في تدخل أثار استهجان المجتمع الليبي، أعلن وزير الداخلية في حكومة الوحدة الوطنية الليبية، عماد الطرابلسي، في 6 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري عن عودة دوريات شرطة الآداب للعمل في شوارع ليبيا ابتداءً من ديسمبر/ كانون الأول المقبل، بذريعة الحفاظ على تقاليد المجتمع.
إجراء يرى فيه كثيرون تضييقًا يفتح الباب لتدخل السلطة في حريات الناس لا سيما النساء، بالخصوص مع حديث الوزير عن فرض الحجاب على الليبيات في المدراس والجامعات وأماكن العمل.
ولطالما تأثرت ملايين النساء في منطقتنا من استخدام الحجاب كأداة قمعية أو “تحريرية”، ما يحيلنا إلى ضرورة تفكيك العلاقة بين الحجاب والهوية السياسية التي تُحارب النساء من أجلها تارةً وبسببها تارةً أخرى.
نستعرض هنا 5 نماذج من ليبيا وتونس وتركيا وإيران والسعودية، عملت فيها السلطات إما على فرض خلع الحجاب وإما فرض ارتدائه في المساحات العامة والخاصة لفترات متفاوتة، بحجّة تحقيق نقلة حضارية أكثر انفتاحًا وأقلّ رجعية، أو بذريعة الحفاظ على قيم المجتمع وتقاليده.
ليبيا: تحوّل الوزارات إلى جهة تشريعية
في محاولة منه لخلط الأوراق واستغلال زيّ النساء الليبيات لصالح التغطية على مشاكل أكثر إلحاحًا، لجأ وزير الداخلية الليبي، عماد الطرابلسي في أحد المؤتمرات الصحفية المخصصة للحديث عن عمليات تهريب الوقود من ليبيا إلى السودان وما نتج عنها من أزمة نقص حادة، إلى إعلان نية الحكومة إعادة تفعيل “شرطة الآداب” بالتعاون مع الجهاز الأمني الليبي، بهدف “ردع أعمال النساء المنافية للآداب وفرض الحجاب الإلزامي على الطالبات في المدارس”، بعد إقراره من قبل وزارة التعليم.
كما اقترح على مجلس النواب الليبي استصدار قرار يفرض الحجاب على العاملات في مؤسسات الدولة، ونبّه من سفر المرأة من دون محرم، داعيًا لإلقاء القبض على كل من “يتشبّهون بالأوروبيين” ومشجعًا إياهم للهجرة إلى أوروبا، بقوله “من يريد العيش كالأوروبيين فليذهب إلى أوروبا حيث يوجد حرية شخصية”. مؤكدًا على قدرة الشرطة النسائية وشرطة الآداب في منع الاختلاط في المقاهي والأماكن العامة، حال توفير الحكومة الموارد اللازمة لإعادة تفعيلها.
وأكد الطرابلسي الذي كان يشغل سابقًا مدير جهاز الاستخبارات الليبي، استعداده للسماح لأفراد “شرطة الآداب” باقتحام المنازل واعتقال كل من يُشتبه بارتكابه جريمة أخلاقية، رغم أن ليبيا ليس فيها أماكن أو بيوت مرخصة للدعارة، أو أماكن لشرب وبيع الخمور بشكل علني. عدا عن أن تشريعات كهذه ستفتح بابًا كبيرًا للانتهاكات القانونية والأمنية، وتثير حساسية كبيرة في المجتمع الليبي المحافظ.
برر مصدر مقرّب من الطرابلسي تصريحات الأخير بأنها جاءت بعد إطلاع الوزير على تقارير تفيد بانتشار الجرائم الأخلاقية في عموم ليبيا. فيما اعتبر محللون سياسيون وناشطون حقوقيون ليبيون أن الطرابلسي بالغ في تصريحاته، فأعطى صورة مخلّة عن المجتمع الليبي، مظهرًا من كلامه أن ليبيا باتت “مرتعًا للدعارة وتجارة الجنس”.
وهذا مخالف للواقع بطبيعة الحال، إذ رغم انتشار مخيمات معسكرات اللاجئين الأفارقة بكثرة، وارتفاع نسب العنف والجريمة والإتجار بالمخدرات في هذه المجتمعات الصغيرة، إلا أن الأمر لا يزال يمكن السيطرة عليه حال قيام الحكومة بواجبها وتنفيذ وعودها.
عدّ بعض المحللين السياسيين أن تصريحات الطرابلسي تنطوي تحت أهداف أوسع، إذ يحاول من خلالها مغازلة صدام حفتر الذي يسيطر على مناطق شرق ليبيا، وكسب ثقة الإداريين في معسكراته. إذ يرى المحلل السياسي فرج دردور، أن صدام حفتر قد يذهب إلى التعاون مع عماد الطرابلسي، ما دام نشاط وزارة الداخلية لا يقوّض صلاحيات حفتر في مناطق سيطرته.
يعود تاريخ نشأة شرطة الآداب في ليبيا إلى فترة حكم معمر القذافي، وتتمثل في قوة أمنية من الرجال والنساء المكلفين بمراقبة السلوكيات العامة، وضمان التزام الأفراد بالمعايير الاجتماعية والدينية المتعارف عليها. ورغم ضعف هذا الجهاز الأمني وإدارته من قبل شخصيات متعصبة وكبيرة في السن، إلا أن محاولات إنعاشها من قبل الحكومات المتعاقبة مستمرة منذ عدة سنوات.
فقد أظهر خطاب مرسَل عام 2021 إلى وزير الداخلية الليبي السابق، اللواء خالد مازن، مقترحًا باستحداث إدارة الآداب العامة وشرطة الآداب، لتولي بعض المهام الجديدة منها ضبط كل ما يشكل مخالفة صريحة للآداب في المساحات والأماكن العامة، وإزالة كل ما يشكل مخالفة للآداب العامة، مثل الصور والمجسمات التي يعرضها التجار في واجهات المحال، وغير ذلك.
يُظهر النمط المتكرر الذي تفرضه سلطات الأمر الواقع أن استغلال الحرية الدينية للمرأة المتمثل في ارتداء الحجاب أو خلعه، أو في منع التنقل والتعلّم والعمل، ليس مجرد ممارسة تمييزية ضد فئة معيّنة، بل هو بداية لمسار أكثر اتّساعًا نحو حكم سلطوي استبدادي.
لأن استغلال الهوية الدينية للنساء ووصمهن بوصمة اجتماعية إقصائية، كما عبّر عنها الطرابلسي في حديثه، يمتدّ ليزرع بين فئات المجتمع المختلفة شعورًا دائمًا بالرقابة، فيصبح المجتمع بأسره في حالة من الانقسام، حيث يتحول كل فرد إلى مراقب أو “شرطي” على سلوك الآخرين، ما يعزز من أجواء الخوف والانعزال، ويكبح أي محاولة للتغيير الاجتماعي أو السياسي.
تونس: هكذا أضحى السفساري لباسًا طائفيًا
حارب الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة طوال سنوات حكمه شبحًا لم يرَه أحد غيره، تمثل في منع وملاحقة كل أشكال “التطرف الإسلامي” في أنحاء تونس. حيث بدأ مع إغلاق جامع الزيتونة، إحدى أهم المؤسسات الدينية والعلمية في العالم الإسلامي.
وقدح القرآن في خطاباته الرئاسية ووصفه بالتناقض، ثم بالدعوة إلى ترك الصيام والدعوة إلى المجاهرة بالإفطار، وصولًا إلى التجرؤ على نزع “السفساري”، أحد أشهر الألبسة التقليدية التونسية، عن رأس إحدى النساء، ووصم كل من ترتديه “بالتخلف والرجعية” عام 1960 عبر شاشة التلفزيون التونسي.
ومضى في تحويل عدائه للإسلام إلى قوانين أمر واقع بإصدار منشور عام 1981 عُرف لاحقًا باسم المنشور رقم 108، منع بموجبه النساء من ارتداء الحجاب في المؤسسات الحكومية والمساحات العامة، بوصفه “زيًّا طائفيًا”.
ثم عاود إحكام تطبيق هذا المنشور بقانون رسمي صدر سنة 1986 اختص فيه العاملين والدارسين في مؤسسات التعليم بنص صريح، جاء فيه “وجوب الظهور بالهندام السوي الذي لا يوحي بما يعدّ تطرفًا أو خروجًا عن المألوف”، في إشارة مباشرة إلى منع المعلمات والطالبات من إرتداء الحجاب أو “التوربان” أو الملاءة التونسية داخل المدارس.
نتيجةً لهذه السياسات القمعية، أصبحت رؤية الحجاب في المساحات العامة قليلة جدًّا مقارنةً بما كانت عليه سابقًا، واضطرت مئات التونسيات للتخلي عن وظائفهن في مؤسسات الدولة والتعليم، كما توقفت آلاف الشابات عن ارتياد الجامعات والمدارس.
على الجانب الآخر، ظهر نوع من التحدي لسياسة بورقيبة بامتناع نسبة كبيرة من النساء عن المشاركة في الحياة الاجتماعية، عبر حبس أنفسهن في البيوت، ورفض مغادرتها احتجاجًا على جعل مسألة الحجاب شأنًا سياسيًا بتشريعات تحدّها الدولة.
تولّدت هذه الإجراءات بشكل كبير عن قناعات شخصية ومخاوف سياسية يحملها بورقيبة تجاه الإسلام ككتلة سياسية كان يخشى توسعها في تونس، إبّان حكمه في الفترة الممتدة 1957-1987، وقد أسّس بسياسته هذه أرضية ثابتة لملاحقة كل مظاهر الإسلام باختلافها.
داوم زين العابدين بن علي على نهج بورقيبة أثناء حكمه في فترة 1987-2011، حيث أعلن في أول خطاب له في مارس/ آذار 1988 تمسّكه بنهج بورقيبة بما يخص مسألة المرأة والحجاب، وأكد على عدم نيته التراجع عن المكاسب التي حققتها مجلة “الأحوال الشخصية” (مجلة نُشرت فيها سلسلة من التشريعات الجديدة المتعلقة بأحوال المرأة والأسرة التونسية).
فأجبر طالبات الجامعات التوقيع على ما عُرف حينها “إقرار بشرط دخول الجامعة برأس مكشوف”، وملاحقة المخالفات لهذا الشرط قانونيًا عبر القضاء. وعليه مُنعت الحوامل في كثير من الحالات من دخول المستشفيات إذا كنّ محجبات، كما نشر دوريات لرصد الحجاب في الشوارع ووسائل النقل، واُقتيدت الفتيات إلى مراكز الشرطة للتغريم.
حاول بن علي الحدّ من اتساع رقعة الإسلاميين عبر هذه التشريعات القمعية منذ ترؤّسه البلاد، لكن وتيرة القمع ازدادت بشكل كبير عندما ظهر تقدم المعارضة الإسلامية في مجلس النواب خلال الانتخابات التشريعية عام 1989، ما جعل مكافحة المعارضة الإسلامية من جذورها من أولويات مصالحه الأمنية.
ولم تستطع التونسيات الخلاص من بطش الاستبداد السياسي وما فرضه عليهن لعقود إلا بعد خلع بن علي عن سدة الحكم عام 2011، حينها عاود الحجاب الظهور بكثرة في شوارع تونس.
تركيا: قمع واستغلال الحجاب من قبل الأحزاب العلمانية
في عام 1925 أجمع أعضاء برلمان الأمة برئاسة مصطفى كمال أتاتورك، على سنّ قانون يمنع الموظفات في المؤسسات الحكومية من تغطية رؤوسهن خلال ساعات العمل، بمرسوم رقم 2413، جاء بالاعتماد على قانون مدني جديد تم بموجبه التخلي عن الشريعة الإسلامية في الحكم.
ورغم أنه لم يتم منع الحجاب في المساحات العامة، إلا أن هذه الإجراءات التي قامت بشكل كبير على مفاهيم أتاتورك الشخصية حول التقدم والانفتاح، عززت من فكرة أن ارتداء الحجاب والطربوش وإظهار أي من مظاهر التدين تشير إلى زمن التخلف العثماني.
واستمرت محاولات العلمانيين بإلحاق الأمة التركية بالغرب باعتباره نموذجًا للتقدم الحضاري المنشود والنهائي، ومنع الإسلاميين من إظهار شعائر الدين الإسلامي والامتثال لها لسنوات طويلة من تاريخ تركيا السياسي. أبرزها بدأ عقب الانقلاب العسكري الذي نفّذه الجنرال كنعان إيفرين يوم 12 سبتمبر/ أيلول 1980، حيث تم على إثره منع المحجبات من دخول الجامعات وكل المؤسسات التعليمية.
تلاها إغلاق مدارس الشريعة والخطباء مع انقلاب الجيش في 28 فبراير/ شباط 1997، الذي أطاح بحكومة حزب الرفاه الإسلامية برئاسة نجم الدين أربكان، واعتبر على إثره مجلس الأمن القومي “الحجاب تهديدًا لقيم الجمهورية التركية”، في قرار تاريخي دفعت المسلمات ثمنه من حريتهن لسنوات.
عانت المحجبات وعائلاتهن خلال هذه الفترة الطويلة من قمع شديد طال كل مناحي الحياة، فمُنعن من دخول المدارس الحكومية، وعوقبت خريجات الثانويات الإسلامية بتخفيض درجاتهن أثناء التقدم لامتحان الجامعة، كما حُظر عليهن التكريم في الاحتفالات الأكاديمية، حتى وصل الأمر إلى طرد الجنود الذين لديهم أخوات أو أمهات محجبات من الجيش التركي، فاتّسمت تلك الفترة بمحاربة الحجاب وكل ما يمتّ للإسلام بصلة.
في حادثة تاريخية في مسيرة النضال النسائي في تركيا، تمّ طرد مروة قاوقجي من جلسة للبرلمان عام 1999 بعد فوزها كنائبة عن حزب “الفضيلة”، والتهجّم عليها من قبل الأحزاب العلمانية ومنعها من أداء اليمين الدستورية لارتدائها الحجاب، كما قاموا بملاحقتها قانونيًا عبر القضاء حتى سُحبت منها الجنسية واستصدروا بحقها عدة أحكام بالسجن، ما اضطرها للهرب إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
استطاع حزب العدالة والتنمية بوصوله إلى سدّة الحكم بزعامة أردوغان إلى إعادة حق ارتداء الحجاب تدريجيًا بمختلف الميادين، في إطار الحريات الدينية والشخصية التي يكفلها الدستور التركي، عبر العمل بسياسة النفس الطويل في القضايا القانونية، مستفيدًا من ازدياد شعبية الأحزاب المحافظة. وفي عام 2013 أعلن حزب العدالة والتنمية عن نهاية الحظر المفروض على ارتداء الحجاب في المؤسسات الحكومية، ضمن حزمة من التعديلات الهادفة إلى تمكين الديمقراطية.
اليوم، لا تزال الأحزاب اليسارية العلمانية تعاود تصدير قضية الحجاب للمشهد السياسي مع كل انتخابات رئاسية ومحلية جديدة، لاستخدامها في إثارة النعرات والمناكفات السياسية، نتيجة قلقها من ازدياد التأييد الشعبي للأحزاب المحافظة، وعودة تركيا إلى الحكم الإسلامي.
كما قام رئيس الحزب الجمهوري العلماني السابق، كمال كليجدار أوغلو، باستغلال الحجاب سياسيًا في المرة أخيرة لصالحه، عبر التقدم بمقترح إلى البرلمان لسن قانون يضمن حرية ارتداء المرأة الحجاب في مؤسسات الدولة ضمن الدستور التركي، في إطار حملته الانتخابية عام 2022 التي خرج على إثرها من سباق الترشح نهائيًا.
إيران: الحجاب في إيران إما محظور وإما مفروض
زار رضا بهلوي، مؤسس الدولة البهلوية في إيران، تركيا عام 1934 والتقى بنظيره كمال أتاتورك، الذي كان قد أجرى تغييرات جذرية في مؤسسات الدولة، نالت إعجاب بهلوي وسعى إلى تقليدها، حيث سارع بعد عودته إلى إيران لإنفاذ قانون عُرف لاحقًا باسم “کشف حجاب در إيران”، أي “نزع الحجاب عن إيران”.
فأطلق حملة ترويجية لتهيئة الرأي العام الإيراني، حضر خلالها اجتماعات ومهرجانات قدمتها نساء لا يرتدين الحجاب. ولم يلبث أن أصدر أوائل عام 1936 مرسوم “كشف الحجاب” الذي أقرّ فيه حظر ارتداء الملاءة والحجاب في كل مكان، في أولى مظاهر أشكال قمع النساء الإيرانيات.
تعرضت النساء الإيرانيات المحافظات خلال فترة حكم بهلوي لنوع مختلف من الإقصاء، يتمثل في حبسهن داخل مستوى اقتصادي معيّن من خلال منعهن من تحصيل مستوى تعليم عالٍ، ما أدى إلى بقائهنّ في إطار طبقة اجتماعية معينة. حيث امتنعت عائلات الطبقات الفقيرة المحافظة عن إرسال بناتهن إلى المدارس والجامعات، فلم يتسنَ لهنّ الالتحاق بركب باقي الفتيات، ما خلق تفاوتًا كبيرًا بين نساء المجتمع.
في عام 1938 تقريبًا، نشرت مجلة “الإثنين والدنيا” المصرية مقالة تناولت أحوال المرأة الإيرانية، وجاء فيها أن “إيران تنقسم اليوم إلى قسمين: مدن عامرة كبيرة، وصحارى تحتاج الدواب في قطعها إلى وقت طويل ترتدي نساؤها ملابس أهل الريف في مصر، أما سيّدات الطبقتين المتوسّطة والراقية، فقد اتّخذن الزيّ الفرنجي لباسًا، ومن يشاهدهن لا يعرف أنهن شرقيات إلا من السمرة الخفيفة في وجوههن”.
أُسقط قانون “كشف الحجاب” عام 1943 على يد محمد رضا بهلوي الذي خلف والده في الحكم، بطلب أحد مرجعيي الشيعة آية الله حسين الطباطبائي، لكن نضال النساء الإيرانيات للتخلص من سطوة الدولة على حريتهن الدينية لم ينتهِ هنا، فقد عاودت السلطات بأمر من الخميني فرض الحجاب الإلزامي وتحديد نوعه ولونه “المناسب” المتمثل بالشادور الأسود عام 1979، وبدأت معه معاناة معاكسة تمامًا لما كان عليه الوضع قبل سنوات.
تعتمد السلطات الإيرانية في فرض الحجاب على العنف الشديد، منذ الأيام الأولى التي تلت انتصار الثورة الإسلامية، إذ قامت الشرطة في أول مظاهرة خرجت للاعتراض على إلزامية الحجاب بضرب الجميع بالعصيّ، وهم يرددون “غطاء الرأس، أو ضرب الرأس”. كما انتشرت عام 2015 موجة هجمات بالأسيد (مادة حارقة) على النساء، اتهمت خلالها مجموعة دينية متشددة بالوقوف ورائها.
فيما لم تتحرك السلطات لملاحقة هذه الجماعة أو إيقاف اعتداءاتها، حتى خرجت مظاهرات كبيرة من الرجال والنساء اعتراضًا على موقف الشرطة المتساهل. يقول أستاذ علم الاجتماع في جامعة طهران، محمود جعفر زاده، أن الأساليب التي تستخدمها “شرطة الأخلاق” الآن لفرض الحجاب هي ذاتها التي استخدمتها الشرطة في عهد الشاه لمنعه.
السعودية: الحرية طوع للدعاية الاقتصادية
استطاعت السلطات السعودية الهيمنة على حرية المرأة بكل جوانبها لعقود طويلة يمكن إرجاعها إلى تأسيس دولة السعودية الأولى عام 1727، في نتيجة حتمية لقيامها على تحالف سلطوي ديني بين محمد بن سعود الذي كان زعيمًا قَبَليًا لمنطقة وسط شبه الجزيرة العربية، والداعية الإسلامي محمد بن عبد الوهاب، بعد لجوئه إلى الأخير هربًا من القرى المجاورة بسبب دعوته إلى الأصولية.
ويعود هذا الربط الذي يرى العديد من الباحثين أنه أصل المشكلة، إلى العلاقة التي تجمع المؤسسة الدينية بالنظام السياسي، إذ إن الحكومة السعودية كانت تتمتع باستقلالية نسبية في سياساتها الخارجية ورسم الخطط الاقتصادية، غير أن بناء سياسات الداخل والإشراف عليها فيما يتصل بالجوانب التعليمية والتربوية، ظلت رهن المؤسسة الدينية وصنيعتها الذاتية بما ينسجم مع تصوراتها، وهو ما يمكن تسميته بازدواجية السلطة.
وقد شاهدنا كيف حرّمت سلطة “هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” المباح، ففرضت النقاب والعباءة السوداء (حصرًا) لعقود في المساحات العامة والخاصة، واتهمت بعدة انتهاكات منها زيادة عدد ضحايا حريق مدرسة البنات في مكة عام 2002، بعد طردهم أولياء الأمور ورجال الإطفاء والإسعاف الذين حاولوا إنقاذ البنات، بحجّة أنهن لا يرتدين الحجاب، إذ طالبت حينها منظمة هيومان رايتس ووتش السلطات السعودية بإجراء تحقيق جديد يمتاز بالشفافية لكشف حقيقة ما جرى.
كما ساهمت الحكومة السعودية في إطباق الخناق بتمكين قوانين تحدُّ من الحرية الشخصية والمالية للمرأة السعودية، حتى بات يُنظر إليها في عين القانون على أنها كيان لا يتمتع بالأهلية الكافية. وأُجبرت على الخضوع لنظام “ولي الأمر” في تسيير شؤونها الخاصة، وقانون “الوكيل” في حياتها المهنية حتى أصبح بمثابة ترخيص قانوني لا يمكن لها العمل من دونه. كل هذا دون وجود مسوّغ ديني أو نصّ قرآني يمكن الاستناد عليه.
تستغل اليوم السلطات السعودية تحت غطاء الإصلاح الاقتصادي والانفتاح الذي يقوده محمد بن سلمان، حجاب المرأة وعباءتها وقيادتها للسيارة، لصالح تلميع رؤيته على المدى البعيد، وليس من أجل تحويل المملكة إلى نظام أكثر انفتاحًا يراعي حقوق ومصالح السعوديين والسعوديات بالتساوي ودون تمييز، وليس أدل على ذلك من أن تعرف أن الناشطة سلمى شهاب لا تزال حتى يومنا هذا تقضي حكمًا بالسجن لمدة 34 عامًا بسبب تغريداتها الداعمة لحقوق المرأة، معها عشرات الحقوقيات اللواتي اُعتقلن في حملة مايو/ أيار 2018.
تعددت أشكال وأسباب حظر الحجاب أو فرضه على مرّ العقود، وتوالت الحجج الواهية التي طُرحت لتبرير هذا التوجه، رغم تناقضاتها الواضحة التي لا تخلو من السخرية. ومع ذلك، تظل الحقيقة ثابتة: المرأة المسلمة التي تختار ارتداء الحجاب تتعرض لنوع خاص من التمييز والاستغلال، يطالها بسبب عقيدتها أولًا وبسبب جنسها ثانيًا، وهذا التمييز يتجاوز الحدود الفردية ليشكل قيدًا اجتماعيًا وثقافيًا ينتهك حقوقها الأساسية.
لذلك، من الضروري التأكيد على أن ارتداء الحجاب هو خيار فردي بحت، ولا يجب التهاون مع جعله محل استغلال سياسي.