عاد موضوع المدارس الأجنبية إلى الواجهة في تركيا مؤخرًا، بعد إعلان وزارة التعليم التركية، تعليق انتساب الطلاب الأتراك في عدد من المدارس الأجنبية بإسطنبول لمخالفتهم اللوائح الأساسية، وتصاعد الخلاف تحديدًا حول مدرستين فرنسيتين، وهو ما يعيد إلى الأذهان صراع الثقافة والهوية بين فرنسا وتركيا.
تاريخيًّا، لم تكن المدارس الأجنبية، التي توسعت لتلبية احتياجات الجاليات الغربية العاملين في الدولة العثمانية، مجرد مؤسسات تعليمية، إذ عملت بشكل مكثف جنبًا إلى جنب مع النشاط التبشيري الذي لم يكن يهدف إلى نشر المسيحية في المناطق التي تركزت فيها مصالح الدول الغربية، فحسب. كما تزامن توسعها مع الانتشار الواسع للصحف والمجلات الأجنبية في عموم أراضي السلطنة.
المدارس الأجنبية في تركيا: البدايات زمن الدول العثمانية
ظهرت المدارس الأجنبية في تركيا بالتوازي مع منح الحقوق الدينية للأقليات غير المسلمة، وكانت جزءًا من الحرية الدينية لهذه الأقليات، لذا نرى أنها افتتحت ابتداءً حول أماكن العبادة من أجل تعليم الأقليات أمورهم الدينية الخاصة وتدريبهم ليصبحوا رجال دين.
وبفضل الامتيازات التي منحتها الدولة العثمانية إثر توقيع اتفاقية الصداقة مع فرنسا في عهد سليمان القانوني 1535، تمكن الكاثوليك اللاتينيون في إسطنبول من استقدام كهنة لتعليم أبنائهم، حيث وصلت أول بعثة عام 1583، واستقرت في دير سانت بينوا، وافتتحت أول مدرسة أجنبية في الأراضي العثمانية، ولم يقتصر التعليم فيها على التعليم الديني، حيث درست موادًا متنوعة مثل الرياضيات والفرنسية واللاتينية واليونانية إلى جانب الفنون.
ثم ازدادت أعداد هذه المدارس مع تعمق العلاقات بين الدولة العثمانية وأوروبا، ليبلغ عدد المدارس الكاثوليكية 40 مدرسة بحلول عام 1839، فلم يكن هناك قانون ينظم عمل المدارس الأجنبية في الإمبراطورية العثمانية، حتى إصدار لائحة التعليم العامة لعام 1869.
إلا أن هذه المدارس تجاوزت هدف إنشائها مع ضعف الدولة العثمانية اقتصاديًا وسياسيًا، وبدأت في نشر أنشطتها التبشيرية وكان له دورٌ في إثارة القلائل العرقية والدينية، كما كانت أداة ضغط خارجي أسهم -إلى جانب أسباب عديدة أخرى- في تفكيك البنية السياسية والاجتماعية للمجتمع العثماني، ويمكن القول إن هذه المدارس تحولت إلى مشكلة في فترة ما يعرف بـ”التنظيمات” في عهد السلطان عبد الحميد.
وفترة التنظيمات تبدأ من عهد السلطان عبد المجيد الأول وتعرف بالمشروطية في عهد السلطان عبد الحميد، وفيها حاول السلاطين تحديث الإمبراطورية بما يتماشى مع ميزان القوى العالمي الجديد والأفكار الحديثة للدولة والمواطنة، وشملت جوانب واسعة منها ما يتعلق بشؤون الحكم وإدارة الدولة والتعليم وحقوق الأقليات، وبعض هذه التحديثات كان بضغط من الاتفاقيات التي وقعتها الإمبراطورية العثمانية بعد هزيمتها على جبهات متعددة، أي كانت محاولة لمنع تفكيك الدولة وسقوطها.
وبالاطلاع على التقارير الورادة في عهد السلطان عبد الحميد حول وضع التعليم الأجنبي والمدارس العامة نجد بوضوح أن المدارس الأجنبية والأقليات أصبحت مشكلة، فضلًا عن عدم وجود الضوابط القانونية والدراسات اللازمة في مجال التعليم فيما يتعلق بشروط إنشائها والإشراف عليها.
ورغم أن هذه القضية أخذت على محمل الجد في عهد عبد الحميد، فإن الإهمال في الفترة السابقة جعل حل المشكلة أكثر صعوبة، بالإضافة إلى الضغوط السياسية الخارجية، والصعوبات المالية والإدارية الداخلية، ووجود ضعف في البنية التحتية للمؤسسات التعليمية للدولة، من المباني المدرسية إلى تدريب المعلمين، قد حال دون تحقيق أو حتى الشروع في الاقتراحات المطروحة للحل.
التعليم الأجنبي في عهد أتاتورك (1923-1938)
كان موقف مصطفى كمال أتاتورك حازمًا تجاه المدارس الأجنبية منذ البداية، فألغى الامتيازات الممنوحة سابقًا بشكل كامل، واشترط لاستمرار المدارس غير الإسلامية خضوعها لقوانين وأنظمة المدارس التركية، واعترفت تركيا بموجب الرسائل المتبادلة في معاهدة لوزان فقط بالمؤسسات الدينية والتعليمية والصحية والخيرية التابعة لفرنسا وإيطاليا وبريطانيا، والموجودة قبل 30 أكتوبر/تشرين الأول 1914.
يجب التفريق بين المدارس الأجنبية والمدارس الدولية الموجودة في تركيا، إذ تقدم المدارس الدولية مناهج تعليمية عالمية وهي مخصصة لأبناء الدبلوماسيين والأجانب، أما المدارس الأجنبية فتُديرها كيانات أجنبية أو سفارات وتتبع لها وتعمل وفق تشريعات البلد المؤسس
وفي إطار سعيها لعلمنة التعليم منذ عام 1924، ألزمت الحكومة التركية المدارس الأجنبية والمحلية بالتوافق مع مبادئ التعليم الحديث، حيث أصبحت جميع المدارس تحت إشراف وزارة التربية الوطنية، ورغم المقاومة من بعض المدارس الأجنبية، فقد أصدرت الحكومة تعاميم لمنع الرموز الدينية، وفرضت دروس تعليم اللغة التركية في المدارس الأجنبية بصرامة، مع مراقبة أداء المعلمين. وكانت الحكومة جادة في مضيها في السيطرة على قطاع التعليم، ومن اللافت أنها في عام 1928 أغلقت المدرسة الأمريكية في بورصة بسبب تحول اثنين من طلابها المسلمين إلى المسيحية.
المدارس الدولية وإشكالية انتساب الطلاب الأتراك
لا بد من التفريق بين المدارس الأجنبية والمدارس الدولية الموجودة في تركيا، إذ تقدم المدارس الدولية مناهج تعليمية عالمية وهي مخصصة لأبناء الدبلوماسيين والأجانب، وليست ملزمة بتدريس المناهج الوطنية التركية، إلا أن وزارة التعليم تشجع تعليم اللغة التركية فيها كجزء من المنهاج لتعزيز اندماج الطلاب في البيئة الاجتماعية، كما أنها لا تخضع لمراقبة صارمة من الحكومة، فلا يُسمح للطلاب الأتراك بالتسجيل فيها، إلا وفق استثناءات نادرة مثل أن يكون الطالب قد عاش فترة طويلة في الخارج أو إذا كان أحد الوالدين يحمل جنسية مزدوجة أو يعمل في السفارات.
أما المدارس الأجنبية فتُديرها كيانات أجنبية أو سفارات وتتبع لها وتعمل وفق تشريعات البلد المؤسس، لذا فهي تخضع لرقابة شديدة من وزارة التعليم التركية، ويتم تفتيشها بانتظام للتأكد من أنها تفي باللوائح والمتطلبات التي حددتها وزارة التعليم الوطني، وذلك نظرًا للسماح للطلاب الأتراك بالالتحاق بها بعد الحصول على موافقة وزارة التعليم، كما يجب على هذه المدارس تقديم مواد إلزامية مثل اللغة التركية والتاريخ التركي والجغرافيا التركية للطلاب الأتراك، لضمان ارتباط الطلاب بالهوية والثقافة التركية.
وقبل أشهر قليلة من بدء العام الدراسي 2024- 2025 في تركيا، قال وزير التعليم يوسف تكين: “هناك عدد من المدارس الأجنبية لا تلتزم باللوائح التي حددتها الوزارة وهي شرط لاستمرار دراسة الطلاب الأتراك فيها، ورغم أن من بينها مدارس ألمانية وباكستانية، فإن الجدل تصاعد حول مدرستين فرنسيتين تحديدًا هما: شارل ديغول وبيير لوتي”، وأضاف “افتتحت هذه المدارس من أجل أبناء موظفي البعثات الدبلوماسية، غير أنها بدأت تستقبل تلامذة أتراكًا أيضًا وهذا يخالف القانون”، مشيرًا إلى أنهم طلبوا من السفير الفرنسي العمل على حل هذه المدارس أكثر من مرة، لكن الفرنسيين كانوا يماطلون.
وأشار البيان الصحفي الذي نشرته وزارة التعليم الوطني التركي أخيرًا قبل بدء الدراسة في العام الحالي بعد عدة جولات من المفاوضات مع إدارة المدرستين إلى أن هذه المدارس تعمل دون صفة قانونية وتقبل تسجيل “الطلاب الأتراك”، ثم أعلن التوصل إلى اتفاق يشمل العمل على اتفاقية تعاون شاملة بين فرنسا وتركيا، بما يسمح بتعليم اللغة التركية للطلاب الأتراك في فرنسا، وإيقاف تسجيل أي طلاب أتراك جدد (ومنهم مزدوجو الجنسية) في المدرستين إلا بعد إبرام اتفاق يوفر وضعًا قانونيًا مناسبًا للمدرستين.
كما ستسلم الوزارة قائمة بأسماء الطلاب الأتراك في هذه المدارس وجميع المعلومات المتعلقة بالمدارس التابعة للوكالة الفرنسية للتعليم في الخارج AEFE، وبانتظار إتمام الاتفاق النهائي وحصول هذه المدارس على إذن قانوني سيدرس المعلمون الأتراك المنهاج التركي الأساسي والمعينين من الوزارة، كما ستتم مراقبة وتفتيش عمليات التعليم من المسؤولين الذين سيعملون في مكاتب داخل هذه المدارس.
صراع الثقافة والهوية والسياسة بين تركيا والغرب
حاولت الدولة العثمانية من خلال لائحة التعليم العام عام 1869 سد الثغرات المتعلقة بالمدارس الأجنبية والمدارس غير الإسلامية، وجعلها مفتوحة للتفتيش، وكان افتتاحها يعتمد بشكل كامل على إذن السلطان، إلا أن انهيار السلطنة وارتباط هذه المدارس بالقنصليات جعلها تخرج عن إطار سيطرة الدولة، وكان لمديريها الشجاعة في إبعاد المفتشين العثمانيين.
وبسبب التعليم الجيد للغات الأجنبية الذي توفره هذه المدارس، فضلت النخبة العثمانية إرسال أطفالها إلى هذه المدارس وتلقي تعليم أفضل على المستوى الأوروبي، وهي عوامل مميزة مهمة في العثور على عمل حتى على حساب الابتعاد عن قيم مجتمعهم. وكانوا يحصلون على حوافز مختلفة مثل الوصول إلى مستوى رفاهية عالٍ ومكانة مهمة في المجتمع، وهذا ما يفسر موقف بعض المثقفين الأتراك الذين نشأوا في المدارس الأمريكية ودافعوا عن الانتداب الأمريكي خلال حرب الاستقلال.
وينقل Sezen KILIÇ في بحثه بموسوعة أتاتورك المنشورة على أحد المواقع الحكومية، تصريحًا لرفيق رزق سلوم، أحد قادة الحركة العربية، بأن أطفال النخبة المسلمة الذين ذهبوا إلى هذه المدارس الأجنبية، نشأوا على أنهم كارهون للأتراك وقوميون عرب.
وتسعى تركيا منذ المحاولة الانقلابية الفاشلة عام 2016 إلى فتح مدارس ومؤسسات تعليمية تابعة لها في الدول الغربية عن طريق مؤسسة “المعارف” وإغلاق جميع المؤسسات التابعة لجماعة “غولن” التي كانت تسيطر بشكل كبير على التعليم التركي في الغرب. وترى تركيا أن مشكلة المدارس الأجنبية في تركيا مرتبطة بالعقبات التي تضعها الحكومات الغربية على فتح مدارس بموجب القانون التركي على الأراضي الفرنسية والألمانية، أسوة بالمدارس الفرنسية والألمانية الخمسة في تركيا، وهي القضية التي تسمم العلاقات بين البلدين (تركيا وفرنسا) باستمرار.
وفي مقابلته مع صحيفة “خبر ترك”، عقب التصريحات حول المدارس الفرنسية أدان تكين “غطرسة” فرنسا، قائلًا: “نحن لسنا مثل البلدان التي استعمرتها، نحن دولة ذات سيادة، وإذا كنت تريد التدريس هنا عليك أن تتصرف وفقًا لشروطنا”.
كانت الأخبار المتناقلة عام 2019 عن عزم وفد رسمي تركي زيارة فرنسا والاطلاع على كيفية عمل المدارس الأجنبية عن قرب، تمهيدًا لفتح مؤسسات تعليمية تركيا هناك، أثارت موجة من الرفض والتصريحات الفرنسية العدائية تجاه تركيا، وخرج وزير التعليم الوطني الفرنسي آنذاك، جان ميشيل بلانكر، وقال: “أعتقد أن هناك اليوم الكثير من التحركات التركية غير الودية، وقلقون كثيرًا بشأن ما تفعله السلطات التركية تجاه الجاليات التركية في فرنسا. يعرف الجميع أن تركيا قد تخلت عن العلمانية التي ميزت تاريخها لعقود وأنا بالطبع متيقظ جدًا بشأن هذه القضية”.
تمر تركيا في العقود الأخيرة بفترة مهمة ضمن سعيها لتقليل تبعيتها للغرب، ورأينا هذا في محاولاتها العودة لحاضنتها الإسلامية، والعمل على بناء منظومة دفاعية مستقلة عن الدول الكبرى. وهي تدرك أهمية التعليم في حماية نسيجها الداخلي وتعزيز النظرة الإيجابية للتركي تجاه أمته وتاريخه وثقافته، بينما يرى كثيرون أن التعليم الأجنبي يشجع التبعية للغرب والشعور “بالدونية” أمام الثقافة واللغة الأجنبية.