لا يكاد أسلوب النظام الإيراني الذي استخدمه في تثبيت أركان حكمه داخل إيران، يختلف كثيرًا عن أسلوبه في العراق، وهو أسلوب التصفيات لخصومه وإزاحتهم عن طريقه، طبَّق ذلك على الشعب الإيراني ويطبقها اليوم في كل مناطق نفوذه التي استطاع الوصول إليها في البلدان المجاورة وغير المجاورة.
ذلك الأسلوب الذي مكَّن هذا النظام من السيطرة على مقدرات إيران، من خلال تصفيه الذين شاركوا بالثورة ضد نظام البهلوي، ومهّد لنفسه الانفراد بالحكم وتأسيس نظام حكم جديد سُمّي بعد ذلك بنظام “ولاية الفقيه” الذي ما زال قائمًا حتى الآن.
كما استعمل نفس الأسلوب في العراق من خلال أذرعه هناك، قبل وفي أثناء حرب الثمانينيات مع العراق، وقام بعمليات قتل واغتيالات وتفجيرات لتقويض نظام حكم العراق، لكن هذا الأسلوب اتخذ منحى تصاعديًا بشكل كبير بعد أن أُحتل العراق من الأمريكان.
قام النظام الإيراني بعمل ممنهج استهدف فيه كل من يشك به أو يعارض وجوده في العراق، وشن عمليات انتقام ضد ضباط الجيش الذين شاركوا في الدفاع عن وطنهم العراق في حرب الثماني سنوات، ثم استمر بعد ذلك لتشمل تصفياته كل الكفاءات العراقية من علماء وأطباء ومهندسين وقادة رأي ومفكرين، يهدف من ذلك جعل الشعب العراقي دون نخبة قادرة على قيادة الشعب إلى بر الأمان، الأمر الذي سيساعده في تكريس نفوذه في هذا البلد، وقيادته للوجهة التي يريدها، وقد كان ذلك مع الأسف.
كشفت مصادر إعلامية كثيرة حملات الاعتقال والاغتيال التي شنتها مليشيات بدر والعصائب والخراساني التي طالت مُنظمي التظاهرات بالبصرة وبشكل منظم وممنهج، وتم تسجيل أكثر من 28 حالة اختطاف واعتقال لفاعلين وناشطين في البصرة
اليوم وعلى عكس ما كان يظنُّ النظام الإيراني، من أن الأمر قد استقر لصالحه في العراق، دبَّت الصحوة في شباب المكون الشيعي الذي كان يعتقد غرورًا منه أنه موالٍ له، وانطلقت شرارة التظاهرات من مدينة البصرة، لتشمل كل مدن الجنوب والوسط، هؤلاء الشبان المنتفضون السلميون، استطاعوا النجاح بالتعبير عن رفضهم للنفوذ الإيراني وأذنابه الماسكين بالسلطة في بغداد.
فسر النظام الإيراني ذلك بأنه خطر وشيك يمكن أن يعصف بكل ما تم تكريسه من نفوذ داخل العراق، وأن عمل الخمس عشرة سنة الماضية يمكن أن يذهب أدراج الرياح إذا استمر هذا الحراك الشعبي في مدن وسط وجنوب العراق، فقام برد فعل معاكس وشكل ما يسمى “متطوعي الحشد” المرتبطين بمليشيا الحشد ذات الولاء الإيراني، لغرض الانتقام من قادة التظاهرات في البصرة وبقية المدن العراقية وإجهاض انتفاضتهم.
وكشفت مصادر إعلامية كثيرة حملات الاعتقال والاغتيال التي شنتها مليشيات بدر والعصائب والخراساني التي طالت مُنظمي التظاهرات بالبصرة وبشكل منظم وممنهج، وتم تسجيل أكثر من 28 حالة اختطاف واعتقال لفاعلين وناشطين في البصرة، أما الحالات التي لم يتم تسجيلها، فتصل إلى المئات، وتم تصفية العديد من قادة تلك التظاهرات بدم بارد، وفي ظنهم، أنهم بهذا الأسلوب قادرون على إخماد جذوة الثورة ضدهم.
جاءت الجريمة الأخيرة مليئة بالخسة والدناءة، حينما أقدمت المليشيات التابعة لنظام إيران على جريمة اغتيال إحدى الناشطات الحقوقيات في مدينة البصرة، الناشطة الحقوقية سعاد العلي التي كانت تترأس منظمة ”الود العالمي” لحقوق الإنسان، هي من الناشطات الفاعلات في تظاهرات البصرة الأخيرة، وسلّطت الضوء على ما تقترفه القوات الحكومية والعصابات المليشياوية من جرائم بحق المتظاهرين السلميين، الأمر الذي جعلها هدفًا لتلك المليشيات، لإسكاتها حتى لا تفضح جرائمهم.
تم قتل تلك الناشطة التي كانت بصحبة شخص يُعتقد أنه زوجها، لحظة ركوبهما للسيارة، فقتلت حالاً، وأصيب من معها بجروح خطيرة، وبعد انتشار خبر مقتلها بين أوساط البصريين والمتظاهرين، عقدوا العزم على الخروج بتظاهرات عارمة يوم الجمعة القادم، رفضًا لهذا الأسلوب الإجرامي الدنيء، في إخراس الأصوات المطالبة بمحاربة الفساد وتوفير الخدمات للمواطنين.
بالمقابل الأجهزة الأمنية الحكومية التي تقف عاجزة أمام سطوة المليشيات، عمِدت إلى إصدار تعليق على لسان العميد سامي المالكي معاون قائد شرطة البصرة على ما جرى بحادثة الاغتيال، قائلًا إن سبب مقتل الناشطة سعاد العلي جنائي وليس له علاقة بنشاطها في التظاهرات، وأرجع السبب في ارتكاب الجريمة إلى خلافات عائلية مع طليقها.
تداول سياسيون وناشطون عراقيون، معلومات ترجح أن ضباط جهاز مكافحة الإرهاب يتعرضون لحملة اغتيالات منظمة خشية قيامهم بانقلاب عسكري في البلاد
لم تكن هذه الحادثة الأولى من نوعها، فقد سبقتها حادثة اختطاف الناشطة الطبيبة هاجر يوسف التي كانت تشارك في تظاهرات البصرة لتقدم الإسعافات الأولية للجرحى من المتظاهرين، فاختُطفت بعد ضربها وفقدها للوعي، ومصيرها مجهول حتى الآن.
إن النظام الحاكم في بغداد المرتبط بكل رموزه السياسية بالنظام الإيراني، بدأ يشعر بالخطر ويحاول عمل كل ما بوسعه ليحافظ على سطلته، وأوصلته حالة الارتياب التي يعيشها، للإقدام على تصفية ليس قادة التظاهرات فقط، إنما تصفية قادة “الفرقة الذهبية” التي تتهمها المليشيات بأنها ذات ولاء أمريكي، كون أن تلك الفرقة قد تأسست على عين الاحتلال وهو من دربها وجهزها.
حيث ورد خبر وفاة قائد الفرقة فاضل برواري بسكتة قلبية، مفاجئًا للجميع، لأنه لم يكن يشكو من مشكلة صحية قبل هذا الوقت، ثم توالت حالات موت ضباط من هذه الفرقة خلال الأيام التي تلت وفاة البرواري الواحد تلو الآخر حتى وصل عددهم إلى سبعة من كبار الضباط، منهم من مات بمرض مفاجئ ومنهم بحوادث سير؛ مما جعل كثير من المراقبين يشككون في حالات الموت المفاجئ لهؤلاء الضباط، وترجيح أن يكون وراء تلك الحوادث جهد استخباراتي إيراني، نظرًا لخشية هذا النظام من تلك الفرقة العسكرية، واحتمالية أن تقود انقلابًا عسكريًا ضد نظام بغداد الموالي لهم بتحريض أمريكي، الأمر الذي يعني طرد النفوذ الإيراني وميليشياته من العراق.
الذي يعزز هذا الافتراض هو تعليق أحد الضباط الكبار في تلك الفرقة على حسابه بالفيسبوك يقول فيه: “يبدو أن الدور قد وصلني بالقتل”، ويخمن المراقبون أن جهة ما لا تطمئن لتلك الفرقة العسكرية وتقوم بتلك التصفيات، وفي أغلب الظن أنها جهة موالية للنظام الإيراني، كون أن هذه الفرقة العسكرية لا تخضع للأوامر الإيرانية بشكل مباشر كما هو الحال بباقي فرق الجيش العراقي الحاليّ.
تداول سياسيون وناشطون عراقيون، معلومات ترجح أن ضباط جهاز مكافحة الإرهاب يتعرضون لحملة اغتيالات منظمة خشية قيامهم بانقلاب عسكري في البلاد، ونشرت وثيقة رسمية، صادرة عن وزارة الداخلية، تحذر فيها قادة جهاز مكافحة الإرهاب من الاستهداف، وتحمل هذه الوثيقة تاريخًا يسبق تاريخ سلسلة التصفيات لأولئك الضباط، نفس الشيء حدث حينما تم اغتيال مسؤول حماية رئيس الوزراء حيدر العبادي في سامراء، وبقي العبادي صامتًا عليها رغم علمه بالجهة المنفذة، ويندرج تحت نفس السياق اغتيال مدير جوازات بابل بوضح النهار، دون التصدي لقاتليه.
إن ما تقوم به المليشيات المرتبطة بإيران، من نشرٍ للرعب والإرهاب في أوساط المجتمع العراقي، هي جريمة متكاملة الأركان، لكنها مع الأسف تلاقي الصمت من المجتمع الدولي، لكن مهما أوغلت تلك المليشيات في جرائمها ضد الشعب العراقي، فلا بد أن يأتي اليوم الذي تدفع ثمن تلك الجرائم، وإن غدًا لناظره قريب.