حمل القرن الخامس عشر للميلاد/التاسع للهجرة في جعبته الكثير من الأحداث المهمّة التي غيّرت من ملامح التاريخ الحديث لا سيّما تاريخ المسلمين؛ إذ شهد على حدثين مهمّين أولهما فتح العثمانيين للقسطنطينية عام 1453 ومن ثمّ سقوط الأندلس عام 1492، أي بعد فتح القسطنطينية بما يقارب الأربعين عامًا فقط.
ففي حين استجمعت جيوش المسلمين قوّتها في الشرق ونجحت بقيادة السلطان محمد الفاتح بالتغلّب على الجيوش الرومانية ومن ثم تحوّلت إلى أكبر إمبراطورية في العالم مع بدايات القرن السادس عشر وحكمها للعديد من الدول العربية والشرق آسيوية ودول شرق أوروبا والبلقان، كان الأمر يسير بشكلٍ معاكسٍ تمامًا مع المسلمين في غرب أوروبا، أي في الأندلس أو شبه جزيرة أيبيريا، بعد أن أصيبت الدولة الإسلامية في الأندلس بالضعف والهوان، حتى استطاع الأوروبيون هزيمة آخر معاقل المسلمين في غرناطة.
تمكّن العثمانيون في عهد السلطان سليم الأول من تطوير البحرية الإسلامية التي سعت شيئًا فشيئًا إلى التوسع ناحية الشمال الإفريقي وشرق ووسط أوروبا.
وعلى الرغم من انشغالها في حروبها المتكررة، حاولت الدولة العثمانية منذ البداية التدخّل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الأندلس وتقديم المساعدة لناسها وسكّانها، إلا أنّ عوامل أخرى، إضافةً للحروب ومحاولات الغرب لاستعادة القسطنطينية، وقفت عائقًا في وجه الدولة، كان إحداها بُعد المسافة الجغرافية وعدم وجود طريق برّي مباشر بين الدولتين، عوضًا عن انشغالهم مع المماليك والدولة الصفوية.
ومع مرور الوقت، تمكّن العثمانيون في عهد السلطان سليم الأول من تطوير البحرية الإسلامية التي سعت شيئًا فشيئًا إلى التوسع ناحية الشمال الإفريقي وشرق ووسط أوروبا. وقد شجّع هذا التطوّر العسكري الكثير من الأسماء اللامعة في سماء البحرية من قادة ومتطوعين إلى الانضمام إلى الأسطول العسكري، لا سيّما في الوقت الذي كان الكثير منهم يحاربون القوى الأوروبية التي تحاول السيطرة على الدول الإسلامية على شواطئ البحر المتوسط بشكلٍ منفرد أو عائليّ.
معركة بروزة: حيث هزم العثمانيون أوروبا في البحر
بحلول عام 1505، استجمع الإسبان والبرتغاليون قوّتهم وبدأوا بالسعي نحو تحقيق مكاسب إقليمية في شمال إفريقية فبدؤوا بشنّ الهجمات على المدن الساحلية هناك. في الوقت ذاته، كانت الدولة العثمانية لا سيّما في عهد سليمان القانوني قد بلغت أوجها في حملاتها التوسعيّة باتجاه أوروبا، الأمر الذي حفّز البابا “بول الثالث” في روما إلى الدعوة لتحالف أوروبي صليبيّ لمواجهة مساعي الدولة العثمانية ومنعها من التقدّم، فكانت “معركة بروزة” أو “بريفيزا” غربيّ اليونان في 28 سبتمبر من عام 1538.
خرج العثمانيون بـ122 سفينة تقلّ 22 ألف جنديّ فقط بقيادة “خير الدين بربروسا” بعد أنْ وضع خطته التي قادت المسلمين للنصر في تلك المعركة بعد 5 ساعات فقط من بدئها.
جهّز الأوروبيون أسطولًا، عُرف باسم “الأسطول المقدّس”، من أكثر من 600 سفينة حربية شاركت كل من إسبانيا وألمانيا والنمسا والبندقية والبرتغال وجنوة ومالطا بتعبئته ليحمل على متنه أكثر من 60 ألف جنديّ بقيادة البحّار الإسباني “أندريا دوريا”. وفي المقابل خرج العثمانيون بـ122 سفينة تقلّ 22 ألف جنديّ فقط بقيادة “خير الدين بربروسا” بعد أنْ وضع خطته التي قادت المسلمين للنصر في تلك المعركة بعد 5 ساعات فقط من بدئها.
لوحة معركة بروزة- يحتفظ بها المتحف البحري التركي في مدينة إسطنبول
رأى خير الدين أنّ الحرب البحرية تكون في البحار المفتوحة وليس في السواحل أو بالقرب منها، وبالتالي عمل على إبقاء أسطوله بعيدًا عن سواحل بروزة لمسافة 9 كيلومترات، ما ساعده على مباغتة الأسطول الأوروبي ومنعه من التقدّم أو الاستدارة، كما استطاع العثمانيون من خلال استخدامهم المتقن لمدافعهم البعيدة المدى أن يلحقوا خسائر بالغة بالأسطول الأوربي، وهو ما أجبر “أندريا دوريا” على الانسحاب من المعركة بعد خمس ساعات فحسب من بدايتها.
يحتفل الأتراك كلّ عامٍ بالذكرى السنوية لمعركة بروزة التي أصبحت مناسبة للاحتفال بعيد البحرية التركية
وبهذا الانتصار، تحقّقت السيادة العثمانية المُطلقة لغمار البحر المتوسط حتى عام 1571، أي لمدة 30 عامًا كانوا خلالها القوة البحرية الأولى في العالم بلا منازع، وهو الحدث الذي ترك منذ ذلك الوقت أثرًا في كلا التاريخين التركيّ والأوروبيّ حتى يومنا هذا. فمن جهتهم يحتفل الأتراك كلّ عامٍ بالذكرى السنوية لمعركة بروزة التي أصبحت مناسبة للاحتفال بعيد البحرية التركية.
أما في التاريخ الأوروبي، فيروي المؤرّخ “كانتويل سميث” في كتابه “الإسلام في العصر الحديث أنّ أوروبا لن تنسى الفزع الذي نالها نتيجة هزيمتها على يد الدولة العثمانية التي ظلّت تجوب مياه البحر الأبيض المتوسط دون وجود أيّ قوة بحرية تستطيع ردّها أو صدها.
خير الدين بربروس: البحّار الذي أصبح قائد أكبر الأساطيل البحرية
شاعت أسماء أربعة أخوة عرفوا عن والدهم ركوب البحر المتوسط وقيادة الأساطيل فيه، ما جعل منهم قوةً فاعلة في تعجيل الأحداث السياسية في المغرب العربيّ، إذ هدفت حملاتهم لمساعدة مسلمي الأندلس والجزائريين الذين استنجدوا بهم من هجمات الإسبان. ومن بين الأربعة، عُرف “عروج” و”خضر” الذي عُرف لاحقًا باسم “خير الدين” بربروس، وبربروس كلمة إيطالية تعني صاحب اللحية الحمراء.خير الدين بربروس- لوحة للفنان الإيطالي أغسطينو دي موسي (1536)، تتواجد في المعرض الوطني للفنون في واشنطن
أما بداية الرحلة فكانت حينما كلّف السلطان سليم الأول الأخ الأكبر “عروج” بمهاجمة سواحل إسبانيا للسيطرة عليها وإنقاذ المسلمين من محاكم التفتيش والعودة بهم إلى المغرب العربيّ، فنجح عرّوج فعلًا وقام بإنقاذ عشرات الآلاف منهم. لاحقًا وبعد استشهاد عروج في إحدى المهمّات الجهادية عام 1518م ، أمر سليمان القانوني “خير الدين” بقيادة البحرية العثمانية.
وقد نشر خير الدين مذكّراته التي تُرجمت من التركية للعربية ذاكرًا فيها رحلاته مع أخيه عروج وجولاتهما في فتح الجزائر و الغزوات التي قاما بها حتى جعلت ملك الإسبان كارلوس يعنف قادته بقوله: “لقد جعلتموني مسخرة بين الملوك، فليس فيكم من يستطيع التصدي لبربروس”.
توفيَ خير الدين بربروس عام 1546 وهو في الثمانين من عمره، تاركًا وراءه مذكراته التي كتبها بأمرٍ من السلطان سليمان القانوني والتي خلّدت بين طيّاتها حياته وانتصاراته ومحاولاته للدفاع عن الأندلس وإنقاذ مسلميها من بطش المحاكم الدولية. أما قبره فيوجد بالقرب من البسفور في منطقة بشكتاش في إسطنبول في المكان الذي اشتراه بنفسه وأوقفه لكي يُدفن فيه.