كشفت كل من الولايات المتحدة وفرنسا عن اقتراح مشترك لوقف إطلاق النار في لبنان لمدة 21 يومًا كخطوة أولية للتهدئة على الحدود اللبنانية الفلسطينية بين “إسرائيل” و”حزب الله”، وسط مخاوف من اندلاع حرب شاملة قد تنجر إليها قوى إقليمية عدة.
وكان وزير الخارجية الفرنسي، جان-نويل بارو، خلال جلسة طارئة عقدها مجلس الأمن الدولي، أمس الأربعاء، بناء على طلب بلاده، قد أشار إلى جهود دبلوماسية مكثفة بذلتها كل من باريس وواشنطن خلال الساعات الماضية لاحتواء الموقف والتوصل إلى مقترح سريع منعًا لانزلاق المنطقة نحو حرب مفتوحة، لافتًا إلى أن الإعلان عن هذا المقترح سيتم بشكل سريع، معولًا على قبول الطرفين به.
يأتي هذا التطور وسط تصعيد غير مسبوق بين الحزب وجيش الاحتلال، اخترق في كثير من جولاته قواعد الاشتباك المعمول بها بين الطرفين منذ حرب يوليو/تموز 2006، مع حراك دبلوماسي مكثف وضغوط إقليمية ودولية على الطرفين لتجنب توسعة الصراع والعمل على تخفيف التوتر قدر الإمكان وفي أسرع وقت.
الحديث عن مقترح للتهدئة على الجبهة الشمالية لم يرتبط بشكل مباشر ومعلن وواضح بالوضع في غزة، حتى وإن اشتبك معه من بعيد، حديث مقلق بالنسبة للبعض ويخدم بطبيعة الحال الأجندة الإسرائيلية التي تحاول تفتيت لحمة جبهات الإسناد وتفكيك حلقاتها.. فهل يقع الحزب – أمام الضغوط الممارسة عليه – في الفخ؟
تفاصيل الاتفاق المزمع
بحسب التصريحات الصادرة عن أمريكا وفرنسا، فالاتفاق يتعلق ابتداءً بهدنة لوقف إطلاق النار على الجبهة الشمالية بشكل كلي لمدة ثلاثة أسابيع، لإفساح المجال أمام الدبلوماسية للتوصل إلى تسوية كاملة تمهيدًا لوقف نهائي للتصعيد بين الحزب والكيان الإسرائيلي، كما جاء في البيان المشترك للرئيسين: الأمريكي جو بايدن والفرنسي إيمانويل ماكرون.
البيان أشار إلى أن تلك المبادرة حظيت بموافقة كل من الولايات المتحدة وأستراليا وكندا والاتحاد الأوروبي وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان والسعودية والإمارات وقطر، فيما قالت الدول الموقعة على البيان، أمريكا وفرنسا: “لقد حان الوقت لإبرام تسوية دبلوماسية تمكن المدنيين على جانبي الحدود من العودة إلى ديارهم بأمان”.
ومن المتوقع أن يتوجه وزير الخارجية الفرنسي إلى لبنان مطلع الأسبوع المقبل، في إطار الجهود الرامية إلى الحيلولة دون اندلاع حرب في المنطقة، حسبما قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي دعا كل من الاحتلال و”حزب الله”، إلى “وقف الأعمال القتالية على الفور”، مضيفًا في كلمة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة: “لا بد ألا تكون هناك حرب في لبنان”، مشددًا على أن “إسرائيل لا تستطيع توسيع عملياتها في لبنان من دون عواقب”.
أما الصحفي الإسرائيلي، باراك ديفيد، فأشار في تقرير نشره موقع “أكسيوس” نقلًا عن مسؤولين أمريكيين ومسؤول إسرائيلي ومصدرين مطلعين أن “مناقشات المبادرة الجديدة بدأت بعد مكالمة هاتفية الاثنين الماضي بين مستشار الأمن القومي للبيت الأبيض جيك سوليفان ووزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر”، وأن أمريكا ناقشت الفكرة على مدار اليومين الماضيين مع فرنسا و”إسرائيل” ولبنان وعدة دول عربية أخرى.
ماذا عن غزة؟
تجدر الإشارة بداية إلى أن المبادرة التي تبنتها فرنسا وأمريكا وأبدت حكومة بنيامين نتنياهو مرونة نسبية بشأنها تتعلق فقط بالجبهة الشمالية، أما المشهد في غزة فغير مشمول بتلك المبادرة وإن كان بعض المسؤولين الأمريكيين يرون أن تلك الخطوة قد تؤدي إلى تحفيز الجهود الرامية للتوصل إلى وقف إطلاق النار في قطاع غزة وإطلاق سراح المحتجزين.
وكانت قناة “كان” العبرية قد كشفت قبل يومين عن مقترح مطروح على طاولة النقاش حاليًا، تقوده أمريكا وفرنسا، يتعلق بهدنة مؤقتة في لبنان وغزة معًا، تتضمن وقف إطلاق النار لمدة 4 أسابيع على الجبهتين، لافتة إلى أن المقترح يشمل كذلك “اتفاق لإعادة الأسرى الإسرائيليين من غزة وإطلاق سراح مئات الأسرى الفلسطينيين، وتطبيق قرار 1701 لإبعاد “حزب الله” عن الحدود في الشمال”.
ويرى مسؤول إسرائيلي مطلع على تلك الجهود أن الهدف الرئيسي من مقترح الهدنة على الجبهة الشمالية هو “تحقيق وقفة تتيح مساحة للمفاوضات بشأن اتفاق دبلوماسي أوسع لمنع حرب أكبر، والسماح للمدنيين النازحين بالعودة إلى منازلهم على جانبي الحدود، وتوفير زخم متجدد لوقف إطلاق النار في غزة واتفاق الرهائن”، مضيفًا: “إذا رأت حماس أن “حزب الله” يعطي فرصة لحل دبلوماسي، فقد يشجع زعيم حماس يحيى السنوار على التحرك نحو التوصل إلى اتفاق”، بحسب ما نقل موقع “أكسيوس” الأمريكي.
ويُفهم مما سبق أن المقترح المزمع طرحه بشكل رسمي والمدعوم من أمريكا وفرنسا، والمتفق عليه من قبل العديد من الدول الغربية والعربية، وأبدت حكومة نتنياهو مرونة بشأنه، هو ذلك المتعلق بالتهدئة على الجبهة الشمالية فقط، مع تأجيل مناقشة المشهد في غزة لوقت آخر، لحين التوصل إلى صيغ مقبولة تقفز على العراقيل التي وضعتها الحكومة الإسرائيلية.
فصل غزة عن الجبهة الشمالية
معروف أن “إسرائيل” لم يكن لديها – على الأقل في الوقت الراهن – نية التصعيد بهذا المستوى الخشن مع “حزب الله”، وأن ما دفعها في الأساس للإقدام على تلك الخطوة محاولتها تقليص دور الحزب كـ”جبهة إسناد” للمقاومة في غزة، بعدما كبد جيش الاحتلال خسائر كبيرة منذ بداية الحرب وأربك حساباته بما كان له أثره على أداء الجيش الإسرائيلي في القطاع ومنح المقاومة دعمًا نفسيًا وعسكريًا ولو كان ضئيلًا.
وفي الوقت ذاته لا يمكن فصل التصعيد شمالًا عما يدور في غزة التي تعد رمانة الميزان وساحة المعركة الرئيسية التي يتشعب منها معارك أخرى جانبية، في لبنان واليمن والعراق وإيران وسوريا، ومن ثم فهي الترمومتر الرئيسي لقياس منسوب الصراع الحالي ومستوياته.
وكان الهدف الرئيسي الإسرائيلي من التصعيد مع “حزب الله”، رغم التحذيرات الإقليمية، هو فصل غزة عن جبهة الإسناد الشمالية، وهي الجبهة الأكثر حضورًا وتأثيرًا في الوقت الحالي، وهو ما رفضه الحزب أكثر من مرة منذ بداية الحرب، مشددًا على الاستمرار في أداء هذا الدور حتى إنهاء المعركة بشكل كامل ونهائي في القطاع.
وعليه ووفق القراءة الأولية للمبادرة الفرنسية الأمريكية المزمعة، فإنها تسير بشكل واضح باتجاه الأجندة الإسرائيلية، حيث تبريد الجبهة الشمالية ووقف كامل لإطلاق النار، على الجانبين اللبناني والإسرائيلي، ولو لمدة 21 يومًا، كخطوة نحو غلق تلك الجبهة بشكل كامل وفصلها عن غزة بالكلية.
ومن الواضح أن باريس وواشنطن ومعهما لندن وبقية المعسكر الغربي – وبدعم من بعض القوى العربية – تذهب باتجاه التسويف وكسب المزيد من الوقت لإثناء “حزب الله” عن إسناده للمقاومة في غزة، ومنح الاحتلال فرصة لالتقاط الأنفاس وتحقيق انتصار معنوي على الجبهة الشمالية من خلال وقف إطلاق النار وعودة السكان النازحين إلى مناطقهم مرة أخرى.
وفي المقابل لم يغب هذا المخطط عن عقلية القيادات في حماس وفصائل المقاومة في غزة والتي ترى أن محاولات فصل قوى المقاومة أمر مرفوض، كما جاء على لسان القيادي في حركة حماس، أسامة حمدان، الذي شدد على أن وقف العدوان الإسرائيلي الشامل هو الشرط الأساسي لأي تهدئة، محذرًا من محاولات كسب الوقت لصالح “إسرائيل”، ومؤكدًا في الوقت ذاته على ثبات موقف المقاومة.
ويرى حمدان في تصريحات أدلى بها لـ“الجزيرة” أن أي محاولات تستهدف تفكيك علاقة المقاومة بجبهات الإسناد على مستوى المنطقة لن يكتب لها النجاح، وأنها مؤامرة مفضوحة ومكشوفة ولن تنطلي على أحد، لافتًا إلى أن وقف الاعتداءات الإسرائيلية في المنطقة بشكل كامل وعلى مختلف الجبهات هو الشرط الأساسي لأي تهدئة.
“حزب الله” في مأزق
منذ اليوم الأول للتصعيد الأخير في الجنوب اللبناني في أعقاب تفجير سلسلة البيجرات اللاسلكية وما تلاها من استهداف قوة الرضوان، والتغول أكثر في العمق اللبناني وبداية موجات النزوح للشمال، تبنى الإعلام العبري خطابًا سياسيًا واضحًا، يتعلق بدعم وتكثيف الضغط على “حزب الله”، داخليًا وخارجيًا، وإحراجه سياسيًا وعسكريًا، من أجل القبول بالإملاءات الإسرائيلية والرضوخ لأجندة تل أبيب الرامية إلى تفكيك جبهات الإسناد وتعزيز عزلة المقاومة في غزة.
ويميل نتنياهو وغيره من خبراء النخبة السياسية والعسكرية في الداخل الإسرائيلي إلى أن الضغط على “حزب الله” سيخدم المساعي الإسرائيلية في الوصول إلى صفقة تبادل مع حماس باعتبار أن عزلها عن الجبهة الشمالية سيمثل ضغطًا على الحركة ويدفعها هي الأخرى لتقديم تنازلات.
ومن هنا تعزز “إسرائيل” ضغوطها على الحزب اللبناني، ملوحة بورقة الاجتياح البري واختراق كل الخطوط، الخضراء والحمراء، كما أن مشاهد النزوح لعشرات آلاف اللبنانيين إلى الشمال والوسط تمثل هي الأخرى ضغطًا قويًا على الحزب، خاصة مع ضبابية الإسناد الإيراني وغياب الدعم المنتظر والمتوقع، في ظل التصريحات الأخيرة الصادرة عن الرئيس الإيراني والتي تميل أقرب للتهدئة وعدم التصعيد، وإن تضمنت بعض القنابل الصوتية المعتادة.
وكانت صحيفة “إسرائيل اليوم” قد نقلت صباح أمس عن مصدر سياسي لم تكشف عن هويته، رسالة تحذير واضحة للحزب وقياداته السياسية والعسكرية، بل وللحكومة اللبنانية ومختلف أطياف اللون السياسي هناك، وذلك بقوله إن “رفض نصر الله (مقترح الهدنة) سيعطي “إسرائيل” الشرعية لتعميق العملية العسكرية” في لبنان، مع الوضع في الاعتبار الضغوط التي يتعرض لها نتنياهو من الليكود واليمين المتطرف بشأن الاستمرار في التصعيد وعدم الاستجابة لأي جهود تهدئة، كما نقلت هيئة البث عن أعضاء بالليكود قولهم: “إذا ذهب نتنياهو إلى وقف إطلاق النار فسنعيد النظر في تصويتنا على إقرار الميزانية”.
حتى الساعة، يرفض “حزب الله” تلك الضغوط رغم شدتها، ويصر على البقاء كجبهة إسناد، مصعدًا من عملياته واستهدافاته للعمق الإسرائيلي حتى تجاوز حيفا إلى قلب تل أبيب، وهو ما لم يحدث منذ بداية الحرب، الرد الذي ربما لم يتوقعه نتنياهو رغم التزام الحزب بقواعد الاشتباك فيما يتعلق بتجنب استهداف المدنيين والاكتفاء بالأهداف العسكرية دون غيرها.
لكن يبقى السؤال: إلى متى يصمد الحزب في مواجهة تلك الضغوط؟ وماذا لو رضخ نتنياهو لضغوط اليمين المتطرف وشن عملية برية في الداخل اللبناني؟ وهي الخطوة التي ستقلب الطاولة وتُدخل المنطقة بأسرها في مرحلة لا يمكن التنبؤ بمآلاتها، ويعي نصر الله خطورتها جيدًا وتداعياتها على مستقبل الحزب سياسيًا وعسكريًا.
في ضوء ما سبق فإن المبادرة الفرنسية الأمريكية، وبعيدًا عن قراءاتها الوردية، فإنها تضع “حزب الله” أمام مأزق سياسي وعسكري كبير، وعليه الاختيار بين قبولها بشكل فردي ما يعني خيانته “إن جاز استخدام هذا المصطلح” للمقاومة في غزة، أو رفضها واشتراط أن يكون الكل في الكل هو الخيار الوحيد، والتأكيد على أن أي تهدئة لا يمكن أن تتم دون المرور بغزة أولًا، وهو ما قد يمنح نتنياهو وحلفاءه المبرر لشن عملية برية واسعة في الداخل اللبناني، ما لم يكن هناك ضغوط قوية تلجم الحكومة الإسرائيلية عن تلك المغامرة، وإن كان الأمر يتوقف بنسبة كبيرة على أداء الحزب في الساعات القادمة وقدرته على إرباك حسابات حكومة الاحتلال وإيصال رسائل قاسية حول التداعيات المحتملة لهذا التصعيد على أمن واستقرار الكيان والتلويح بورقة خرق قواعد الاشتباك التقليدية وتجاوز الخطوط الحمراء كما فعلت “إسرائيل”.
وفي الأخير فإن لـ”حزب الله” إزاء هذا الأمر مقاربات عدة، بعضها يتعلق بعدم الانجرار نحو حرب مفتوحة تقضي على مكتسباته خلال العقدين الماضيين، وأخرى تدفعه للتصدي وحفظ ماء الوجه وإعادة التوازن لمعادلات الردع بعدما خرقتها “إسرائيل” لصالحها من خلال التصعيد الأخير، وبين هذا وذاك تبقى الكثير من السيناريوهات على طاولة النقاش والباب مفتوحًا لكل الاحتمالات.