في 25 من سبتمبر/أيلول، خطب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أمام الجمعية العامة، وفي اليوم التالي أمام مجلس الأمن، وفيما اتسم خطاب الرئيس الأمريكي بالتكرار، شدد على بعض الرسائل وأضاف توضيح أكثر على بعضها الآخر.
مهاجمة الجميع هو العنوان الأبرز
لقد كانت أبرز خاصية لخطاب الرئيس الأمريكي في الأمم المتحدة هو شنّه هجومًا شنيعًا على المنظمات الدولية ومنافسي بلاده “الصين وروسيا وإيران”، وحتى حلفائه لا سيما دول الاتحاد الأوروبي، حيث وصفهم بـ”المقصرين” حيال ما يسعى إلى تحقيقه.
يأتي هذا الهجوم كتكرار لخطابات الرئيس ترامب السابقة، وكمعاودة لتأكيد ما ذكره في إستراتيجيته للأمن القومي المُعلنة في ديسمبر/كانون الأول الماضي، وينطلق توجه الرئيس ترامب وإدارته نحو مهاجمة العالم أجمع من عدة معايير، أهمها:
1ـ الخصال الفكرية للرئيس ترامب التي يمكّن حصرها في النقاط التالية:
ـ إيمانه بالفكر الأمني الكلاسيكي الذي يقوم على أساس أنانية الإنسان التي تخلق حالة من الصراع الدائم، فالإنسان الأناني يُدير الدولة، لذا دومًا يسعى للحصول على مقدرات الدول الأخرى، كما جُبّل الإنسان على الغدر، ما يجعل القيادي السياسي الناجح مضطرًا لاتخاذ إجراءات احترازية على نحوٍ دائم.
وبهجوم ترامب على الجميع، بما فيهم الحلفاء، يُلاحظ أنه لا يثق بأحد ويخشى من محاولة أي طرف للالتفاف حول مصالح بلاده التي يجعلها في المقام الأول انطلاقًا من شعار “أمريكا أولًا”، حيث يهدف، بحسب تصريحاته وتحركاته، لإعادة الهيبة الدبلوماسية لبلاده، بعدما أُهدرت على يد أسلافه؛ وفقًا لرأيه، كما يقوم الفكر الأمني الكلاسيكي على الإيمان العميق بنظرية المؤامرة المُحتملة من الحليف قبل العدو.
تظهر براغماتية الإدارة الأمريكية الحاليّة من خلال عزوفها عن دعم المنظمات الدولية، نتيجة اتخاذها قرارات “عادلة نسبيًا” لصالح أطراف تقف على القطب الآخر من حلفائه
وعلى الأرجح، يوجه ترامب انتقادات للنظام العالمي، وخاصة الحلفاء، لعدم مُساندته في أسلوبه حيال بعض الملفات، كملف الحل السلمي للقضية الفلسطينية؛ حيث يحاول فرض “سلام إمبراطوري” يُملي رؤيته على الطرف العربي، وملف العقوبات الأمريكية، حيث يتخذ أساليب حادة ضد إيران التي تحاول الدول الأوروبية حل ملفها سلميًا، بغية إبعادها عن روسيا والاستفادة من مقدراتها الاقتصادية.
فضلًا عن انطلاق هذا الفكر من مبدأ تقديم الدولة على المنظمات الدولية، فالدولة هي الفاعل الأساسي على الساحة الدولية، ومن خلال التعامل الثنائي مع الدول يمكن تحقيق مصالح الولايات المتحدة على نحوٍ أكثر سهولة من التحرك المنظماتي الذي يكلف الولايات المتحدة الكثير، لكن دون تحقيق الفائدة المرجوة، حسب ما يرى ترامب الذي عكس ذلك من خلال مهاجمة حلف “الناتو”، والانسحاب من مجلس حقوق الإنسان، مع انسحابه من منظمة “اليونسكو”، وهكذا.
ـ إيمانه بإستراتيجية “الاحتواء والتطويق” قليلة التكاليف: تنطلق هذه الإستراتيجية من ضرورة تحقيق تحالفات إقليمية ودولية تفرض طوقًا على الدول المنافسة، وفقًا لتكاليف مشتركة قليلة لكنها ذات فائدة، فقد تُجبر الدولة المُحاصرة على الخضوع، ولكن يبدو أن عددًا من الدول الحليفة للولايات المتحدة لا ترغب في تطبيق هذه الإستراتيجية ضد إيران والصين على وجه التحديد، ربما لإيمانها بعدم نجاعة التصعيد الذي يُنتج تصعيد من الطرف الآخر.
2ـ براغماتية الإدارة الأمريكية الحاليّة المُطلقة: تظهر براغماتية الإدارة الأمريكية الحاليّة من خلال عزوفها عن دعم المنظمات الدولية، نتيجة اتخاذها قرارات “عادلة نسبيًا” لصالح أطراف تقف على القطب الآخر من حلفائها، ولعل انسحابها من “اليونسكو” التي اعترفت بالسيادة الفلسطينية على القدس، خير دليل على تلك البراغماتية التي تعني فصل المبادئ الأخلاقية والحقوقية عن المصالح والأهداف السياسية، فبحسب هذا الفكر المُتبنى بشكلٍ صارخ من الإدارة الأمريكية، لا أهمية للمنظمات الدولية وما تنادي به من أخلاق، فالأخلاق هي منتوج القوى والمصالح الأمريكية فقط.
وفي المحصلة، يُلاحظ أن جميع رسائل الخطاب حيال جميع الملفات العالقة حول العالم، تنبع من هذه الأفكار التي تنتمي للمدرسة الواقعية الأمنية الحذرة من الجميع.
“النظام الإيراني ديكتاتوري”
يأتي هجوم الإدارة الأمريكية الحاليّة ضد إيران من حالة إيمان أعضائها بالصراع التنافسي الذي يُهدد مصالحها وحلفائها، وفي الحقيقة، يدعونا الأمر هنا إلى التساؤل: هل النظام الكوري الشمالي كان أكثر ديمقراطيةً من النظام الإيراني؟
يوحي اتهام ترامب الصين بذلك “بتخبطه وجهله”، أو تعمده لذلك رغبةً في إحراج الصين أمام المجتمع الدولي
بالطبع الإجابة عن هذا التساؤل؛ لا، لكن تحاول إدارة ترامب استخدام “لغة القول” في ترسيخ خطابات تجوب العالم، وبالتالي شرعنة أي تحرك فردي أو مشترك ضد إيران، ففي ظل تطوّر نظام المعلومات، يُصبح إقناع الشعوب، بل والدول، عبر الخطابات أمرًا يسيرًا، بمعنى أن هذه الخطابات لا تحمل المعنى الأكيد بشأن تطبيقها، ولكن تعني إمكانية الذهاب نحو التفاوض مع النظام الإيراني.
ولعل طرح الولايات المتحدة تتعلق بمطالبة النظام الإيراني إيقاف دعم بعض التنظيمات المُسلحة في المنطقة، والقبول بإجراء بعض التعديلات على الاتفاق النووي، إلى جانب قبولها، أي الولايات المتحدة، باتفاق انسحاب القوات الإيرانية في سوريا إلى مسافة 85 كيلومترًا، خير دليل على رغبة الولايات المتحدة في تحجيم قوة إيران، وليست استهدافها على نحوٍ مُطلق، أي أنها قد تجنح للتفاوض معها في يومٍ من الأيام، إن قدمت إيران حسن النية حيال الشروط الأمريكية المطروحة.
“الصين تدخلت في الانتخابات”
كما هو معلوم، لم توجه السلطات الأمريكية أي اتهام للصين فيما يتعلق بضلوعها في تزوير نتائج الانتخابات الأخيرة، وإنما التُهمة كانت مُوجهة صوب روسيا، ويوحي اتهام ترامب الصين بذلك “بتخبطه وجهله”، أو تعمده لذلك رغبةً في إحراج الصين أمام المجتمع الدولي.
وتصب إدارة ترامب جمّ غضبها على الصين، لمحاولة الأخيرة إنشاء مشروع “طريق واحد ـ حزام واحد” الرامي إلى كسر الهيمنة التجارية والتمويلية والمعلوماتية والتكنولوجية والأمنية على العالم، عبر إعادة إحياء طريق الحرير بصندوق نقدي ضخم يوفر للدول المشاركة في الخط، بديلاً لتمويل صندوق النقد والبنك الدوليين المعروفين بولائهما لخطط الولايات المتحدة في الهيمنة على العالم.
كما يؤدي الخط إلى كسر النفوذ الأمريكي، وهذا ما يؤثر سلبًا على مشروع الإدارة الجديدة الرامية إلى استرداد “الهيبة الدبلوماسية” للولايات المتحدة، أيضًا، يجعل هذا العامل الصين أكثر خطورةً على الهيمنة الأمريكية من الدب الروسي.
“عملية السلام الفلسطينية ستتم في غضون شهرين أو ثلاثة”
سبق هذه الجملة، حديث ترامب عن وجود بعض التعقيدات، وربما ذلك ما أدى إلى إعلان تأجيل عملية السلام لشهرين أو ثلاثة شهور، وفي ظل انعدام التوافق الفلسطيني الداخلي والدعم العربي الجاد والبديل الفاعل والمؤثر الدولي لرعاية القضية الفلسطينية، يبدو أن إدارة ترامب متجهة نحو تحقيق معظم ما يرنو إليه.
في المحصلة، عند التمعن في تفاصيل خطاب الرئيس الأمريكي، يُلاحظ أنه جاء نسخة عن فحوى إستراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة، فالصين وروسيا “غريمتان”، وكوريا الشمالية وإيران دول “مارقة”، وحلفاء الولايات المتحدة مقصرون في مساندتها فيما تصبو لتحقيقه، والمتمايز في خطابه عن إستراتيجيته، هو تحديد الصين كمنافس أول، والتشديد على حل القضية الفلسطينية، وفقًا لرؤيته، في غضون شهور.