لا يكاد يمرّ علينا يومٌ أو اثنان دون أنْ تسمع واحدًا من أصدقائك أو أفراد عائلتك أو زملائك في العمل يشكو من الأرق وقلة النوم أو الاستيقاظ المتكرّر خلال الليل وغيرها من المشاكل المتعلقة بالنوم. قد يلجأ الكثيرون لاستخدام الحبوب المنوّمة طمعًا في نومٍ صحّي مستقر، لكنّ مجرّبها يدرك أنّها تؤدي إلى راحة قصيرة المدى فقط، في حين أنها قد تؤدي إلى مشاكل واضطراباتٍ أكثر على المدى البعيد.
أكثر من 20% من الأفراد في العالم يعانون من مشاكل في النوم
تشير الإحصائيات إلى أنّ أكثر من 20% من الأفراد في العالم يعانون من مشاكل في النوم، لأسباب تتراوح بين تغيرات أنماط الحياة وساعات العمل، إلى الالتزامات الشخصية ومشاكل العلاقات، والضغوطات العصبية والقلق والتوترات التي نعيشها في حياتنا اليومية. ونحو مليون شخص سنويًا في جميع أنحاء العالم، أيْ أنّ واحدًا من أصل خمسة أشخاص من الذين يعانون من اضطرابات النوم، يلجؤون لتناول الحبوب المنوّمة المختلفة بشكلٍ يوميّ دون إدراكهم لكونها قد تؤدي إلى الإدمان خلال أسابيع قليلة فقط.
ولهذا، جنبًا إلى جنبٍ مع العلاج النفسيّ، قد يلجأ المرء إلى أساليب وتقنياتٍ بديلة تغنيه عن تلك الحبوب الضارّة وما يتبعها من آثار جانبية مثل الصداع والشعور بالغثيان والضعف العام وقلة التركيز علاوة على اضطرابات الأيض والإحباط. وتُعتبر ما يُعرف بتقنية “الارتجاع العصبيّ” واحدة من تلك التقنيات الحديثة الناشئة التي لا تُتستخدم فقط في علاج الكثير من الأمراض النفسية والعصبية وإنما في تحسين القدرات الذهنية والمعرفية، بما في ذلك اضطرابات النوم العديدة.
الارتجاع العصبيّ لا يعدّ علاجًا كاملًا، بل هو طريقة لإدارة أو تنظيم عمل الدماغ بحيث يصبح قادرًا على العمل بطريقة صحّية
حول ذلك، أوضح “امطانس صادر” الباحث والعامل في مجال علاج الأمراض العصبية، في حديث مع نون بوست، أنه من خلال استخدام جهازٍ خاص يقوم بقياس موجات المخ ويتصل بحاسوب يعرض للمريض فيلمًا أو قطعةً موسيقية، فإذا كانت أمواج الدماغ بالقدر والمستوى الطبيعي والسليم، تتوضّح صورة الفيلم أو يرتفع صوت الموسيقى. أما في حال كانت تلك الأمواج في مستواها غير الطبيعي، تختفي صورة الفيلم أو ينخفض صوت الموسيقى. وهكذا يمكن للدماغ أنْ يتعرّف على الاستجابات الطبيعية لصحّة أدائه.
وأكد صادر أنّ هذه التقنية تخطّت مرحلة الفحص ودراسة الجدوى، وأصبحت بحدّ ذاتها جزءًا مهمًّا من مجال الأبحاث العلمية. كما ينصح الباحث في الوقت ذاته أن يتم دمج كلٍ من العلاج النفسيّ والعلاج بهذه التقنية، حتى يصل المريض لدرجةٍ أفضل من التحسّن والعلاج.
أنْ تتحكّم في دماغك دون أنْ تنبته
عُرف الارتجاع العصبيّ منذ عام 1960 لكنه لم يكتسب القدرة حتى يومنا هذا ليكون تدخّلًا علاجيًّا رئيسيًا، وربما يرجع ذلك إلى كون صناعة الأدوية تتحكّم بسوق العلاج وتسيطر عليه. ومع ذلك، هناك مجموعة متزايدة من الأبحاث تُظهر فعالية التقنية في علاج اضطراباتٍ عديدة مثل النوم والأكل والإدمان واضطرابات المزاج والقلق، بالإضافة لاضطرابات فرط الحركة ونقص الانتباه والصرع.
بدايةً، لنتفق أنّ الارتجاع العصبيّ لا يعدّ علاجًا كاملًا، بل هو طريقة لإدارة أو تنظيم عمل الدماغ بحيث يصبح قادرًا على العمل بطريقة صحّية. وبكلماتٍ أخرى، فهو لن يحلّ كلّ مشاكلك فورَ انتهائك من جلساته، وإنما سيعزّز من قدرتك على التحكم باستقرار دماغك بما فيه الكفاية لتتمكن من القيام بالأنشطة اللازمة للتغيير والعلاج.
بشكلٍ عام، تبدو عملية الارتجاع العصبيّ بسيطة للغاية: يضع الطبيب أقطابًا كهربائية متنوعة على فروة رأس المريض بهدف تحفيز الموجات الدماغية المرتبطة بأيّ نوع من الاضطرابات أو الأمراض النفسية والعقلية. ثمّ يبدأ المريض بلعب لعبة فيديو معدّة خصيصًا لحالته، لتقوم آلة تخطيط أمواج الدماغ بعمل مسح لدماغه أثناء اللعب، ثمّ تردّ اللعبة بردود فعل على تفاعلاته، وبهذا يتطوّر لديه اتصالات دماغية جديدة؛ حيث تُستخدم البيانات والمعلومات الواردة من الجهاز لإخبار الشخص بما يدور في دماغه في تلك اللحظة، ما يمكّنه من التحكّم بنشاطه.
كيف تعمل آلية “الارتجاع العصبي”؟
يشبه الأمر إلى حدٍ بعيدٍ إرسال رسائل تمويهية للدماغ؛ فاللعبة التي يلعبها المريض أثناء ارتباطه مع الجهاز، تعلّمه وتدرّبه لمهاراتٍ معينة دون أنْ ينتبه لذلك. قد تكون الآلية صعبة على الفهم قليلًا، لكنها تشبه بدرجةٍ كبيرة ما جاء في فيلم فيلم “Inception” حيث من الممكن التحكّم بالدماغ لزرع الأفكار والأحلام.
الفكرة الأصلية جاءت من كوننا نستطيع التحكّم بأدمغتنا وتدريبها كما نستطيع التحكّم بأبداننا وأجسادنا وتدريبها أيضًا. فالكثير من اضطراباتنا وأمراضنا العقلية ناجمة عن مشاعر وأفكار متكررة تعلق في عقولنا وتتحول في كثير من الأحيان إلى أزمات عاطفية عالقة. وبدوره، يحفّز “الارتجاع العصبي” الدماغَ للاستفادة من البيانات المتوافرة لديه أثناء الجلسة ليستطيع التعامل مع تلك العوالق العقلية ليصبح الدماغ أكثر انفتاحًا وإيجابيةً بحيث يمكنه أن يكون أكثر قابلية لإدارة مشاكله والتعامل معها.
كيف تعمل الآلية على علاج الأرق واضطرابات النوم؟
تتنوع أسباب الأرق وصعوبات النوم، فقد يرجع ذلك إلى الإجهاد أو القلق أو التوتر أو الإرهاق أو التفكير المعتاد. وأيًا كان السبب، فالنقطة المشتركة هي أنّ الدماغ يفقد قدرته على الدخول بالمراحل الأربعة الصحيحة للنوم، وهنا يأتي دور آلية “الارتجاع العصبي” التي تعمل على تنظيم تلك المراحل وزيادة قدرة المريض على التحكّم بها.
تعمل آلية الارتجاع العصبي على تدريب الدماغ للوصول إلى المستويات الطبيعية للموجات الدماغية من خلال تغيير الأفكار والمشاعر وردات الفعل خلال الجلسة العلاجية الواحدة
لكن يجب ثانيةً أنْ نتفق أنّ النوم بالنهاية عملية معقدة تشمل العديد من الأنظمة، وبالتالي لا يمكننا القول أنّ مشاكله يمكنها التحسّن كليًا نتيجة “الارتجاع العصبي”، غيرَ أنها تساعد على حدوث تغييرات إيجابية في أنماط النوم بعد جلسات التدريب التي قد يخضع لها المريض.
الارتجاع العصبي لعلاج الأرق واضطرابات النوم
انطلاقًا من العديد من الأبحاث الحديثة التي تشير إلى أنّ مشاكل النوم هي نتاجٌ لفرط نشاط الجهاز العصبي المركزي، بحيث ترتفع مستويات الموجات الدماغية “بيتا” فيما تنخفض مستويات موجات “دلتا” و”ثيتا”، تعمل آلية الارتجاع العصبي، على تدريب الدماغ على الوصول إلى المستويات الطبيعية للموجات الدماغية من خلال تغيير الأفكار والمشاعر وردات الفعل خلال الجلسة العلاجية الواحدة، الأمر الذي بإمكانه أنْ يصبح مع التكرار على المدى البعيد أسلوبًا حياتيًّا يمكن الاستمرار به.
لكن بالنهاية، قثمة جزء آخر من الأبحاث ينظر إلى آلية الارتجاع العصبيّ كجزءٍ من العلوم الكاذبة، لا سيّما لاحتمالية ارتباطها بالآثار الوهمية للعلاج من جهة، وللتكلفة الباهظة للأبحاث الخاص فيه من جهة ثانية بسبب معدّاتها الخاصة ولتطلّبها التزام المرضى بالبحث لفترةٍ طويلة.