مناطق القنيطرة نحو الجنوب الغربي، وصولًا للعملية التي تُعد تطورًا ملحوظًا في سياق القصف الإسرائيلي، في منطقة مصياف بريف حماة وسط البلاد، التي تخلّلها إنزال جوي للكوماندوز الإسرائيلي في مركز البحوث العلمية.
وعلى الرغم من أن بشار الأسد قدم تنازلات وُصفت بـ”التاريخية” لتل أبيب، من حيث منع أذرع إيران من استخدام الجنوب السوري كإحدى ساحات المواجهة، بناءً على ما تحدثت به وسائل إعلام عبرية قبل شهور، وتنحيه تمامًا عن المشهد في وقت يدمر فيه المحور الذي ينتمي إليه وقد دعمه في حربه ضد شعبه طوال أكثر من عقد، فإن “إسرائيل” لم تكتفِ بهذا على ما يبدو.
وخلال العام المنصرم، نفذت قوات من الجيش الإسرائيلي عدة توغلات برية في عمق الأراضي السورية من جهة محافظة القنيطرة، آخرها في 21 من سبتمبر/أيلول الحالي، إذ دخلت قوة من الجيش الإسرائيلي رفقة جرافات ودبابات ومعدات حفر، بعمق نحو 200 متر، غرب بلدة جباتا الخشب الحدودية بريف القنيطرة.
منطقة إسرائيلية عازلة
وأفادت وسائل إعلام سورية بأن التوغل لم يشمل أي مواجهات أو اشتباكات في المنطقة التي يعد دخولها محرّمًا على قوات نظام الأسد – وبطبيعة الحال على القوات الإسرائيلية كما يُفترض – كونها جزءًا من خط “فض الاشتباك” الموقع بين الجانبين.
في 31 مايو/أيار 1974، جرى التوصل لاتفاق بين الجانبين الإسرائيلي والسوري، تحت إشراف الأمم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي – آنذاك – يقضي بإنشاء خط لفك الاشتباك بين دمشق وتل أبيب، عُرف لاحقًا باسم “يوندوف”، كتطبيق لقرار صدر عن مجلس الأمن الدولي حمل الرقم 350.
ويقع خط “يوندوف” في محيط بلدة جباتا الخشب بالقنيطرة، وتقع الأراضي السورية شرقه، وغربه “إسرائيل”، وبقي اتفاق فك الاشتباك ساريًا دون أي خروقات خلال أكثر من 40 عامًا، وكان السوريون يتندّرون بأن خط يوندوف هو من أكثر خطوط التماس هدوءًا في العالم بين الدول الأعداء!
الجرافات الإسرائيلية تجرف أراضٍ سورية في الجولان المحتل بحماية الجيس الإسرائيلي، ديسمبر 2022
ومع بدء انتشار الميليشيات الإيرانية في الجنوب الغربي من سوريا، منذ العام 2017، صرحت الحكومة الإسرائيلية مرارًا بأنها لن تسمح بأن تصبح سوريا “قاعدة متقدمة” تستخدمها إيران لمهاجمة الأراضي الإسرائيلية، ومنذ ذلك الحين، هاجم الجيش الإسرائيلي، عدة مرات، منصات إطلاق صواريخ وتمركزات للأذرع الإيرانية، ردًا على إطلاق طائرات مسيّرة باتجاه الجولان المحتل، دون الإعلان عن ذلك رسميًا، مع صمت رسمي من نظام الأسد تجاه هذه التحركات.
ومنذ العام 2022، استعاضت “إسرائيل” عن الهجمات النارية بتوغلات برية متقطعة ومؤقتة، وتشمل عمليات حفر وتجريف ورفع سواتر ترابية، لإنشاء ما أطلق عليه اسم “مشروع طريق سوفا 53“، وارتفعت وتيرة التوغلات بشكل ملحوظ بعد الحرب في غزة، مع تجدد نشاط مجموعات محلية موالية لإيران في استهداف المنطقة الحدودية بالطائرات المسيّرة.
ونقل موقع “عنب بلدي” السوري، عن مراسله في منطقة القنيطرة، أن الجيش الإسرائيلي – وفقًا لهذا المشروع – نفذ عدة عمليات توغل داخل الأراضي السورية، تراوحت بين 100 متر وكيلومتر واحد، لشق الطريق، موضحًا أن الجرافات العسكرية الإسرائيلية جرفت بعض الأراضي الزراعية لأهالي القرى الحدودية كبلدتي جباتا الخشب والحرية بريف القنيطرة الشمالي، كما عملت وحدات الجيش الإسرائيلي على منع اقتراب المزارعين من المنطقة خلال عمل الآليات، إذ تطلق النار بشكل يومي لإبعاد المزارعين والرعاة عن المنطقة.
تفاهم روسي إسرائيلي “غير مُعلن”
ولم تَرِد في المصادر العبرية معلومات كثيرة عن اسم المشروع، الذي نقل موقع “عنب بلدي” صورة للافتة أرّخها بتاريخ 8 يناير/كانون الثاني 2022، وقال إنّ القوات الإسرائيلية ثبتتها داخل الأراضي السورية بالقرب من الحدود الواصلة معها، وتحتوي اللافتة على عبارة “طريق سوفا 53 منطقة محظورة”.
وبعد عامين، وتحديدًا في يناير/كانون الثاني 2024، أعلنت وزارة الدفاع الروسية، إنشاء نقطتين عسكريتين إضافيتين لمراقبة وقف إطلاق النار بمحافظة القنيطرة، وذلك في ظل تصاعد التوترات وعمليات خرق اتفاق “فض الاشتباك” في حدود الجولان، بالتوازي مع هجمات شنتها المجموعات الموالية لإيران في إطار الحرب في غزة.
وارتفع عدد نقاط المراقبة الروسية في حدود الجولان إلى 12، تتركّز في قرى وبلدات القحطانية، وبئر عجم، وبريقة، وكودنا، والملعقة، والرفيد، وغدير البستان، غرب محافظة القنيطرة.
ويثير وجود نقاط المراقبة الروسية أسئلة واسعة عن إمكانية وجود تفاهم “غير معلن” بين موسكو وتل أبيب، إزاء عمليات التوغل الإسرائيلية في القنيطرة وإنشاء الممر العسكري “سوفا 53″، إذ لا يمكن أن تكون التحركات الإسرائيلية بمعزل عن ضوء أخضر سري، منحته روسيا للجانب الإسرائيلي في تلك المنطقة، وهذا ما يفسر أيضًا صمت نظام الأسد إزاء هذه الخروقات.
ويبدو إصرار الجانب الإسرائيلي على تنفيذ مشروع الممر البري في القنيطرة، ذا جانبين اثنين، يتعلق الأول بإنشاء منطقة عازلة بعيدًا عن القوات الأممية وبجهود إسرائيلية خالصة، بغرض إبعاد أي خطر حالي أو مستقبلي لأذرع إيران القريبة من الجولان، وهو ما يفترض أن نظام الأسد أعطى فيه ضوءًا أخضر غير معلن، لحماية نفسه من التهديدات الإسرائيلية.
ما علاقة جبهة لبنان؟
أما الجانب الثاني فيتعلق بشكل مباشر بما يدور غرب الحدود، في الجبهة اللبنانية المجاورة، وتحديدًا بمحاولة تل أبيب تعطيل قدرات حزب الله في الجنوب اللبناني وفصل هذه الجبهة عن جبهة غزة، بغرض إعادة مئات الآلاف من مستوطني الشمال إلى ديارهم.
إذ يتزامن الحراك الإسرائيلي المتصاعد في إنشاء ممر “سوفا 53” مع تصريحات إسرائيلية متكررة بالاستعداد لتنفيذ توغل بري في لبنان، في حالة عدم قبول حزب الله بشروط نتنياهو القاضية بوجود منطقة عازلة بمسافة 7 كيلومترات عن الحدود الشمالية لفلسطين المحتلة، ومن نافلة القول إن وجود خط عسكري في الجانب السوري، سيمنع إيران – في حال أرادت التدخل – من إرسال أي إمدادات لحزب الله.
ويؤكد ذلك تقرير لصحيفة “الأخبار” اللبنانية، صدر بتاريخ 11 سبتمبر/أيلول، نقل فيه تسريبات عن خطة إسرائيلية تقضي بأن الجيش الإسرائيلي قد يضطر في بداية أي عملية عسكرية إلى قطع الطريق على أي إمداد بري يحتاج إليه حزب الله، سواء من سوريا أم من العراق، وقطع التواصل بين البقاع والجنوب، وأنه لتحقيق ذلك، يخطط لعملية عسكرية برية يدخل من خلالها إلى مناطق الجنوب والجنوب الغربي لسوريا، ويتقدم شرقًا باتجاه عمق لبنان بغية قطع الطريق بين البقاع والجنوب.
وإلى هذه الفرضية نفسها، يذهب المحلل العسكري السوري زكريا ملاحفجي، فالنشاطات البرية الإسرائيلية في القنيطرة تأتي بغرض دعم الحشود الإسرائيلية في الجبهة الشمالية، من أجل فتح حقول الألغام أمام تقدم الدبابات وعربات المشاة للفرقة 210 والفرقة 37 الإسرائيلية، للالتفاف حول جبل الشيخ وتجنب كمائن حزب الله بالجنوب.
ويوضح ملاحفجي لموقع “نون بوست” أن سيناريو الاجتياح البري يفرض على “إسرائيل” الالتفاف حول جبل الشيخ من حضر إلى حرفا ثم بيت جن إلى قرية أمبيا ثم باتجاه شبعا اللبنانية، لافتًا إلى أن نظام الأسد يتجنب أي تدخل لمنع الممر البري في سوريا، بل إنه يتجنب إصدار أي تضامن بالقول مع حزب الله، لأنه يخشى عاقبة التدخل بأي شكل قد يهدد وجوده كليًا، والدليل على ذلك عدم إبداء أي رد فعل على الإنزال الجوي في مصياف.
ويضيف أن وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، عندما زار بشار الأسد في دمشق منتصف سبتمبر/أيلول الماضي، أبلغه بوجود تصعيد إسرائيلي قادم ضد حزب الله والمليشيات الإيرانية، وأبلغه كذلك بضرورة اتخاذ “موقف حيادي جدًا”، وإلا فإنه سيتعرض لاستهداف مباشر.