في ظل التصعيد العسكري المتسارع الذي تشهده المنطقة، خاصة في جنوب لبنان والهجمات الإسرائيلية التي استهدفت كبار قادة حزب الله، برزت تساؤلات حول دور الفصائل المسلحة العراقية، المنضوية تحت لواء هيئة الحشد الشعبي، التي تُعد جزءًا أساسيًا من “جبهة الإسناد” التي تقودها إيران.
هذه الفصائل، التي تمتلك ترسانة عسكرية وقوة سياسية واقتصادية، تجد نفسها في مفترق طرق بين التزاماتها تجاه “محور المقاومة” وبين مصالحها الداخلية، وعلى الرغم من قدراتها العسكرية المتقدمة، إلا أنها تتجنب الانخراط المباشر في مواجهة مع إسرائيل، مفضلة التصعيد المحدود والانتظار، ما يعكس تأثير العوامل الإقليمية والضغوط الدولية في قراراتها.
نسلط الضوء في المقال على خطاب ودور الفصائل العراقية خلال التصعيد الأخير في المنطقة، بالإضافة إلى مراجعة دورها خلال الحرب الإسرائيلية على غزة التي اندلعت قبل نحو عام.
قدرات الفصائل
قبل الخوض في تحليل دور هذه الفصائل وما يمكن أن تقدمه في مساندة جبهة لبنان خلال التصعيد الحالي، لابد من استعراض قدراتها المتنوعة على الصعيدين العسكري والسياسي والاقتصادي، كونها بترسانة عسكرية تشمل أسلحة متنوعة، إلى جانب نفوذ سياسي عبر مشاركتها في السلطة، كما تمكنت من بناء إمبراطورية اقتصادية.
الترسانة العسكرية
في عام 2016، أضفى مجلس النواب العراقي شرعية قانونية على وجود الفصائل المسلحة من خلال التصويت على قانون هيئة الحشد الشعبي، مما رسخ وجود قوة عسكرية عقائدية ذات انتماء مذهبي، معظمها من الطائفة الشيعية.
تقدر التقارير الحالية عدد مقاتلي الحشد الشعبي بقرابة 170 ألف مقاتل، موزعين على فصائل عدة، أبرزها: منظمة بدر، عصائب أهل الحق، كتائب حزب الله، وحركة النجباء، وتدين بالولاء العقائدي للمرشد الإيراني علي خامنئي، وتستفيد من التمويل والتسليح الذي توفره الدولة العراقية.
وإلى جانب الدبابات الروسية “T-72” والطائرات المسيرة، تمتلك الفصائل ترسانة تشمل المدفعية الصاروخية مثل صواريخ “كاتيوشا”، ومنظومات الدفاع الجوي المحمولة مثل “كورنيت”، وصواريخ باليستية قصيرة المدى مثل “ذو الفقار” و”فاتح-110″، وبنادق القنص المتقدمة مثل “شتاير HS 50″، وأجهزة التشويش الإلكترونية، وحتى زوارق هجومية مسلحة تستخدم في العمليات السريعة.
هذه القدرات تعزز مكانتها كقوة عسكرية متكاملة، إلا أن استخدامها ظل محدودًا في المواجهة المباشرة مع “إسرائيل” بعد عام من طوفان الأقصى وما يجري حاليًا على الساحة اللبنانية، حيث فضلت الفصائل سياسة الحذر والتصعيد التدريجي بالطيران المسير دون انخراط واسع النطاق.
الثقل السياسي والاقتصادي
بعد الانتخابات النيابية في 2018، سعت الفصائل المسلحة إلى ترسيخ نفوذها السياسي بالتوازي مع قوتها العسكرية، حيث تمكنت من دخول السلطتين التشريعية والتنفيذية من أوسع أبوابهما. ورغم العقبات التي واجهتها، مثل تظاهرات أكتوبر/تشرين الأول 2019 التي أسقطت حكومة عادل عبد المهدي، استطاعت الفصائل استعادة الزخم السياسي في انتخابات 2022.
ومهد انسحاب التيار الصدري من العملية السياسية الطريق لفصائل الإطار التنسيقي (ائتلاف سياسي عراقي تشكل من قوى شيعية في 2021) لتشكيل حكومة برئاسة محمد شياع السوداني، حيث تمكنت هذه الفصائل من الحصول على مناصب حكومية بارزة، بما في ذلك وزارات سيادية ومواقع قيادية عليا.
وفي ظل الفساد المتغلغل في مفاصل الدولة، تمكنت الفصائل من السيطرة على عدة قطاعات اقتصادية حيوية، أبرزها مزاد بيع العملة في البنك المركزي العراقي، ويقدر أن عمليات غسيل الأموال وتهريب العملة التي تديرها الفصائل تدر مليارات الدولارات سنويًا.
ورغم فرض عقوبات أمريكية على 8 بنوك عراقية متورطة في هذه الأنشطة، فإن الفصائل استطاعت مواصلة هذه العمليات عبر شبكات مالية معقدة.
كما تستفيد الفصائل من سيطرتها على المنافذ الحدودية، وتهريب النفط الأسود، وإدارة التجارة غير الشرعية، لا سيما في مجال تهريب المخدرات التي جعلت من العراق محطة رئيسية في المنطقة. هذه الأنشطة تدر أموالًا ضخمة تستخدم لتمويل التوسع العسكري والسياسي للفصائل، ما يعزز مكانتها في الساحة العراقية.
إمبراطورية الإعلام
تشمل إمبراطورية الفصائل المسلحة الإعلامية قرابة 50 قناة تلفزيونية وأكثر من 150 وسيلة إعلامية، تتبنى جميعها خطابًا داعمًا للفصائل وأهدافها، وتسيطر أيضًا على هيئة الإعلام والاتصالات الجهة المسؤولة عن تنظيم العمل الإعلامي في العراق، ما يمنحها نفوذًا كبيرًا في التحكم بالمشهد الإعلامي، كما أنها تدير آلاف الحسابات على منصات التواصل الاجتماعي، ما يمكنها من التأثير على الرأي العام وخلق توجهات موالية لها.
ورغم السيطرة الإعلامية الواسعة، فإن وسائل الإعلام الموالية للفصائل لم تصعد خطابها بشكل يتناسب مع الحرب على غزة والتصعيد في لبنان، ما يبدو أن الفصائل تفضل توجيه خطاب “المقاومة” بحذر، خشية أن يؤثر ذلك على مصالحها في الداخل العراقي أو يفقدها الشرعية التي اكتسبتها منذ قتال تنظيم “داعش”.
الفصائل ومحور المقاومة
رغم قدرة الفصائل العسكرية والاقتصادية، إلا أنها تنتهج سياسة الحذر فيما يتعلق بالمواجهة المباشرة مع الكيان المحتل، حيث اقتصرت تحركاتها في الآونة الأخيرة على شن هجمات محدودة ضد “إسرائيل” باستخدام أسماء مستعارة، فيما أبقت على صمتها النسبي حيال التصعيد العسكري الإسرائيلي ضد حزب الله في لبنان.
ويبدو أن هذه الفصائل تفضل العمل تحت مظلة “المقاومة الإسلامية في العراق”، التي تضم فصائل كتائب حزب الله وحركة النجباء وكتائب سيد الشهداء وأنصار الله الأوفياء.
في هذا السياق، يمكن تفسير تردد الفصائل العراقية بالدخول في مواجهة مباشرة ضد “إسرائيل” عبر عدة عوامل، الأول هو الضغوط الإقليمية فإيران التي تعتبر الداعم الرئيسي لهذه الفصائل، قد تكون راغبة في تجنب تصعيد واسع في الوقت الحالي، خصوصًا مع تزايد الضغوط الأمريكية والإسرائيلية على الحضور الإيراني في المنطقة.
العامل الثاني هو الأولويات الداخلية حيث أن الفصائل العراقية تواجه تحديات داخلية تتعلق بترسيخ نفوذها في العراق، وترى أن التورط في حرب مع “إسرائيل” قد يعقد هذه الأوضاع، في حين يعود العامل الثالث إلى التنسيق مع حزب الله وانتظار توجيهات واضحة من قيادة “محور المقاومة” بقيادة حزب الله وإيران، قبل الدخول في أي مواجهة شاملة مع “إسرائيل”.
ضربات متوقعة وتصعيد محتمل
مع تصاعد التوترات في جنوب لبنان، أصدرت الفصائل المسلحة في العراق بيانات تدعو إلى دعم اللبنانيين إنسانيًا، استجابة لفتوى المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني، لكن على الرغم من هذا الموقف الإنساني، لم تظهر الفصائل أي مؤشرات على تصعيد عسكري مباشر ضد “إسرائيل”.
قادة الفصائل مثل قيس الخزعلي، أمين عام عصائب أهل الحق، وأبو آلاء الولائي، أمين عام كتائب سيد الشهداء، أعربا عن استعدادهم لإرسال مقاتلين إلى لبنان، شريطة أن يطلب ذلك حسن نصر الله شخصيًا، ومع ذلك، يبدو أن حزب الله نفسه متردد في طلب هذه المساعدة خشية تصعيد الصراع إلى مواجهة إقليمية شاملة.
يظهر هذا الموقف الحذر بشكل واضح عندما نقارن رد الفعل العراقي مع الخطاب الإيراني أو السوري، حيث تميل الفصائل العراقية إلى عدم اتخاذ خطوات تصعيدية كبرى دون موافقة واضحة من القيادة الإيرانية.
ورغم قلة عدد الهجمات العراقية على “إسرائيل” وضعف تأثيرها، فإنها شكلت عامل إسناد لحزب الله في لبنان، حيث نجحت بعض الطائرات المسيرة العراقية في اختراق الدفاعات الإسرائيلية والتسبب بأضرار مادية طفيفة.
وفي هذا السياق، حذر المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، دانيال هاغاري، من التهديدات القادمة من العراق، مشيرًا إلى أن “إسرائيل” تتابع هذه التحركات وستتخذ الإجراءات المناسبة.
في المقابل، توقع المسؤول الأمني لكتائب حزب الله، أبو علي العسكري، وقوع ضربات أمريكية أو إسرائيلية ضد الفصائل العراقية، داعيًا إلى تصعيد الهجمات وجعلها أكثر تأثيرًا، وفي ظل ذلك يبدو أن الفصائل تعول على التوصل إلى تهدئة في لبنان تنعكس على غزة، بهدف تجنب التصعيد مع الولايات المتحدة.
في الوقت نفسه، فإن تعزيز الوجود العسكري الأمريكي في قاعدة عين الأسد بمحافظة الأنبار، بعد أنباء تحدثت عن إرسال 2000 جندي إضافي، يرفع من احتمالية مواجهة مباشرة في حال تصاعد التوتر بين الفصائل المسلحة والتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة.
وفي ظل ما سبق تقف الفصائل العراقية، رغم القدرات العسكرية الهائلة والنفوذ السياسي والاقتصادي المتنامي، في مفترق طرق بين التزاماتها تجاه محور المقاومة ومصالحها الداخلية، وتظل مترددة في الانخراط في مواجهة شاملة مع الكيان الصهيوني، مفضلة سياسة التصعيد المحدود والانتظار.
ويبدو أن حسابات السياسة الإقليمية والضغوط الدولية تلعب دورًا رئيسيًا في هذا التردد، حيث توازن الفصائل بين تعزيز مواقعها في الداخل العراقي وتجنب الانجرار إلى مواجهة قد تكلفها مكاسبها، ويبقى المستقبل غامضًا، لكن الأكيد أن هذه الفصائل ستظل عاملًا حاسمًا في رسم خريطة الصراعات الإقليمية في السنوات القادمة.