قد يكون اللافت الوحيد للنظر فيما يتعلق بحكومة النظام السوري التي باشرت مهامها الرسمية للتو، هو تعيين وزير خارجية جديد بدلًا من فيصل المقداد، الذي سُمي نائب للرئيس، في خطوة مفاجأة، قال البعض إن سببها معاناة المقداد من مرض مزمن.
مما اشتهر به رئيس النظام الراحل حافظ الأسد، أنه لم يكن مسموحًا مراجعته بأي قرار يتخذه، سواء كان شفهيًا أم مكتوبًا، وهو ما انعكس سلبًا على الكثير من الملفات والقضايا الداخلية والخارجية، إلا أن أكثر من دفع ثمن ذلك هم المعتقلون السياسيون بين عامي 1970 و2000، حيث أفنى الكثيرون أعمارهم في السجون دون أن يجرؤ أحد على مراجعة قضاياهم، فقط لأن “مكتب الرئيس” طلب اعتقالهم إلى حين البت بأمرهم.
عندما أخرج الشرع المقداد من الأدراج
لكن فيصل المقداد، الذين عين نائب لرئيس النظام بشار الأسد، مع التغييرات الوزارية الأخيرة، ليخلفه بمنصب وزير الخارجية نائبه بسام الصباغ، كاد أن يدفع ثمن “تعليمات الرئيس” لولا أن أنقذ فاروق الشرع مسيرته المهنية في السلك الدبلوماسي السوري، ليرد له المقداد الجميل لاحقًا، لكن بأسوأ ما يكون.
يكشف مصدر مطلع لـ”نون بوست” أن نائب الرئيس الجديد بذل جهدًا جبارًا خلال دراسته بالتشيك في ثمانينيات القرن الماضي، ومن ثم تمثيله لمنظمة اتحاد طلبة سوريا التابعة لحزب البعث في أوروبا الشرقية، من أجل تبرير رواية النظام عن الصراع بينه وبين الإخوان المسلمين، إلى حد أعجب بالتقارير الواردة عنه حافظ الأسد، فأعطى توجيهاته بألا يعود إلى سوريا، وأن يبقى هناك ويواصل هذه المهمة.
لكن هذا الأمر كاد أن يقضي على طموحات ومستقبل المقداد بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وانفراط عقد مجموعة الدول الاشتراكية في أوروبا، ليجد نفسه أسير مكتب اتحاد الطلبة وفعالياته الباهتة التي عفى عليها الزمن، قبل أن يلجأ إلى فاروق الشرع، وزير الخارجية عام 1996، مستغلًا رابط قرابة بعيد بينهما.
يضيف المصدر أن الشرع وعند أول لقاء له بالأسد الأب، طرح اسم المقداد، ليضحك رئيسه ويتساءل “طالما أن الاتحاد السوفيتي سقط فما الذي يبقيه هناك؟” ثم سمح بوضعه تحت تصرف الخارجية، ليتم تعيينه على الفور عضوًا في البعثة السورية لدى الأمم المتحدة، قبل أن يصبح رئيسًا لها عام 2003 حتى تاريخ تعيينه نائبًا لوزير الخارجية عام 2006، تاريخ تسلم وليد المعلم الوزارة.
المقداد المولود في بلدة غصم بريف درعا عام 1954، يحمل شهادة الدكتوراة في الأدب الانكليزي من جامعة براغ، تسلم منصب وزير الخارجية عام 2020 لدى وفاة وليد المعلم.
خلال السنوات الأربعة الماضية، لم تُسجل بصمة مهمة له، إلا إذا احتسبت موجة التطبيع التي هبت باتجاه النظام منذ عامين، في رصيد الدبلوماسية السورية، وهو ما لا تقره المعطيات التي تؤكد أن هذه الموجة كانت بقرار خارجي وليست ثمرة جهود النظام.
لكن مما يؤثر عنه قبل ذلك، واُعتبر بمثابة أوراق اعتماد قدمها ليحظى بمنصب الوزير، حدثان: الأول رفضه إدارج قضية اغتيال الصحفي اللبناني الراحل جبران تويني في ملف المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، التي شُكلت بعد مقتل رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، حيث ينقل الكثيرون عنه القول “مو كل ما انقتل كلب بدنا نعمل تحقيق”.
أما الثاني فهو تهجمه العلني على معلمه وولي نعمته في السلك الدبلوماسي السوري فاروق الشرع عام 2011.
فبعد المقابلة الشهيرة للأخير مع جريدة “الأخبار” اللبنانية المقربة من حزب الله في ذلك العام، التي أظهر فيها الشرع تأييده لحوار جدي مع المعارضة والثوار المنتفضين في الساحات السورية، ودعوته للصلح والبدء بصفحة جديدة، واعتبار كل من قتل حتى ذلك الحين شهيدًا سوريًا، هاجم فيصل المقداد وبثينة شعبان الشرع بسبب هذه التصريحات بشكل علني، وبينما دفع نائب الرئيس ثمن موقفه التهميش والتغييب، جنى الأخيران ثمار التهجم عليه وتأييد التعاطي الأمني والعسكري مع الثورة ترقيات عديدة.
البعثي الإيراني
لكن لقاء فيصل مقداد مع وزير الخارجية الإيراني قبل ساعات من تعيينه وزير خارجية عام 2020، عقب وفاة وليد المعلم، هي العلامة الأكثر بروزًا في مسيرته، حيث رأى الكثير من المراقبين حينها أن اللقاء كان بمثابة مقابلة عمل، بينما اعتبره آخرون لقاءً توجيهيًا، لكن يكاد يكون هناك إجماع على أنه لولا موافقة إيران على تعيينه بهذا المنصب لم يكن ليحظى به.
يقول الكاتب السوري المتخصص بالشأن الإيراني عمار جلو: “اختيار المقداد كوزير للخارجية كان برغبة إيرانية، لكن نقله إلى المنصب الجديد يستحق البحث والتدقيق”.
ويضيف في تصريحات لـ”نون بوست”: “بالطبع المقداد هو أحد رجال إيران في النظام، ورغم وضعه في منصب نائب الرئيس فإن تكليفه بالإشراف على السياسة الخارجية والإعلامية، كما ورد في نص المرسوم، يؤكد أن الهدف إبقاؤه في مطبخ الدبلوماسية حتى إن لم يكن هو صاحب القرار، لأن بشار الأسد لا يستطيع إزعاج طهران باختيار وزير بديل غير مقرب منها، وكف يد الوزير السابق التابع لها، هكذا مرة واحدة.
لكن كيف أصبح هذا البعثي العقائدي الذي آمن بشعارات “الأمة العربية الواحدة” و”الوطن الواحد من الخليج إلى المحيط” إيراني الهوى بهذا الشكل؟!
سؤال يجيب عليه بسام بربندي، وهو دبلوماسي سوري سابق بالقول: “كما وقف سيده حافظ الأسد مع إيران في حربها ضد العراق، وكما ارتبط معلمه الآخر بشار الأسد ارتباطًا عضويًا بنظام الملالي في طهران”.
بربندي أشار خلال حديثه مع “نون بوست” إلى أن نظام الأسد “ومنذ تأسيسه، انتهج الطائفية ووضع يده بيد إيران، سواء في عهد الشاه أم بعهد الثورة الخمينية، وعمل بكل جهده على أن يصبغ النظام بهذا الطابع، لذلك قرب كل من تماهى مع هذا النهج، واستبعد أو همش كل من لم يستسلم لذلك”.
بسام الصباغ.. دون علامات
الوزير الجديد الذي عين خلفًا للمقداد هو بسام الصباغ، حلبي من أصول كردية لم تعد تظهر على الدبلوماسي البعثي، الذي افتتح طريقه هو الآخر من خلال اتحاد الطلبة، ليصل في النهاية إلى منصب لم يكن يتصور أحد قبل سنوات أنه سيحظى به في أي يوم.
لكن الصباغ استفاد بشكل كبير جدًا من علاقته الخاصة جدًا بوزير الخارجية الأسبق وليد المعلم، عندما كان الأخير سفيرًا لسوريا في واشنطن، فاحتضنه ومهد له الطريق ليصبح اليوم رجل الدبلوماسية الأول في النظام.
توجد الكثير من الأقاويل والشائعات عن طبيعة هذه العلاقة بين الصباغ والمعلم، إلا أنه ومهما كانت طبيعة هذه العلاقة، فالمؤكد أن وزير الخارجية الجديد جنى ثمارها أخيرًا في نظام لا يمكن الوصول فيه إلى أي منصب دون ثمن.
وتعليقًا على تعيينه في هذا المنصب يقول بربندي: “الميزة الوحيدة التي يمتلكها الصباغ وتؤهله لمنصب وزير الخارجية في هذا التوقيت هي سجله الخالي من أي مواقف أو تصريحات عدائية تجاه الدول العربية أو الغرب، على عكس سلفه المقداد، الذي لم يترك دولة أو حكومة عربية أو أوربية إلا هاجمها وأساء للمسؤولين فيها، بل حتى تركيا التي تسعى للتطبيع مع دمشق حاليًا، كانت تصريحاته ضدها مستفزة باستمرار، وآخر ما سجل على هذا الصعيد هو مغادرته قاعة الجامعة العربية مع بدء وزير الخارجية التركي كلمته في الاجتماع الذي خصص لمناقشة الوضع في غزة قبل أيام فقط”.
ولذلك، يتابع بربندي “فإن النظام على الأغلب يريد توظيف هذا السجل في خدمة مشروع إعادة تعويمه الذي يجري على قدم وساق، عربيًا وأوروبيًا وتركيًا أيضًا، ناهيك عن أن الصباغ أشد انقيادًا من كل من سبق إلى هذا الموقع في عهدي الأسدين الابن والأب.
عندما توفي وزير الخارجية الأسبق وليد المعلم عام 2020 اعتبر الكثيرون أن النظام السوري فقد أحد آخر أركانه التي يمكن أن يعتد بها في الحقل الدبلوماسي. لكن الرياح الإقليمية والدولية التي كانت مواتية له ساعدت وبقوة أشرعة فيصل المقداد، الذي يتفق الجميع تقريبًا على عدم امتلاكه أي مهارات حقيقة، أقله بالمقارنة مع سلفيه، المعلم والشرع، ليسجل أن سوريا عادت على زمنه لجامعة الدول العربية، الأمر الذي يجعل الطريق معبدًا، من الناحية النظرية، أمام خليفته بسام الصباغ، ليضيف إنجازات جديدة لخارجية النظام، فهل ستسمح بذلك الظروف الإقليمية الملتهبة، أم أن الحرب ستطيح بكل الترتيبات التي تكاتف عرب التطبيع مع روسيا والصين، برضى غربي واضح لإنجازها، وتطيح معها بالنظام ؟