ترجمة وتحرير: نون بوست
تمر تركيا بأسوأ أزمة اقتصادية عانت منها على الإطلاق منذ سنة 2000، في حين تواجه خطر مجابهة انهيار اقتصادي كبير في حال لم يقع تبني سياسيات طارئة مناسبة في أقرب وقت. في واقع الأمر، شهدت الليرة التركية انخفاض حاد في قيمتها خلال الأشهر القليلة الماضية، وذلك بسبب ارتفاع الدين الخارجي التركي، وفقدان الدولة الثقة في قدرتها على سداد هذه الديون على المدى القصير. وقد هوت قيمة الليرة بشكل مطرد في أعقاب 10 من آب / أغسطس، وذلك نتيجة لتدهور العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة الأمريكية. فقد أظهر الرئيس ترامب استيائه من أنقرة فيما يتعلق بالعديد من المسائل الدبلوماسية من خلال مضاعفة التعريفات الجمركية على صادرات الحديد والصلب التركية. وقد أدت هذه الخطوة غير المتوقعة إلى تفجير عمليات بيع لليرة بأسعار منخفضة.
لتفادي وقوع كارثة اقتصادية، مماثلة لما جد في اليونان سنة 2016، ومؤخرا في فنزويلا، ينبغي على تركيا إقرار إصلاحات جبائية ومالية قاسية. وعلى الأرجح، ستحدد طريقة تعامل الرئيس رجب طيب أردوغان مع هذه الأزمة إرثه كقائد سياسي، سواء كان ذلك على اعتباره رئيس وزراء أو رئيسا للبلاد، منذ سنة 2002. بشكل أدق، سيكون ذلك بمثابة الاختبار الأول لطريقة عمل النظام الرئاسي الجديد. وقد وقع الموافقة على هذا النظام في نيسان / أبريل من سنة 2017، وتم تطبيقه عقب الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في حزيران / يونيو. ويبقى السؤال القائم، ما إذا كان هذا النظام الجديد ناجعا في مجابهة أزمات اقتصادية كبيرة.
من خلال استفتاء 2017، وافق الناخبون على إصلاحات سياسية شاملة، التي ألغت منصب رئيس الوزراء وأعطت المزيد من الصلاحيات والنفوذ للرئيس
أطلق أردوغان وحزبه، حزب العدالة والتنمية، حملة مكثفة لحشد موافقة الشعب التركي على التعديلات الدستورية وذلك في إطار استفتاء نيسان / أبريل 2017، واعدين الشعب التركي بأن النظام الرئاسي سيحقق لتركيا المزيد من الاستقرار السياسي والاقتصادي. وقد علل الرئيس التركي وحزبه هذه الخطوة بأن تركيا عانت من العديد من الأزمات الاقتصادية الحادة في ظل النظام البرلماني، قبل النصر الانتخابي لحزب العدالة والتنمية في سنة 2002. ويعزى ذلك الفشل إلى عجز الحكومات الائتلافية في فرض نظام جبائي ونقدي فعال. في الأثناء، وقع الترويج للنظام الرئاسي على أنه سيكون أكثر قدرة على مقاومة الضغوط الشعبوية والسياسات المتعصبة التي عادة ما تؤدي إلى عجز مالي كبير وارتفاع معدلات التضخم.
من خلال استفتاء 2017، وافق الناخبون على إصلاحات سياسية شاملة، التي ألغت منصب رئيس الوزراء وأعطت المزيد من الصلاحيات والنفوذ للرئيس. كما فتحت الطريق أمام انتخابات رئاسية مباشرة. إثر النصر الذي تحقق من خلال الاستفتاء، دعا رئيس الوزراء، آنذاك، أردوغان إلى أول انتخابات رئاسية تشهدها تركيا في حزيران / يونيو، التي كللت بفوزه.
الاقتصاد يواجه أزمة فعلية
في الوقت الذي كان فيه أردوغان بصدد تشكيل مجلس وزرائه الجديد في أعقاب انتخابات حزيران / يونيو، كانت المؤشرات التي تحيل إلى اضطرابات اقتصادية واضحة للغاية. وقد أدت استراتيجية الحكومة القائمة على النمو الائتماني إلى نمو اقتصادي قوي في تركيا خلال السنوات الأخيرة. وفي خضم توليه لمنصب رئيس الوزراء لأكثر من 13 سنة، عمد أردوغان إلى تشجيع وتسهيل عمليات الاقتراض بالنسبة للشركات والعائلات، بهدف النهوض بمجال البناء. وبفضل أسعار الفائدة المنخفضة وسياسات التأمين البسيطة التي يقدمها الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، تمكنت الشركات والبنوك التركية من اقتراض مبالغ ضخمة بالدولار واليورو، على أمل أن المشاريع التي بعثوها ستعود عليهم بأرباح كبيرة وسيتمكنون بسهولة من سداد دينهم.
دفع ارتفاع تكاليف الاقتراض العديد من الشركات (بشكل خاص في مجال الإنشاءات) إلى الإفلاس، في حين عمدت الحكومة أيضا إلى وقف تمويل العديد من المشاريع الضخمة خلال الأشهر القليلة الماضية
في ظل ارتفاع حجم دين الشركات التركية من العملة الصعبة إلى مستويات تنذر بالخطر، دعا الخبراء داخل وخارج تركيا الحكومة التركية لمنع عمليات الاقتراض المفرط والعمل على جعل الليرة مستقرة. في المقابل، تجاهل الرئيس أردوغان هذه التحذيرات وأصر على أنه يجب أن تظل أسعار الفائدة منخفضة لتحقيق استمرارية نمو اقتصادي قوي. منذ سنة 2017، عمد البنك المركزي التركي إلى الرفع من أسعار الفائدة، ولكن إلى حد الآن، لا تعد الزيادات الكبيرة في السعر كافية لوقف تراجع قيمة الليرة.
شعر المقرضون والمستثمرون بالخطر بسبب هذه السياسة وارتفاع الدين الخارجي التركي بوتيرة ثابتة. وقد أدت هذه المخاوف إلى هروب رأس المال وتراجع قيمة الليرة بشكل تدريجي، الأمر الذي جعل الوضع أصعب بالنسبة للشركات التركية فيما يتعلق بسداد أو إعادة تمويل ديونهم. عندما كان سعر الصرف بالنسبة لليرة مقابل الدولار يعادل 3 ليرة لكل دولار، كان يتوجب على شركة تبلغ رسوم الفائدة السنوية المفروضة عليها 10 آلاف دولار أن تجمع 30 ألف ليرة. وعندما ارتفعت رسوم الفائدة، لخمس ليرات مقابل دولار واحد، أصبحت 10 آلاف دولار تعادل 50 ألف ليرة، المبلغ الذي كان من الصعب للغاية جمعه.
دفع ارتفاع تكاليف الاقتراض العديد من الشركات (بشكل خاص في مجال الإنشاءات) إلى الإفلاس، في حين عمدت الحكومة أيضا إلى وقف تمويل العديد من المشاريع الضخمة خلال الأشهر القليلة الماضية. وتعزى عمليات التخفيض في الميزانية المخصصة لأبرز وأهم المشاريع العمومية، على غرار مشروع “طائر النورس” في منطقة “كاباتاش”، إلى نقص في العائدات الضريبية والرغبة في احتواء العجز المالي. وتشمل الأجندة الاقتصادية التركية للأشهر القادمة، تجميد معظم المشاريع الاستثمارية الحكومية.
في الوقت الراهن، توجد العديد من المؤشرات التي تحيل إلى أن الاقتصاد التركي قد وصل إلى مرحلة من الأزمة التي تتطلب إيلاءها الاهتمام الفوري. منذ شهر كانون الثاني/ يناير، شهدت الليرة انخفاضا في قيمتها بنسبة 40 بالمائة. وقد أدى هذا الانخفاض الحاد في قيمة الليرة إلى ارتفاع المعدل السنوي للتضخم إلى قرابة 18 بالمائة وذلك في شهر آب / أغسطس.
معظم الخبراء يعتقدون أن ضخ قدر كبير من الموارد المالية في قطاع العقارات كان خطأ
نتيجة للاقتراض المكثف على امتداد السنوات 15 الأخيرة، وصل الدين الخارجي التركي الجملي، (الذي يدين به كل من المقترضين في القطاع العام والخاص)، إلى حوالي 500 مليار دولار، علما وأن 230 مليون دولار من مجموع الدن يجب أن يقع إعادة تمويلها أو سدادها بشكل كامل خلال الاثني عشر شهرا القادمة. قد تضع هذه الالتزامات قصيرة الأمد المرتبطة بالعملة الصعبة العديد من الشركات في خطر التخلف عن سداد الدين. بالإضافة إلى ذلك، قد تضطر العديد الشركات إلى التقليص من حجم إنتاجها أو وقف جل عملياتها بسبب التكلفة الباهظة للمواد المستوردة وعجزهم عن تحميل مسؤولية ارتفاع التكاليف للحرفاء.
نتج عن هذه الوضعية ركود حاد في قطاعي الإنشاءات والعقارات، الذين مثلا القوة المحركة الأساسية للاقتصاد التركي خلال العقد الماضي. لكن معظم الخبراء يعتقدون أن ضخ قدر كبير من الموارد المالية في قطاع العقارات كان خطأ. في الوقت الذي تفشى فيه الضعف في صلب بقية القطاعات، يعتبر أرباب العائلات، الذين يرزحون بالفعل تحت وطأة معدل تضخم عال، أكثر عرضة لمشكلة ارتفاع نسبة البطالة. نتج عن الازدهار الاقتصادي القائم على الائتمان، ارتفاع في معدل النمو الاقتصادي السنوي بنحو 7 بالمائة في الربع الأول من سنة 2018. في المقابل، حذر العديد من خبراء الاقتصاد من أن الاقتصاد التركي يواجه خطر حالة ركود عميقة في سنة 2019.
احتواء الأزمة في ظل النظام الرئاسي
كان هناك العديد من الخطوات التي كان بإمكان الحكومة التركية اتخاذها خلال الثلاث سنوات الماضية لتجنب الأزمة الحالية فيما يتعلق بالدين الخارجي. وكان من الممكن خلال الأشهر الستة الماضية الحيلولة دون الانخفاض السريع في قيمة الليرة من خلال المواءمة بين الرفع في أسعار الفائدة محليا (الأمر الذي أوصى به مرارا وتكرارا العديد من الخبراء الاقتصاديين وصندوق النقد الدولي) وحسن إدارة الخلاف الدبلوماسي مع الولايات المتحدة الأمريكية. لكن الحكومة لم تتبنى مثل هذه الإجراءات، لتجد تركيا نفسها في مواجهة أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخها المعاصر. وفي الأثناء، لا توجد خيارات سهلة وبسيطة للتصدي لهذه الأزمة.
تتمثل أهم خطوة ينبغي للرئيس أردوغان اتخاذها في الوقت الراهن في وضع حد لتراجع قيمة الليرة. فعلى المدى المتوسط، يجب أن يجد إستراتيجية فعالة تمكنه من التخفيض من حجم القروض الجديدة، فضلا عن مساعدة الشركات التركية في إعادة تمويل احتياجاتها. في الآن ذاته، يجب على الحكومة التركية الإبقاء على مستوى عجز الميزانية منخفض، وذلك عن طريق تقليص نفقات الحكومة إلى مستوى يمكن التحكم فيه مقارنة بإيراداتها.
عانت البلاد في الكثير من المناسبات من عجز جبائي والحساب الجاري، وكان عليها آنذاك أن تطلب المساعدة الخارجية من صندوق النقد الدولي والحكومات الغربية للوفاء بالتزاماتها المتعلقة بالديون
في المقابل، لا تعتبر هذه الخيارات سهلة التنفيذ، حيث سيكون للخطوات العملية التي ستُعتمد لتحقيق هذه الأهداف آثار عكسية على الملايين من الأسر التركية. ففي الغالب، ستضطر الحكومة ستضطر لترك أجور القطاع العام ترتفع بقدر أقل من معدل التضخم، مما سيؤدي إلى انخفاض مستوى المعيشة لموظفي القطاع العام. كما ستزيد أسعار الفوائد المرتفعة من تكلفة الاقتراض بالنسبة للعائلات والشركات.
واجهت تركيا أزمات اقتصادية مشابهة في العديد من المناسبات قبل سنة 2002، خاصة في فترة التسعينيات. فقد كان تأجيل الإصلاحات الاقتصادية الهامة أو التخلي عنها في منتصف الطريق يرجع بالأساس لعدم شعبية التدابير المطلوبة وإحجام الحكومات السابقة، في ظل النظام البرلماني في تركيا، عن المجازفة سياسيا لتنفيذها. وقد شارفت معدلات التضخم في تركيا في بعض السنوات على بلوغ نسبة 100 بالمائة.
في هذا الصدد، لا يمكن إنكار حقيقة أن موقف النظام السياسي البرلماني التركي كان ضعيفا فيما يتعلق بفرض نظام جبائي ونقدي فعال. فقد عانت البلاد في الكثير من المناسبات من عجز جبائي والحساب الجاري، وكان عليها آنذاك أن تطلب المساعدة الخارجية من صندوق النقد الدولي والحكومات الغربية للوفاء بالتزاماتها المتعلقة بالديون. (لطالما استفادت تركيا من الدعم المالي الذي تقدمه الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية بسبب القيمة الإستراتيجية لهذه الدولة على اعتبارها حليف بارز لحلف شمال الأطلسي في منطقة الشرق الأوسط ومنطقة البحر الأسود).
من جهة أخرى، شهدت البلاد مزيدا من الاستقرار، ونموا اقتصاديا أفضل في ظل حكم حزب العدالة والتنمية بقيادة الرئيس أردوغان منذ سنة 2002. ولكن من الواضح الآن أن هذا النجاح كان نتيجة للاقتراض المكثف الذي أدى إلى أزمة الديون الحالية التي تشهدها الدولة. ويواجه الرئيس أردوغان وفريقه من الخبراء الاقتصاديين هذه الأزمة الراهنة في ظل نظام سياسي مختلف يمنح العديد من الصلاحيات الجديدة للرئيس. وتجدر الإشارة إلى أن العديد من هذه الصلاحيات الجديدة تتعلق بالبحث عن حلول لتجاوز الأزمة الحالية. ولعل أهم مزايا هذا النظام الجديد تتمثل في كون السلطة التنفيذية أقل عرضة للضغوط الشعبوية قصيرة المدى.
في ظل النظام الرئاسي في تركيا، يقوم الرئيس بإعداد ميزانية الحكومة (عوضا عن البرلمان) ويقدمها بعد ذلك إلى البرلمان للموافقة عليها
في ظل هذا النظام، أصبح أردوغان يترأس الحكومة الجديدة، وبالتالي، يمكنه تعيين الوزراء بصفة مباشرة. و =لم تعد حكومة الرئيس عرضة للتصويت لحجب الثقة منها في البرلمان، كما أن فترة حكمها، التي تمتد لخمس سنوات، أصبحت أكثر أمانا بغض النظر عن تقلبات الرأي العام. على سبيل المثال، لا يحتاج البرلمان الآن إلى أغلبية هامة من الأصوات لإجراء انتخابات مبكرة، بل 60 بالمائة فقط من الأصوات، ناهيك عن أن عملية سحب الثقة من الرئيس أصبحت أكثر تعقيدا وفرص نجاحها تقلصت في ظل النظام الرئاسي الجديد.
الجدير بالذكر أن فترة الحكم الآمنة هذه تجعل من السهل على الرئيس التركي تنفيذ إصلاحات اقتصادية شاملة وقاسية، قد تتطلب مدة زمنية تتراوح بين سنتين إلى أربع سنوات لتثبت فعاليتها. وفي حال كان الرئيس ملتزمًا بإجراء هذه الإصلاحات، فلا داعي لأن يشعر بالقلق إزاء مسألة تقويض حكمه عبر إجراء انتخابات مبكرة غير متوقعة تحت ضغط شعبوي.
من جهة أخرى، يسمح الدستور الجديد بإجراء إصلاحات جبائية أكثر نجاعة. وفي ظل النظام الرئاسي في تركيا، يقوم الرئيس بإعداد ميزانية الحكومة (عوضا عن البرلمان) ويقدمها بعد ذلك إلى البرلمان للموافقة عليها. نتيجة لذلك، لم يعد بإمكان البرلمان فرض قانونه الخاص المتعلق بالميزانية على السلطة التنفيذية. وفي حال لم يوافق البرلمان على مشروع الميزانية المقترح من قبل الرئيس، لن يتم تعطيل عمل الحكومة (كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية). وعوضا عن ذلك، ستواصل الحكومة العمل في ظل الميزانية المعتمدة للسنة الماضية مع إجراء التعديلات المناسبة فيما يتعلق بمسألة التضخم.
في ظل البيئة التضخمية الراهنة التي تعيشها تركيا، يمكن أن يعود هذا الإجراء الجديد بالفائدة في حال قرر الرئيس أردوغان تقليص الميزانية أو زيادة الضرائب لخفض العجز الجبائي. علاوة على ذلك، سيعطي النظام الرئاسي الجديد سلطة أكبر للرئيس أردوغان للسيطرة على البيروقراطية الحكومية الهائلة في البلاد. في الأثناء، قد تواجه بعض التدابير المتعلقة بتخفيض الميزانية مقاومة، ليس فقط من قبل المواطنين العاديين والناخبين، ولكن أيضًا من قبل الموظفين الحكوميين والمؤسسات البيروقراطية التي تتمتع بقدر من النفوذ.
اتخذت الحكومة التركية بعض الخطوات الحاسمة لحل هذه الأزمة الاقتصادية، حيث كان الارتفاع الحاد في أسعار الفائدة التي حددها البنك المركزي التركي من أهم هذه الإجراءات
لقد شهدت المؤسسات العسكرية وأجهزة الخدمة المدنية التابعة للحكومة تطهيرًا كبيرًا بعد فشل الانقلاب العسكري في تموز/ يوليو سنة 2016، ويشغل مؤيدو أردوغان، الآن، جميع المناصب البيروقراطية المهمة في البلاد. وتجدر الإشارة إلى أنه في ظل النظام الرئاسي الجديد، سيكون تقليص المزايا والامتيازات الممنوحة لموظفي الخدمة المدنية وموظفي المؤسسات العامة أسهل وأكثر فعالية.
تتضمن هذه التدابير التجميد المؤقت الذي سيشمل الأجور والترقيات للموظفين الحاليين في الحكومة، إلى جانب وضع حد للإعانات على السلع والخدمات التي كانت تمنح حصريًا للموظفين في بعض المؤسسات الحكومية. عموما، في حال قرر الرئيس أردوغان وفريقه تنفيذ أي تدابير قاسية وغير شعبية في محاولة لحل الأزمة الاقتصادية الراهنة التي تواجهها البلاد، فسيكون لديه نفوذ أكبر لفرض هذه التدابير في ظل النظام الرئاسي الجديد مقارنة بالنظام البرلماني السابق.
أدلة أولية توحي بفاعلية النظام الرئاسي
بعد الانتظار لعدة أسابيع (منذ 10 آب/ أغسطس)، أخيرا اتخذت الحكومة التركية بعض الخطوات الحاسمة لحل هذه الأزمة الاقتصادية، حيث كان الارتفاع الحاد في أسعار الفائدة التي حددها البنك المركزي التركي من أهم هذه الإجراءات. في هذا الصدد، رفّع البنك المركزي سعر فائدته على القروض قصيرة المدى في 14 من أيلول/ سبتمبر، من 17.75 بالمائة إلى 24 بالمائة سنويا، حيث بلغ هذا الارتفاع نسبة 6.25 بالمائة، وهي نسبة أكبر مما كان يتوقعه المحللون. وقد أدى ذلك إلى ارتفاع فوري في قيمة الليرة بنسبة 2 بالمائة مقارنة بالدولار الأمريكي.
في المقابل، كان رد فعل الرئيس أردوغان سلبياً على هذا القرار، حيث أصر على حجته القديمة التي مفادها أن أسعار الفوائد المرتفعة لن تكون حلا ناجعا لمكافحة التضخم. كما ادعى أردوغان أن هذا الأمر يعد أحد النتائج السلبية لاستقلال البنك المركزي التركي. وكان يرنو من خلال هذا التصريح إلى الإعراب عن عدم دعمه لهذه الخطوة، التي اعتبرها غير شعبية.
في الوقت الراهن، بات أردوغان يتمتع بسيطرة أكبر على جميع المؤسسات الحكومية المسؤولة عن السياسة الاقتصادية
مع ذلك، تضمن هذا التصريح رسالة متداخلة بالنسبة للمستثمرين والدائنين المحليين والدوليين لتركيا. فمن جهة، أحال موقفه إلى أنه معارض لسياسة اعتبرها جميع الخبراء أول خطوة مهمة لاستعادة الثقة في العملة الوطنية التركية، وكان هذا الأمر مثيرا للقلق. ومن جهة أخرى، نجحت هذه الرسالة في طمأنتهم بشأن حقيقة أن البنك المركزي التركي يتمتع باستقلال كبير وليس لديه أي مشكل في تحدي نصيحة الرئيس أردوغان.
في ظل السلطة التنفيذية الجديدة غير المسبوقة لأردوغان، من الخطأ تفسير الرفع في سعر الفائدة على أنه مؤشر على استقلال البنك المركزي وقدرته على تحدي الرئيس. ففي الوقت الراهن، بات أردوغان يتمتع بسيطرة أكبر على جميع المؤسسات الحكومية المسؤولة عن السياسة الاقتصادية. على سبيل المثال، قبل يوم واحد فقط من هذا الإعلان، سيطر الرئيس أردوغان بالكامل على صندوق الثروة السيادية للبلاد من خلال إعلان نفسه مديرا عاما له وتعيين صهره بيرات البيرق، الذي يشغل منصب وزير المالية، نائب مدير للصندوق.
كان البنك المركزي يتمتع بقدر كبير من الاستقلالية قبل بدء سريان النظام الرئاسي، إلا أن حفاظه على استقلاليته بعد شهر تموز/ يونيو سنة 2018 جاء نتيجة قرار أردوغان المتعمد بالسماح له بالاستمرار على هذا النحو. علاوة على ذلك، وقد أحال موقف البنك المركزي في اجتماعه السابق (الذي جد يوم 24 تموز/ يوليو) بشأن السياسة العامة إلى إيلائه قدرا من الاهتمام لأولويات الرئيس أردوغان. على سبيل المثال، قبل عقد هذا الاجتماع، توقع معظم الخبراء أن يقوم البنك المركزي برفع أسعار الفائدة قصيرة الأجل لإيجاد حل لتراجع قيمة الليرة. وقد فوجئ الجميع، عندما لم يقم البنك برفع السعر، ومن المؤكد أن هذا التقاعس من قبل البنك المركزي سيساهم في زيادة تراجع قيمة الليرة في الأيام القادمة.
مثّل قرار البنك المركزي في 14 أيلول/ سبتمبر، الذي يقوم على رفع أسعار الفائدة تحولا كبيرا من حيث أولويات السياسة العامة للرئيس التركي أردوغان. ويبدو أنه على ضوء تفاقم الأزمة، أدرك أردوغان أخيرا أن محاربة التوقعات بشأن التضخم واستعادة ثقة المستثمرين في الليرة التركية ستكون لها الأولوية مقارنة بأي مخاوف بشأن الحفاظ على النمو الاقتصادي.
أعلنت الحكومة التركية في الأسابيع الأخيرة، عن عدة تدابير ضرورية كي تظهر التزامها بشأن استعادة التوازن المالي.
يعود الفضل في ذلك يعود لصهر أردوغان، البيرق، الذي كان له دور في تغيير رأي الرئيس حول الرفع في أسعار الفائدة. وتشير التصريحات الأخيرة التي أدلى بها البيرق، وهو رئيس الفريق الاقتصادي التابع لأردوغان، إلى التزامه القوي بإيجاد حل لمكافحة مشكلة التضخم. ويبدو أن البيرق قد أقنع أردوغان أخيرا بأن رفع أسعار الفائدة واتخاذ إجراءات صارمة أخرى ضد التضخم والعجز المالي يعد الخيار الوحيد الأنسب القابل للتطبيق لتجنب الانهيار الاقتصادي. كما أكد البيرق على ضرورة إعطاء الأولوية لهذه القرارات على حساب الأهداف الاقتصادية الأخرى.
تدابير جبائية جريئة
علاوة على قرار رفع أسعار الفائدة، أعلنت الحكومة التركية في الأسابيع الأخيرة، عن عدة تدابير ضرورية كي تظهر التزامها بشأن استعادة التوازن المالي. وقد أصدر الرئيس أردوغان، الذي اكتسب سمعة جيدة لإنشائه عددا كبيرا من المشاريع العملاقة في القطاع العام، مرسوما بتاريخ 14 أيلول/ سبتمبر يدعو من خلاله إلى وقف جميع مشاريع الاستثمار في القطاع العام التي لم تبلغ نسبة إنجازها 70 بالمائة. وسيسمح ذلك للحكومة بالحفاظ على مدخرات مالية كبيرة من خلال تجميد العديد من المشاريع التي لا تزال في المراحل الأولى من التنفيذ. وتشمل الخطوات الأخرى لتوفير التكاليف تخفيض ميزانية النقل العام المخصصة للمؤسسات العمومية العامة، بالإضافة إلى الحد بشكل كبير من إقامتهم في العقارات المجهزة للإيجار.
في هذا الصدد، قدم البيرق بعض المعلومات المبكرة عن البرنامج الاقتصادي متوسط الأجل للحكومة، الذي من المقرر أن يتم إطلاقه في أواخر شهر أيلول/ سبتمبر. وبناء على تصريحاته، سيكون هناك إجراءات كبيرة تتمثل في تخفيض كل من النفقات الحكومية والحد من عجز الموازنة. ومن أجل تحقيق الاستقرار الاقتصادي، من المقرر أن يتم تنفيذ أهم التدابير الجبائية في سنة 2019. ويتمثل الهدف في أن تكون نسبة العجز أقل من 1.5 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي.
على الرغم من أهمية هذه الخطوات المالية، إلا أن الحكومة التركية لم تعلن بعد عن الطرق التي ستعتمدها لمنع التخلف عن سداد الديون الخارجية الكبيرة للشركات التركية خلال الاثني عشر شهرا القادمة.
خلال السنة الماضية، أعلنت الحكومة عن برنامج مماثل، لكنه لم يؤد إلى تحقيق الاستقرار الاقتصادي، وقد يكون السبب وراء فشله في أن العديد من المراقبين ربما كانوا غير واثقين في قدرة الحكومة ومدى التزامها تجاه هذا البرنامج. ومع ذلك، يمكن القول أن البرنامج المحدّث الجديد يتمتع بفرصة أفضل أن يقع تنفيذه، باعتبار أنه هناك توافق في الآراء بين كل من الرئيس أردوغان وفريقه الاقتصادي حول مدى حدة الأزمة الحالية، كما أن أردوغان يملك الآن سلطة تنفيذية تمكنه من تنفيذ إصلاحات عميقة.
خلال طور تنفيذ قرار تقليص النفقات، ستصبح السلطات الواسعة الممنوحة للرئيس والفرع التنفيذي محل انتقاد، ومن المرجح أن تواجه الحكومة ضغوط شعبوية كبيرة ضد هذه الإجراءات على المدى القريب. وفي حال لم يتم تحمل أعباء هذه التضحيات الاقتصادية بشكل عادل وشفاف، قد يتسبب انتشار الفساد والواسطة في استياء شعبي، بالإضافة إلى خلق حالة من عدم الاستقرار الاجتماعي.
على الرغم من أهمية هذه الخطوات المالية، إلا أن الحكومة التركية لم تعلن بعد عن الطرق التي ستعتمدها لمنع التخلف عن سداد الديون الخارجية الكبيرة للشركات التركية خلال الاثني عشر شهرا القادمة. في الوقت ذاته، لا توجد ضمانات تؤكد أن التدابير النقدية والجبائية، التي تم اتخاذها خلال الأسابيع الأخيرة ستكون كافية لاستعادة الثقة في قدرة تركيا على تسديد ديونها. كما سيقلل الركود الاقتصادي الذي لا مناص منه سنة 2019، أيضا من قيمة الإيرادات المحتملة للشركات، التي قد تكون مثقلة بالديون.
بينما يحاول النظام الرئاسي الجديد جعل الحكومة التركية أكثر فاعلية في التعامل مع الأزمة الاقتصادية الحالية، تعتبر الحريات الديمقراطية، لا سيما حرية المعلومات وحرية الصحافة وحرية التعبير عن الرأي وحرية النقاش ضرورية أيضا.
تبعا لذلك، من المحتمل أن تطلب تركيا المساعدة من صندوق النقد الدولي، وهو الأمر الذي يرفضه كل من أردوغان وصهره بشدة. وإذا افترضنا أن هناك احتمال للتفاوض مع صندوق النقد الدولي، ستحدث السلطات التنفيذية الجديدة للرئيس أردوغان فرقا كبيرا. وفي حال تبين أن تركيا في حاجة إلى مساعدات كبيرة على المدى القصير، ربما في حدود 50 إلى 100 مليار دولار، من المرجح أن يطلب صندوق النقد الدولي من تركيا إجراء إصلاحات جبائية ونقدية أكثر عمقا مقارنة بما أعلنته الحكومة التركية في الأسابيع الأخيرة. وفي هذه الحالة، ستجد الحكومة التركية أنه من الأسهل تحمل الانتقادات المحلية اللاذعة ومقاومة بعض الأطراف، التي يمكن أن تسببها بالأساس تنفيذ طلبات صندوق النقد الدولي.
رسالة الالتزام الحذر
بينما يحاول النظام الرئاسي الجديد جعل الحكومة التركية أكثر فاعلية في التعامل مع الأزمة الاقتصادية الحالية، تعتبر الحريات الديمقراطية، لا سيما حرية المعلومات وحرية الصحافة وحرية التعبير عن الرأي وحرية النقاش ضرورية أيضا. والجدير بالذكر أن هذه الحريات تسمح للناس والخبراء بالكشف عن العيوب والتجاوزات في هذا البرنامج الذي يهدف لفرض الاستقرار. كما سيمكن ذلك العديد من أحزاب المعارضة والخبراء المستقلين من تقديم اقتراحاتهم والاعتراف بمخاوفهم أمام الحكومة والمواطنين حول هذه السياسات الاقتصادية.
يبدو أن التزام الحكومة التركية بضمان هذه الحريات وعمل المؤسسات الديمقراطية الأخرى سيطمئن المستثمرين الدوليين والمحليين حول شفافية الأنظمة الاقتصادية والمالية. فضلا عن ذلك، تلعب الحكومة دورا هاما في منع الفساد والرأسمالية المرتكزة على المحسوبية، التي أضعفت الإصلاحات الاقتصادية في بلدان الأسواق الناشئة بشكل متكرر. ومؤخرا، وقع تحديد الدور الأساسي للديمقراطية وسيادة القانون للتقدم الاقتصادي طويل المدى لتركيا من قبل الخبير الاقتصادي البارز، دارون أجيم أوغلو.
في حال لم تعقد المشاورات اللازمة ولم يتم تقييمها، يمكن توظيف هذه الصلاحيات غير المسبوقة للسلطة التنفيذية لتنفيذ سياسات مضرة وغير مجدية يمكن أن تؤدي إلى تفاقم الأزمة بسهولة. وبالنظر إلى الوضع الحالي الحرج الذي تمر به تركيا، لا يعد الوقت مناسبا لاختبار سياسات مستحدثة، تقوم على أساس المعتقدات والمفاهيم الشخصية لأي قائد أو صانع سياسة. وعوضا عن ذلك، ينبغي استدعاء خبراء مستقلين ومؤهلين جيدا في الإدارة الاقتصادية والمالية لإجراء مشاورات منتظمة بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية.
المصدر: ناشيونال إنترست