أيام قليلة بعد تلميحه باتخاذ إجراءات تحد من نشاط التيار الإسلامي في موريتانيا باعتباره “أشد خطرًا من الكيان الإسرائيلي” وفق قوله، حتى بدأ الرئيس محمد ولد عبد العزيز في تنفيذ تهديده بسحب ترخيص “مركز تكوين العلماء” في نواكشوط، فضلاً عن سحب ترخيص كانت السلطات قد منحته لجامعة عبد الله بن ياسين التي يملكها الإسلاميون ويدرس فيها قادة من تيار الإخوان المسلمين في موريتانيا.
هذه التصريحات المتتالية والإجراءات المفاجئة، أثارت حفيظة الموريتانيين على حد سواء، حتى إن البعض اعتبرها إيذانًا ببدء حرب ضد التيار الإسلامي في البلاد، متهمين بعض القوى الإقليمية بحث ولد عبد العزيز للقيام بذلك، ما من شأنه إدخال البلاد في أزمة جديدة هي في غنى عنها.
بداية الاستهداف
عشية الانتخابات التي شهدتها موريتانيا بداية هذا الشهر، هاجم الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية “تواصل” المحسوب على تنظيم الإخوان المسلمين، ووصفهم بالمتطرفين، وحذر من التصويت لهم.
وقال ولد عبد العزيز في مؤتمر صحفي حينها، إن أحزابًا سياسية تعتنق هذا الفكر خربت البلدان العربية وفككتها، وبالتالي ينبغي سد الباب أمام هؤلاء المتطرفين، مؤكدًا أن الإخوان خطر على موريتانيا وعلى جميع الدول، كما تدل على ذلك الشواهد في دول ما يسمى الربيع العربي، وفق قوله.
https://youtu.be/BPrLJCTTKJE
لم يكتف الرئيس الموريتاني بذلك، بل خرج في الـ20 من سبتمبر/أيلول الحاليّ، قائلاً: “الإسلام السياسي خطير”، وتابع ولد عبد العزيز معلقًا على نتائج الانتخابات التشريعية والجهوية والبلدية التي جرت في 1 و15 من سبتمبر/أيلول وجاء فيها الاسلاميون في المرتبة الثانية: “ليس من الطبيعي أن يستغل حزب لوحده الإسلام ويحتكره، هذا غير مقبول ولن يكون مقبولاً في المستقبل”.
وقال الرئيس الموريتاني في تلك التصريحات: “إسرائيل أرحم من جماعات الإسلام السياسي التي دمرت العالم العربي والإسلامي”، وأضاف أن الإسلام السياسي قاد الدول العربية إلى الدمار والفشل وجعل “إسرائيل” في وضع مريح دون أن تتكلف شيئًا في ذلك، وألمح إلى “إجراءات ستتخذ في الوقت المناسب”.
حذر رئيس حزب “تواصل” من الدفع نحو توتير الوضع في موريتانيا
ومكنت انتخابات موريتانيا، حزب تواصل من الحصول 14 نائبًا في البرلمان، مثلت الرتبة الثانية بعد نصيب الحزب الحاكم، كما حصل على إدارة تسع بلديات، فيما وصل عدد مستشاري البلديات للحزب منفردًا 292 ووصل عددهم مع حلفائه من المعارضة 448، وكسب الحزب 31 مستشارًا في المجالس الجهوية منفردا، و79 مستشارًا مع حلفائه.
في اليوم التالي، رد الداعية الإسلامي البارز محمد الحسن ولد الددو الذي يعد من أبرز المرجعيات العلمية الإسلامية بموريتانيا، بشكل غير مباشر، على ولد عبد العزيز، قائلاً إن الدول العربية دُمرت بسبب الاستبداد والظلم وهي الأسباب الرئيسية لزعزعة استقرار الدول التي عصفت بها الاحتجاجات منذ نهاية العام 2010، وأوضح الشيخ ولد الددو في خطبته لصلاة الجمعة، أنه لا يجوز تفضيل الإسرائيليين على المسلمين.
فيما قال رئيس حزب “تواصل” الإسلامي بموريتانيا محمد محمود ولد سيدي إن تهديدات الرئيس محمد ولد عبد العزيز باستهداف الحزب تأتي في إطار مساعيه لخرق الدستور من أجل الحصول على ولاية رئاسية ثالثة.
ووصف اتهام الرئيس للحزب الإسلامي بالتطرف والإرهاب بأنه “فرية وكذبة”، وأضاف أن الانتخابات أثبت أنهم جزء من نسيج المجتمع، لا يمكن القضاء عليه أو عزله، وشدد على أنهم لن يقبلوا المساومة على خرق الدستور، وقال إن الحصول على ولاية ثالثة “أمر مرفوض ولن يقبله الحزب تحت أي ظرف”.
وحذر رئيس حزب “تواصل” من الدفع نحو توتير الوضع في موريتانيا، ومن استيراد المعارك الخارجية لأن ذلك لا يخدم استقرار الوطن، ودعا المعارضة إلى التعجيل بتقييم الوضع واتخاذ خطوات تمنع الحكم الاستثنائي، ومن أجل التناوب السلمي على السلطة عام 2019، بعد انتهاء ولاية الرئيس الثانية والأخيرة.
إجراءات عاجلة
لم ينتظر الرئيس الموريتاني كثيرًا لتنفيذ وعيده، حيث أمر الإثنين الماضي بغلق وسحب ترخيص مركز تكوين العلماء الذي يرأسه العلامة الشيخ محمد الحسن ولد الددو، وذلك بعد ساعات من تطويق مقره المركزي في العاصمة نواكشوط من طرف قوات تابعة لجهاز الأمن.
ومركز تكوين العلماء مؤسسة تعليمية شرعية أنشأها ولد الددو منذ سنوات، تسعى إلى إعداد علماء مؤهلين لاستيعاب إشكاليات الواقع وتقديم الحلول الشرعية لها، وتخريجهم عبر المزاوجة بين التعليم النظامي والحديث، وما يعرف محليًا بـ”التعليم المحظري”، ويسهر على تدريس الطلبة القادمين من مختلف أنحاء العالم، 45 من كبار العلماء الموريتانيين.
سبق للسلطات الموريتانية، أن بادرت في 2014 إلى حل الذراع الدعوية لحزب تواصل، بعد ذلك بيومين، سحبت الحكومة الموريتانية، ترخيص جامعة عبد الله بن ياسين الخاصة التي يرأس مجلسها العلمي الشيخ محمد الحسن ولد الددو المحسوب على تنظيم الإخوان المسلمين، وأشعرت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، من خلال خطاب رسمي إدارة الجامعة بسحب ترخيصها.
وتقول الجامعة في تعريف عن نفسها إنها “تستند إلى الماضي، وتعايش الحاضر، وتستشرف المستقبل، في عملية مركبة، تحافظ على الثوابت وتستجيب للمتغيرات وتصل حاضر البلد بماضيه لتصنع زاهر مستقبله”.
جاء في قرار أصدرته وزارة التعليم العالي أنه تم إلغاء عقد الإنشاء الموقع بين جامعة عبد الله بن ياسين ووزارة التعليم العالي منذ 2010، وهو العقد الذي كان يسمح للجامعة بالعمل كجامعة خاصة إلى جانب مؤسسات التعليم العالي الموريتانية.
حرب متواصلة يشنها النظام ضد الإسلاميين منذ سنوات
هذه الإجراءات يقول مسؤولون موريتانيين إنها تدخل ضمن توجه للحكومة والسلطات الموريتانية نحو ما تسميه “محاربة التطرف” الذي تتهم به بعض المحسوبين على جماعة الإخوان المسلمين، وفي مقدمتهم الشيخ محمد الحسن ولد الددو وحزب “تواصل”، إلا أن العارف بالشأن الموريتاني يرى أن هذه الإجراءات تتنزل في إطار حرب متواصلة يشنها النظام ضد الإسلاميين منذ سنوات.
أقدمت السلطات الموريتانية، على غلق العديد من الكتاتيب القرآنية ومنع التدريس فيها، ومارست أيضًا التضييق ضد القيادات الإسلامية في البلاد وعلى أتباعهم أيضًا وكل من له صلة بالإسلاميين في هذا البلد العربي المسلم.
ضرب “تواصل”
لئن عرف مسار العلاقة بين النظام والإسلاميين في موريتانيا محطات عديدة من التقارب والخلاف منذ وصول ولد عبد العزيز إلى السلطة بانقلاب عسكري على الرئيس المنتخب سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله عام 2008، فإنها المرة الأولى التي يجرؤ فيها النظام على القيام بمثل هذه الإجراءات.
ويرجع هذا حسب عدد من المطلعين على الشأن السياسي في موريتانيا إلى تصاعد قوة “تواصل”، وعرفت حركة تواصل في السنوات الأخيرة، صعودًا كبيرًا في المشهد السياسي والاجتماعي الموريتاني، حيث أخذت لنفسها مكانة معتبرة في المجالات السياسية والاجتماعية خاصة من خلال قدرتها التنظيمية، والانكماش الحاصل في باقي أحزاب المعارضة والسلطة على حد سواء، إضافة إلى حالة السأم السياسي التي يمر بها الشباب الموريتاني.
ويعد حزب تواصل حزبًا حديث النشأة، حيث تم الترخيص له في العام 2007، ولكن التيار الذي يمثله ظل يمارس السياسة إما من خلال أحزاب قائمة، أو من خلال أطر وواجهات أخرى، بعد أن رفضت الأنظمة المتعاقبة على حكم البلاد الترخيص لهم واتهمته بالسعي للانفراد بحمل لواء الإسلام دون بقية الأحزاب الأخرى، وهو ما رفضه أعضاء الحزب ورأوا ذلك محاولة تبرير يائسة لإقصائهم سياسيًا.
وتعمل الحركة وفق قياداتها، على ملء الفراغ الناتج عن عسكرة الدولة وضعف المشاريع السياسية القائمة حاليًّا في الساحة الموريتانية، نتيجة إحكام نظام الرئيس محمد ولد عبد العزيز سيطرته على مفاصل الدولة وتطويعها خدمة لأهدافه وتوجهاته.
يعمل النظام على فك ارتباط “تواصل” مع باقي أحزاب المعارضة في البلاد
يسعى النظام الموريتاني إلى ضرب هذه القوة الصاعدة، من خلال إقناع الموريتانيين أن “تواصل” نفسها “القاعدة” و”داعش”، وأفكار هذه الحركة وأهدافها تتماهى تمامًا مع ما تدعو إليه باقي التنظيمات الجهادية المسلحة في المنطقة.
ويعمل النظام على فك ارتباط “تواصل” مع باقي أحزاب المعارضة في البلاد، لأنه يعلم أن أي حرب قادمة ضد الإسلاميين في البلاد، ستزيد من شعبيتهم وستزيدهم قوة ذلك أنهم سيلقون دعمًا كبيرًا من مختلف الأطراف السياسية المعارضة في البلاد.
ومن المنتظر أن يحظى الإخوان بدعم من القوى الشبابية المعارضة واليسارية في موريتانيا وحتى المعارضة التقليدية في حال دخلوا في مواجهة سياسية مع الحكومة القائمة، ولكن الواقع يقول إن الإجماع السياسي متعذر إلى حد كبير، وهو ما يضع على عاتق الإخوان مهمة قراءة الواقع أكثر قبل الدخول في أي مواجهة مع النظام حتى لا يحصل ما لا يمكن توقعه.
فتش عن الإمارات
هذه الحملة ضد الإسلاميين في موريتانيا، وجدت صدى كبيرًا لها في الإعلام التابع للإمارات ومصر والسعودية، واحتفاءً منقطع النظير، حتى إن البعض منهم وصف الإجراءات بالضربات الموجعة لجماعة الإخوان “الإرهابية” في موريتانيا، ووصفها آخرون بالضربات القاسية.
هذه الهجمة ضد إسلاميي موريتانيا من بعض المدونين والكتاب من دولتي الإمارات العربية المتحدة ومصر والسعودية، تؤكد وفق العديد من الموريتانيين، الصلة الكبيرة بين ما يحصل في بلادهم وما حصل في بعض البلدان العربية الأخرى، فأينما وجه هؤلاء خاصة الإماراتيين وجههم إلا وحل الخراب.
ولفت الكاتب والباحث الموريتاني محمد مختار الشنقيطي إلى هذا الأمر، حيث قال في تغريدة له عبر حسابه بتوتير، إن العلاقات بين الرئيس الموريتاني وحكام الإمارات سبب كل هذه الحرب على الإسلاميين في موريتانيا.
وقال الشنقيطي: “الثمار المريرة لتقارب حاكم موريتانيا العسكري مع سفهاء أبو ظبي بدأت بالظهور: سحب ترخيص جامعة عبد الله بن ياسين الإسلامية بعد يومين فقط من غلق مركز تكوين العلماء” وتابع مهاجمًا ولي عهد أبو ظبي “شرور محمد بن زايد تمتد من الخليج إلى المحيط”.
الثمار المريرة لتقارب حاكم #موريتانيا العسكري مع سفهاء #أبوظبي بدأت بالظهور: سحب ترخيص جامعة عبد الله بن ياسين الإسلامية، بعد يومين فقط من إغلاق #مركز_تكوين_العلماء.. شرور #محمد_بن_زايد تمتد من الخليج إلى المحيط!!
— محمد المختار الشنقيطي (@mshinqiti) September 26, 2018
يسعى حكام تلك الدول الثلاثة، إلى ضرب الإسلاميين في كل مكان من الخليج العربي إلى المحيط، رغبة منهم في إبعاد كل من ينافسهم الحكم في المنطقة العربية عن طريقهم، ذلك أن الحكم لهم وحدهم ولا يحق لغيرهم الوصول إليه حتى إن اختارهم الشعب عن طريق الصناديق.
ويطرح حزب تواصل نفسه كبديل للنظام السياسي القائم، ذلك أن الأداء العام للحكومة الموريتانية سالب على المستوى الاقتصادي وعلى مستوى حجم الفساد والملف الحقوقي والسياسي، وفق لعديد من المحللين، فضلاً عن أن البلاد عرفت خلال حكم ولد عبد العزيز أسوأ الأزمات على جميع الأصعدة.
من شأن هذه الهجمة المتواصلة ضد حزب تواصل، أن تبقي جميع الاحتمالات مفتوحة بالنسبة لمستقبل الحياة السياسية للحزب، خاصة أن الحقبة التاريخية الحديثة في موريتانيا تشير إلى أن هناك خبرة للنظام في منع الوجود الشرعي لتنظيمات الإسلام السياسي، واستخدام حملات إعلامية وأمنية ممنهجة كأداة لمواجهة الصعود الإسلامي في البلاد.