ترجمة وتحرير: نون بوست
يملك عرب الأهوار جنوب العراق أصدقاء كثيرين وأعداء أكثر، ويبدو أن كفة الميزان قد مالت لصالح الأعداء. وبعد مرور ثلاثة عقود على تدمير مستنقعات القصب والمروج التي تقع في بلاد الرافدين على يد صدام حسين، يبدو أن هذه الأراضي تواجه تهديدا مختلفا هذه المرة. ويبدو أن قطيع الماشية الذي يربيه هؤلاء الفلاحون قد أوشك على الموت، كما أن الأراضي الذهبية التي يمتلكها عرب الأهوار قد جفت أو تم إحراقها. فضلا عن ذلك، تم تسميم المياه.
عاش أحمد سيد صباح كل حياته في أراضي الأهوار، وكان شاهدا على الكوارث التي حلت بها. فقد قتل والده على يد قوات صدام حسين عندما كان صغيرا، وهذا ما أدى إلى نشأته في منفى داخلي بالقرب من بغداد. وبعد سقوط نظام صدام، تمكن صباح من العودة إلى مسقط رأسه وتعلم تربية الجواميس على يد عمه. وبحلول هذه السنة، تمكن الرجل من تشكيل قطيع يضم 20 جاموسا. وأثناء التحدث مع صباح، كان أحد الجواميس يتمرغ في مياه المستنقع الضحلة بالقرب من الملجأ الذي بناه من القصب.
حيال هذا الشأن، أفاد صباح بأنه لم يتوقع أن تسوء الأمور بهذا الشكل، فقد تسبب الجفاف في انتقاله إلى هذا المكان منذ ثلاثة أشهر، بعد أن اعتاد العيش في منطقة أخرى تبعد ثمانية أميال نحو الشمال. خلال تلك الفترة توفي جاموسين بسبب المرض الذي أصابها جراء شرب المياه المسمومة. ولم تتوقف المعاناة عند هذا الحد، فقد باع صباح ثمانية جواميس أخرى من أجل شراء العلف للجواميس العشرة المتبقية.
على الرغم من التعافي الجزئي بعد سقوط نظام صدام حسين سنة 2003، تواجه الأهوار تحديات جديدة بعد 15 سنة
عموما، ما يبعث على السخرية هو أن جنوب العراق مكان يزخر باحتياطي النفط الضخم الخاص به، ويعد واحد من أغنى المناطق بالنفط في الشرق الأوسط. على الرغم من ذلك، يعيش العديد من سكان هذه المنطقة بين غياهب الفقر على الرغم من وجود أعمدة حرق النفط الصادر من الآبار الممتدة على مرمى البصر. ويبدو أن سبب ذلك يظل معتمدا على تقلبات الطبيعة أو أهواء الإدارة أو سوء إدارة الموارد. وقال السيد صباح البالغ من العمر 27: “أتمنى لو كنا قادرين على استبدال النفط بالماء، الماء هو ما نحتاجه من أجل العيش، إنه منبع كل شيء”.
كيف تدهورت الأهوار العراقية؟
على الرغم من التعافي الجزئي بعد سقوط نظام صدام حسين سنة 2003، تواجه الأهوار تحديات جديدة بعد 15 سنة. وتجدر الإشارة إلى أن أراضي الأهوار قد اشتهرت في الغرب على يد المستكشف البريطاني، ويلفريد ثيسيجر، الذي وطأت قدمه هذه الأراضي في منتصف القرن العشرين. ووصف ثيسيجر العرب الذين يقطنون هذه الأراضي بالعنيدين والمستقلين، كما قال إنهم يكرسون أنفسهم لخدمة أرضهم واستغلال مياهها وأسماكها والجواميس التي يعملون على تدجينها. ويُنظر لعرب الأهوار على أنهم أحفاد السومريين القدامى، الذين أسسوا أول حضارة في بلاد الرافدين. وكان السومريون القدامى، منذ ست آلاف سنة، يعيشون في المساكن المصنوعة من القصب والتي تشبه إلى حد كبير المساكن التي يعيش فيها عرب الأهوار الآن والتي يطلق عليها اسم المضيف.
خلافا للسابق، تعمل قوارب المزارعين، التي يعتمدونها للتنقل على طول القنوات والمجاري، بمحركات البنزين عوضا على اقتصارها على التجديف اليدوي. وبشكل عام، لم تتغير الحياة كثيرا عن السابق، أو بالأحرى لم تتغير كثيرا عند مقارنتها بنمط الحياة الذين يريدون عيشه.
كان سكان الأهوار يعيشون حياة طبيعية قبل تدخل صدام حسين وقيامه بالانتقام منهم بالتركيز المستوى البيئي، حيث سعى إلى تجفيف أراضي الأهوار عن طريق بناء بعض السدود وتفجير بعض الحواجز، التي اعتبرها عقوبة للمتمردين وجماعات المعارضة التي كان عرب الأهوار يأوونها، علما وأن غالبيتهم من الشيعة. نتيجة لذلك، تحولت حوالي 90 بالمائة من أراضي الأهوار إلى صحراء خلال بضعة سنوات فقط. كما تراجع عدد السكان بشكل مخيف ليصل إلى 20 ألف نسمة فقط بعد أن كانت المنطقة تضم حوالي 500 ألف ساكن خلال فترة ازدهارها.
في الوقت الحالي، يمكن توجيه أصابع الاتهام نحو تركيا وإيران، وظاهرة تغير المناخ، والفساد الحكومي في العراق؛ عندما يتعلق الأمر بأسباب الانهيار البيئي الكارثي في الأهوار
في الأثناء، باشر عرب الأهوار برنامجهم طويل الأمد لإنقاذ المنطقة بأنفسهم، حيث عمدوا إلى تفجير السدود التي أقامها صدام حسين، منذ الدقيقة الأولى التي تلت سقوط نظامه. ومنذ ذلك الحين، تولت مسؤولية هذه الأراضي مجموعات حماية البيئة والحكومة الجديدة، كما تمت الإشادة بها على نطاق واسع واعتبارها مثالا يُحتذى به للاستدامة البيئية.
في الوقت الحالي، يمكن توجيه أصابع الاتهام نحو تركيا وإيران، وظاهرة تغير المناخ، والفساد الحكومي في العراق؛ عندما يتعلق الأمر بأسباب الانهيار البيئي الكارثي في الأهوار. وتسبب هذه العوامل في جفاف مناطق تتراوح بين ربع وثلث أراضي الأهوار الأصلية التي تمكنت من استعادة بريقها السابق، التي تمكنت بالكاد من استعادة شكلها السابق. في المقابل، صرح جاسم الأسدي، المدير الإقليمي لمؤسسة “طبيعة العراق” الخيرية المحلية، أنه: “على الرغم من حدوث موجات جفاف من قبل، لاسيما سنتي 2009 و2015، إلا أن جفاف هذه السنة لم يسبق له مثيل. نتيجة لذلك، انخفض منسوب المياه في المنطقة من 1،8 متر فوق مستوى سطح البحر إلى 46 سنتيمتر فقط، وهو ما يعني أن مستوى المياه قل بما يتجاوز المتر الواحد”.
مشهد لقرية تقليدية لعرب الأهوار ومنازلها المصنوعة من القصب في الأراضي الرطبة جنوب العراق سنة 1978.
أثناء حديثه عن هذه الأزمة، عمل الأسدي على إعداد قائمة طويلة من الجناة، وكان واضحا أن نقص الأمطار لهذه السنة هو السبب الرئيسي لما تعيشه المنطقة من جفاف. وفي المقابل، لا يمكن القول إن حالة الجفاف ليست نادرة في منطقة الخليج، لكن الأسدي أوضح أن قرار الحكومة التركية بملئ سد إليسو العملاق في نهر دجلة شمال الحدود العراقية، مثل سببا إضافيا لما يحدث لمنطقة الأهوار.
نتيجة للمشروع التركي، انخفضت كمية المياه المتدفقة بسرعة كبيرة بعد عملية تعبئة السد قبل موعده المحدد خلال شهر حزيران/ يونيو الماضي. وخلال شهر واحد، كان سكان بغداد قادرين على العبور النهر للمرة الأولى في التاريخ الحديث. وفي الوقت ذاته، وبسبب معاناتها من معضلة نقص المياه التي تفاقمت بسبب الإدارة السيئة للأفراد في استخدام المياه الجوفية، عمدت إيران إلى إقامة حواجز على مستوى العديد من روافد نهر دجلة. علاوة على ذلك، أقامت إيران سدا في الجزء الخاص بها في هور الحويزة والذي يشكل حوالي ثلث هذا النظام البيئي.
خلال فترة حكم صدام حسين، هرب العديد من سكان الأهوار إلى مناطق أخرى من البلاد، واصطحب بعضهم الجواميس التي كانوا يعملون على تربيتها معهم.
من جانب آخر، مثلت قرارات الحكومتين التركية والإيرانية ضربة مزدوجة لعرب الأهوار، حيث أنهم يعانون من فقدان المياه في المنطقة نفسها، كما يمكن تبين حقيقة أن نهر دجلة يُعتبر أقل ملوحة من نهر الفرات، وهو النهر التوأم الذي يغذي منطقة الأهوار من الغرب. وبشكل عام، كلما قلت المياه المتأتية من نهر دجلة، كلما ازدادت ملوحة المياه في الأهوار.
حيال هذا الشأن، صرح المدير الإقليمي لمؤسسة “طبيعة العراق” الخيرية المحلية، قائلا: “يمكن للجاموس أن يشرب الماء الذي يحتوي على ملح بتركيز أربعة آلاف جزء في المليون. وفي الأجزاء الشمالية للأهوار المركزية، يبلغ تركيز الملح ثمانية ألاف أو حتى عشرة ألاف جزء في المليون”.
تعمل قوارب المزارعين، التي يعتمدونها للتنقل على طول القنوات والمجاري، بمحركات البنزين عوضا على اقتصارها على التجديف اليدوي. وبشكل عام، لم تتغير الحياة كثيرا عن السابق.
خلال فترة حكم صدام حسين، هرب العديد من سكان الأهوار إلى مناطق أخرى من البلاد، واصطحب بعضهم الجواميس التي كانوا يعملون على تربيتها معهم. في الوقت الحالي، يعمل الكثير من الأشخاص الذين عادوا من هذه الأراضي على إعادة الأمر نفسه مرة أخرى، حيث شهدت الأشهر الثلاثة الأخيرة نزوح العشرات من العائلات من منطقة الأهوار.
في هذا الصدد، يقول كريم سيد غالب البالغ من العمر 34 سنة، وهو أحد أكبر المزارعين، حيث يقدر قوام قطيعه بنحو 60 جاموس: “أنا أعرف ثلاث عائلات توجهت إلى الشمال، وفي حال استمر الوضع، سأذهب إلى مدينة سامراء”. في الحقيقة، يملك سيد غالب أملا واحدا وأخيرا لإنقاذ قطيعه والحفاظ على أسرته المكونة من خمسة أطفال، وهو مادفعه للقول إنه بحاجة إلى المطر أو سينتهي كل شئ.
في الوقت الراهن، يعيش العديد من مزارعي الأهوار السابقين في ظل فقر مدقع في مدينة البصرة، التي تقع على بعد ساعتين جنوبي الأهوار. ويمكن القول إن الاعتماد على المطر عوضا عن الأنهار في بلاد الرافدين يعتبر أمرا محفوفا بالمخاطر.
المصدر: مجلة التايمز