حكاء من طراز مميز، مفكر له شخصية مستقلة، غواص باهر في أسبار المجتمع المصري، عرّاب متنوع المواهب، مكتشف ملهم لتفاصيل لا ترى بالعين المجردة، جراح عالمي يمتلك مشرطًا حريريًا يشرح من خلاله الشخصية المصرية كاشفًا أبجدياتها الدفينة وخيوطها المتشابكة.
حمل على كاهله منذ نعومة أظفاره هم ديون بلاده الخارجية وتبعاتها على مستقبل الأجيال اللاحقة ليكتشف فيما بعد أن الاقتصاد وحده ليس كافيًا لمعالجة الأمور، ساعيًا إلى إصباغ نظرة اجتماعية على رؤيته التي نجح من خلالها في تشخيص الداء مجتمعيًا، ليخوص في أعقابها عددًا من الحروب الشرسة، قبل أن تأتي الموجة الثورية في 25 يناير التي كان أبرز داعميها وإن تساءل لاحقًا عن إخفاقها في تحقيق نتائجها، مختتمًا مشواره بالحديث عن محنة الدنيا والدين في الحياة المصرية قبيل رحيله عن عالمنا.
الدكتور جلال أمين، عالم الاقتصاد والمفكر الاجتماعي، الذي غادر الحياة بهدوء، أمس الثلاثاء، عن عمر يناهز 83 عامًا، قضاها بين عواصمه الثلاثة المفضلة (القاهرة – لندن – واشنطن) تاركًا خلفه إرثًا حافلًا بالعطاء الفكري والأكاديمي، ودراسات اقتصادية تعد مرجعًا كبيرًا للباحثين والمهتمين في الاقتصاد المصري والعالمي، فضلًا عن تأصيله لمفهوم جديد من المعارك الاقتصادية والسياسية تتخذ من الفكر والثقافة شراعًا لها.
سيرة حافلة
ينتمي المفكر الراحل جلال أمين إلى أسرة مولعة بالفكر والأدب والصحافة، فوالده هو الأديب القاضي أحمد أمين، (1986-1954) عضو مجمع اللغة العربية وعميد كلية الأداب جامعة القاهرة ومدير الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية سابقًا، وشقيق الدبلوماسي المعروف السفير حسين أحمد أمين.
ولد بالقاهرة عام 1935، وتخرج في كلية الحقوق جامعة القاهرة عام 1955، وحصل على الماجستير والدكتوراة من جامعة لندن، كما شغل عدة مناصب منها أستاذ الاقتصاد بكلية الحقوق بجامعة عين شمس، من 1965 إلى 1974، وعمل مستشارًا اقتصاديًا للصندوق الكويتي للتنمية من 1974 إلى 1978، وأستاذًا زائرًا للاقتصاد في جامعة كاليفورنيا من 1978 إلى 1979، وأستاذًا للاقتصاد بالجامعة الأمريكية بالقاهرة من 1979.
“إحساس الإنسان بأن حقه مغتصب، هو إحساس مرير، ويدفعك هذا الإحساس إلى فعل أي شيء، فالحق إذا ضاع، ضاع معه الأمن، والأمن إذا ضاع، ضاع معه الحق” – جلال أمين
شغل عضوية العديد من الجمعيات والهيئات الاقتصادية والمجتمعية منها الجمعية الاقتصادية المصرية، والجمعية المصرية لحقوق الإنسان، والجمعية العربية لحقوق الإنسان، وعضوية مجلس إدارة الجمعية العربية للبحوث الاقتصادية.
كما حصل على عدد من الجوائز والأوسمة التقديرية، منها جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية 2013، وجائزة مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية التي تمنح للأعمال المتميزة وللمساهمات الغنية في الأدب العربي عام 2010، كما حصل على جوائز أخرى عديدة مثل جائزة الاقتصاد من مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، ووسام الاستحقاق للعلوم والفنون من رئيس جمهورية مصر العربية، وجائزة الدولة للاقتصاد.
المفكر الفتوة
تحت عنوان “د. جلال أمين.. المفكر الذي تحوّل إلى فتوة” قص الكاتب الصحفي خيري حسن في مقاله المنشور بموقع “مصراوي” بتاريخ 2 من ديسمبر 2017 رواية واقعية حدثت مع المفكر الراحل في صيف 1970، حين سافر وزوجته إلى لبنان في مهمة عمل تستغرق عامًا، يومها قرر تأجير بيته لنفس المدة حتى يعود، وهو ما حدث بالفعل ووقع عقدًا لدبلوماسي من دولة بنما يسمى “باتيستا”.
وحين عاد بعد انقضاء مهلة عمله، ذهب للبيت حتى يسكن فيه ويطلب من المستأجر مغادرته طبقًا للعقد، لكنه فوجئ برفض “الخواجة” الخروج من منزله، ما دفع جلال إلى البحث عن شقة مفروشة للإقامة فيها بعدما أيقن أن حقه لن يسترد إلا بالقوة، وبالفعل قام بتأجير ثلاث عربات كارو ووضع عليها متاعه وحقائبه، ووقف بها أمام بيته المغتصب، صعد درجات السلم وحاول إقناع الرجل بإخلاء البيت، واصل الخواجة رفضه، فما كان منه إلا أن عاد إلى سيارته وجاء منها بـ”الكوريك” الحديدي، وبدأ في عملية تحطيم أبواب وشبابيك البيت على دماغ الخواجة، الذي انزعج بشدة وارتعد خوفًا وهلعًا.
حينها حضرت الشرطة لإنهاء المشكلة مطالبة منه إعمال القانون، ليرد عليهم ولسان حاله يقول “قانون إيه يا أبو قانون”، ثم واصل التهشيم والتحطيم في واجهات البيت ودخل إلى غرفة نومه المحتلة من الخواجة ووجهه يتطاير منه الدم بسبب الإصابات التي لحقت به، ونام على سريره ممددًا، معلنًا أنه لن تستطيع قوة على وجه الأرض طرده من ملكه الذي استولى عليه غاصب، وبالفعل حمل “باتيستا” متاعه وغادر المنزل.
وقتها قال المفكر الراحل كملته الخالدة: “المؤكد أن إحساس الإنسان بأن حقه مغتصب، هو إحساس مرير، ويدفعك هذا الإحساس إلى فعل أي شيء، فالحق إذا ضاع، ضاع معه الأمن، والأمن إذا ضاع، ضاع معه الحق” وحين سئل عن القانون قال: “القانون يحتاج قوةً وأمنًا وإرادةً حتى يحقق العدل”.
يعد كتاب “ماذا حدث للمصريين؟” الصادر عام 2008 أبرز المؤلفات التي تركت أثرًا في الوسط الثقافي المصري، إذ استعرض أمين خلاله تطور المجتمع المصري في نصف قرن
إرث فكري متميز
رحل أمين تاركًا خلفه إرثًا فكريًا يشكل نواة قوية لمكتبة شاملة، حيث ساهم الرجل في إثراء المكتبة العربية والعالمية بما يزيد على 30 كتابًا متنوعًا، ما بين الاقتصاد والتاريخ والسياسة والأدب، قادرين على تخليد اسمه لعقود طويلة حتى بعد رحيله ليظل الرجل بين أبنائه وتلامذته شعلة توقد شموس الحياة.
كتاب “محنة الدنيا والدين في مصر” كان آخر ما تركه المفكر، الكتاب صادر عن دار الشروق عام 2013، وفيه يتناول طبيعة العلاقة بين الدين والدنيا، وما يجب أن يكون عليه “الحجم الطبيعي” للدين في الحياة، وأثر هذه العلاقة على المجتمع المصري والثورة المصرية.
وبين صفحاته رصد المؤلف علاقة الدين بكل من الديمقراطية، ومبدأ الأغلبية والأقلية، ومفهوم التحديث، ومدى إمكانية إقامة نهضة حقيقية في مصر في ظل العلاقة الملتبسة بين الدين والسياسة، وأثر “الفكر الاستهلاكي” على الدين، ثم أثر كل ذلك بالتطور الكبير الذي طرأ على نظرة المصريين للعلاقة بين الدين والدنيا.
وفي عام 2012 كان كتاب “ماذا حدث للثورة المصرية؟” الذي استعرض من خلاله مظاهر الفساد والتدهور التي أدت إلى قيام ثورة 25 يناير، مستعرضًا أسباب التفاؤل الشديد بمستقبل باهر، الذي أشاعته الثورة، ثم دواعي القلق الذي أثاره ما تلبدت به السماء من غيوم.
في 2011 شرح أمين أحوال المجتمع المصري في عهد رؤساء مصر المعاصرين (جمال عبد الناصر، أنور السادات، حسني مبارك) مقارنًا بين واقع المصريين في تلك الحقب الثلاثة من خلال عدة محاور: (الاقتصاد، التدين، الطبقة الوسطى، المثقفين، علاقة العرب بالغرب، العلاقة مع أمريكا) وذلك في كتابه “مصر والمصريون في عهد مبارك”.
ويعد كتاب “ماذا حدث للمصريين؟” الصادر عام 2008 أبرز المؤلفات التي تركت أثرًا في الوسط الثقافي المصري، إذ استعرض خلاله تطور المجتمع المصري في نصف قرن، مقدمًا عبر صفحاته التي لم تتجاوز 188 تشريح مدهش وتحليل دقيق للمجتمع، خلال الفترة الممتدة بين الأربعينيات والتسعينيات، حيث قسم المجتمع لثلاث طبقات وقارن بينهم وتناول التغييرات التي حدثت لكل طبقة فيها، ولم يغفل الحديث عن الجوانب المتعلقة بالحراك الاجتماعي، ومنها تغير مكانة الخدم في المجتمع واختلاف أوضاعهم، واختلال وضع الوظيفة الحكومية وتراجع مكانتها، وتغير مركز المرأة المصرية وما حققته من إنجاز في الحصول على حقوقها.
أمين كان أول من فجر معركة ” لا لبيع أصول مصر” وهي الحرب التي أشعل فتيلها عبر عدد من المقالات التي كانت بمثابة الأساس السياسي والنظري للتحركات المناهضة لبيع القطاع العام
وبسرد غاية في التشويق والإمتاع الممزوج بالصدق والإنسانية في الطرح، استعرض أمين جزءًا من سيرته الذاتية وحياته وآرائه وذلك عبر مؤلفه “رحيق العمر” الصادر في 2007، وذلك قبل عامين فقط من إصداره “وصف مصر في نهاية القرن العشرين” الذي قدم من خلاله تصويرًا بارعًا لما آل إليه المجتمع في نهاية القرن العشرين، في الاقتصاد والسياسة والثقافة والإعلام، وفي العلاقات الاجتماعية، بما في ذلك العلاقة بين الطبقات، وبين الناس والحكومة، وبين المسلمين والأقباط، كتبه جلال أمين بأسلوبه الذي يجمع بين البساطة والوضوح من ناحية، وعمق الفكرة من ناحية آخرى.
ورغم أن باكورة إنتاج أمين الثقافي كانت 1987 عبر “قصة ديون مصر الخارجية – من عصر محمد علي إلى اليوم” فإن التشريح الحقيقي للمجتمع المصري كان من خلال كتابي “مصر في مفترق الطرق” عام 1990 و”الدولة الرخوة في مصر” عام 1993، إذ نجح خلالهما في بحث أسباب تراجع الدولة المصرية وتفسير حالة “الرخوية” في أجهزة الدولة في ذلك الوقت، بخلاف محاولة الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بأسباب التوتر الاجتماعي والثقافي والسياسي الذي عانى منه المصريون، وما آل إليه واقع الشباب الحائر بين النظريات اليمينية واليسارية.
يذكر أن الراحل كان أول من فجر معركة “لا لبيع أصول مصر” وهي الحرب التي أشعل فتيلها عبر عدد من المقالات التي كانت الأساس السياسي والنظري للتحركات المناهضة لبيع القطاع العام والإبقاء على أصول الدولة في مواجهة موجات الخصخصة التي وضع مبارك ونظامه لبناتها الأولى.