خلال السنوات الماضية، حققت الصين طفرة اقتصادية وتنموية هائلة، ونجحت في الانضمام إلى مصاف القوى العسكرية والتكنولوجية العالمية، ما جعلها واحدة من أهم الأطراف الفاعلة في المجتمع الدولي، وبطبيعة الحال، أدى بها هذا التوسع والتمدد إلى الوقوع في خلافات دبلوماسية واقتصادية متكررة مع منافستها الولايات المتحدة الأمريكية التي تحاول بشتى الطرق عرقلة مسيرتها.
العام الماضي، صرح الرئيس الصيني شي جين بينج عن طموح الصين في نشل القيادة العالمية من أمريكا، إذ قال صراحةً: “أنا مستعد لملء الفراغ في القيادة العالمية الناجم عن تحول الولايات المتحدة الأمريكية للداخل أكثر من كونها قوة عالمية”، ما يعني أن الصين تنوي إقصاء واشنطن من المعادلة العالمية.
نظرًا لذلك أدركت الصين أن القوة الصلبة ليست كافية لإزاحة أمريكا من طريقها، فبدأت الجمهورية تبحث عن أساليب أكثر نعومة وتأثيرًا في الوسط العالمي، ونتيجة لهذا، اتجهت إلى صناعة السينما ليبدأ خلاف جديد بين بكين وواشنطن، فهل تستطيع الأفلام الصينية السيطرة على هذا القطاع؟ وهل تكون السينما ذراعها الجديدة لتصدير الثقافة الصينية إقليميًا ودوليًا؟
ماذا تريد الصين من عالم السينما؟
منذ عشرينيات القرن الماضي، هيمنت هوليوود على معظم القنوات التليفزيونية في العالم، وباتت الوسيلة الرئيسية التي يرى من خلالها الناس نمط الحياة الأمريكية وما يصاحبها من صيحات وعادات وأفكار، وتدريجيًا انتشرت ثقافتها في جميع المنازل، وأصبحت نموذجًا للديمقراطية والمساواة والحرية والتنوع في العالم، فألا ليست السينما أداة مثالية لنقل صورة إيجابية عن البلاد؟
يجيبنا عن ذلك، تشجيع الرئيس الصيني بينج لوسائل الإعلام على اتخاذ دور فعال في إنتاج قصص جيدة عن الصين، حيث قال: “اسردوا قصة الصين كما ينبغي وانشروا صوت الصين جيدًا واجعلوا العالم يعرف صينًا ملونة ثلاثية الأبعاد”، ورغم هذا التصريح الذي يدعو إلى الترويج للثقافة الصينية وخصائصها، فإن المخرج الصيني جيا زانجكي يعتقد أن الصين -منذ عقد – كانت لتستغل هذا القطاع كأداة للدعاية الإيديولوجية، ولكنها الآن لا تعتبرها سوى “صناعة”، بحسب وصفه.
الصين ترغب ببيع “النموذج الصيني” للعالم كما فعلت أمريكا، لا سيما أن هذا سيساعدها على إثبات نفسها كقوة ثقافية
بغض النظر عن التعليقات المتداولة بشأن الطموح الصيني في هذا القطاع، لا شك أن الصين ترغب ببيع “النموذج الصيني” للعالم كما فعلت أمريكا، لا سيما أن هذا سيساعدها على إثبات نفسها كقوة ثقافية، فمن الملحوظ أن السلطات اتخذت إجراءات جدية ونوعية في قطاع الإعلام بشكل عام وصناعة الأفلام بشكل خاص.
عام 2002، لم يكن في الصين سوى ألف و400 دار سينما، ثم وصل هذا العدد إلى 20 ألف في عام 2014، وفي عام واحد فقط تم افتتاح أكثر من 6 آلاف قاعة أي 16 قاعة في اليوم، مؤخرًا تضاعفت الأعداد إلى 41 ألف، لكن هذه القاعات ما زالت غير كافية بعد لاستيعاب الجمهور الصيني بأكمله، لذلك تعمل الجهات المسؤولة على زيادة العدد إلى 80 ألف بحلول عام 2021، أي ضعف ما تملكه أمريكا مرتين.
تضاعف عدد الأفلام الصينية وخاصةً تلك التي يتم تصويرها بميزانيات هائلة وتنظمها حملات تسويقية مكثفة لجذب أكبر عدد من رواد السينما، ففي عام 2012 تم إنتاج ما يقرب من 745 فيلمًا كاملًا
وتبعًا لهذا النمو الملحوظ، شهدت الصين زيادة في الإيرادات، فقد حصدت أكثر من 6.2 مليار دولار عام 2016، ومن المتوقع أن ترتفع قيمتها إلى 10.7 مليار دولار خلال العامين القادمين، بالجانب إلى تضاعف عدد الأفلام الصينية وخاصةً تلك التي يتم تصويرها بميزانيات هائلة وتنظمها حملات تسويقية مكثفة لجذب أكبر عدد من رواد السينما، ففي عام 2012 تم إنتاج ما يقرب من 745 فيلمًا كاملًا، لتنمو صناعة الأفلام بنسبة 40% بين عامي 2008 و2014.
رغم جودة هذه الأرقام والبيانات، فإن المراقبين يعتقدون أن هوليوود ستحافظ على المقدمة، بسبب تدخل السلطات الصينية بكل ما يعرض ويبث على أراضيها، إذ تقرر الحكومة بنفسها ماذا سيعرض من الأفلام وكيف وكم، إضافة إلى ذلك، تفرض السلطة رقابة صارمة على نوع الأفلام الأجنبية التي لا تعارض نشرها، إذ تستورد نحو 70 فيلمًا في السنة، كما يوجد حد معين على فترة عرض الأفلام الأجنبية، فعادةً ما يتم عرضها في السينما لمدة أسبوعين فقط، ولتمديد المدة لا بد من تقديم طلب بذلك.
هل تصل الأفلام الصينية إلى الساحات العالمية؟
حقق فيلم “حورية البحر” الصيني انتشار واسع في سنغافورة وماليزيا
عام 2011، أجرت الأكاديمية الفرنسية للاتصال الدولي والثقافة الصينية مسح عن انتشار الأفلام الصينية، فكانت النتيجة أن ثلث الشباب لم يعرفوا أي شيء عن الأفلام الصينية، ونصفهم لم يعرف سوى القليل، والبقية يشاهدونها بشكل منتظم، وبناءً على هذا الاستطلاع استنتج الباحثون أن الأشخاص المهتمين بهذا النوع من الأفلام كانوا آسيويين الأصل، أما أولئك الذين عبروا عن عدم اهتمامهم فكانوا من دول غربية.
السينما الصينية قد تجد لها مكانًا بين الجماهير في البلدان الآسيوية، لكن هذا لا يعني أن القوة الصينية الناعمة قادرة على دغدغة العالم الغربي وجذبه نحو شاشاتها
فسر الخبراء هذا البرود نحو الأفلام الصينية بالاختلافات الثقافية وحاجز اللغة والسيناريو، ما قد يعني أن السينما الصينية قد تجد لها مكانًا بين الجماهير في البلدان الآسيوية، مثل فيلم “حورية البحر” الذي أصدر قبل عامين وحقق نسب مشاهدة جيدة في ماليزيا وسنغافورة، لكن هذه الشعبية في المناطق المجاورة لا تشير إلى أن القوة الصينية الناعمة قادرة على دغدغة العالم الغربي وجذبه نحو شاشاتها.
لكن هذا لا يعني أن الصين ستتوقف عن السعي للوصول إلى العالمية، على سبيل المثال يرى المحللون أن فيلم “السور العظيم” الذي عمل فيه مجموعة من الغربيين والصينيين وتم إنتاجه بالتعاون بين أمريكا والصين، يدل على أن الصين تريد تصدير صورتها وإدخال تقاليدها وقيمها إلى العالم الغربي حتى لو اضطرها الأمر إلى التعاون مع منافسيها، ففي الوقت الذي تطمح فيه هوليود إلى المكاسب المادية، تنظر الصين إلى ما هو أبعد من ذلك أي القوة والنفوذ، ومع ذلك، تظل التكهنات ترجح استمرار سيطرة هوليوود على سوق الأفلام العالمي، مقابل نمو معقول ومتواصل للصين في الأسواق المحلية والإقليمية.