في الـ12 من يونيو/حزيران 2006، استدعى الدكتور علي المهداوي مدير عام دائرة صحة محافظة ديالى – 45 كيلومترًا شمال شرق بغداد – إلى مبنى وزارة الصحة بناءً على كتاب رسمي واتصال شخصي من الوزير بالحضور إليه لتسليمه مسؤولية وكالة الوزارة المرشح لشغلها من جبهة التوافق العراقية.
حضر المهداوي بمعية موكبه المكون من ستة أشخاص، وبعد وصوله إلى الوزارة في الساعة الثامنة صباحًا، دخل المهداوي المبنى للقاء الوزير برفقة شقيقه مزهر بعد تسجيل اسميهما في سجل الزيارات الخاص بالوزارة، لكن المفاجأة الكبرى أن وكيل الوزارة الجديد وشقيقه، دخلا مكتب وزير الصحة ومن وقتها لم يخرجا منه، ولم يُعرف عنهما أيّ خبر حتى الساعة!
أمثال الدكتور المهداوي وشقيقه الآلاف من الأبرياء – الذين لا يمتلكون سوى ثيابهم التي يرتدونها – فقدوا في موجة ضياع لا مثيل لها في عصرنا الحديث، وهي مستمرة منذ الأشهر الأولى للاحتلال وحتى الساعة.
هذه الأيام صرنا مجددًا في مواجهة تقارير فاضحة وكاشفة لحقيقة ما يجري في العراق من انتهاكات لأبسط حقوق الإنسان وكرامته وتغييب للأبرياء، من القوى الناشرة للرعب والإرهاب في المشهد العراقي التي لم تتوان عن اغتيال أو اختطاف الشخصيات التي حاولت أن توجه الاتهام للأطراف المشاغبة واللاعبة بالمشهد الأمني العراقي.
وسبق أن ذكرت صحيفة “أسوشيتد برس” في آذار الماضي أن “السلطات العراقية تعتقل أكثر من 19 ألف شخص بتهم تتعلق بالعلاقة مع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) أو في غيرها من الجرائم المرتبطة بالإرهاب، فيما أصدرت أحكامًا بالإعدام على أكثر من ثلاثة آلاف متهم”.
تقرير هيومن رايتس ووتش ذكر أن “الإخفاءات القسرية الموثقة تشكل جزءًا من نمط أوسع ومستمر في العراق، والسلطات العراقية لم تستجب لأي طلب من الأُسَر أو هيومن رايتس ووتش للمعلومات عن المخفيين”
المعتقلون في العراق يتعرضون لشتى أنواع التعذيب والاغتصاب والقتل وغيرها من صور الانتهاك الواضحة لحرية الإنسان وهذا ما أكده العديد من النواب في العراق ومنهم النائب أحمد السلماني الذي بين أن “أكثر من 50 مليشيا لكل واحدة منها معتقل وراية ترفعها، والمليشيات تعمد إلى مساومة الأهالي الذين قد يبيعون كل ما لديهم ليفتدوا أبناءهم، وفي سيطرة الرزازة (جنوب الفلوجة) التي تتحكم بها مليشيا حزب الله فر 65 معتقلًا من أصل 1400، وتحدثوا عن مآس يندى لها الجبين من صعق المعتقلين بالكهرباء والسحل”، ومعتقلو الرزازة ما زالوا حتى اليوم في غياهب المعتقلات السرية، ولا أحد يعلم أين هم، ومن بقي منهم على قيد الحياة.
اليوم عادت للأضواء قضية الاعتقالات التعسفية، وما ذكرته منظمة هيومن رايتس ووتش في تقريرها عن العراق الصادر في الـ27 من شهر سبتمبر/أيلول الحاليّ لم يكن مفاجأة لأن الكثير من المتابعين للشأن العراقي تحدثوا عن انتهاكات قسرية وظلم كبير وقع في البلاد منذ أكثر من عشر سنوات.
تقرير هيومن رايتس ووتش كان بعنوان “حياة بدون أبو حياة ما إلها معنى”، وتناولت فيه الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري في العراق 2014-2017″، وهو تقرير مبنيٌّ على بحوث نشرتها هيومن رايتس ووتش عن الاختفاء القسري في العراق منذ 2014 عندما شنت القوات العراقية عملياتها ضد تنظيم “داعش”، ويوثّق إخفاء 74 رجلًا و4 أطفال آخرين كانوا محتجزين لدى الجيش والقوى الأمنية العراقية بين أبريل/نيسان 2014 وأكتوبر/تشرين الأول 2017 ثم أُخفوا قسرًا”.
وسنحاول هنا ذكر مقاطع مهمة من التقرير والتعليق عليها، لأنها مهمة وتكشف حقيقة المآسي في العراق!
تقرير هيومن رايتس ووتش ذكر أن “الإخفاءات القسرية الموثقة تشكل جزءًا من نمط أوسع ومستمر في العراق، والسلطات العراقية لم تستجب لأي طلب من الأُسَر أو هيومن رايتس ووتش لتقديم المعلومات عن المخفيين”.
بينت المنظمة استمرار حدوث عمليات الاختفاء، وأكدت أن أغلب الأشخاص الـ78 الذين وثّقت قضاياهم كانوا محتجزين في 2014 وآخرهم في أكتوبر/تشرين الأول 2017
المذهل أن اللجنة الدولية للمفقودين التي تعمل بالشراكة مع حكومة بغداد لمساعدتها على التعافي وتحديد المفقودين، تقدر أن عدد المفقودين في العراق قد يتراوح بين 250 ألف ومليون، وتقول اللجنة الدولية للصليب الأحمر إن لدى العراق أعلى عدد مفقودين في العالم.
ولا أدري كيف يمكن تفهم أن الرقم بين الربع مليون والمليون، يمكن أن نقبل بأن تكون بين 250 ألف إلى 300 ألف، وليس بين 250 ألف والمليون، فهذا يعني أن الحكومة لا تدري أين اختفى هؤلاء ولا تمتلك إحصاءات دقيقة عنهم، ولا يهمها الموضوع لأنها لم تسع لمعرفة مصيرهم!
ونقل تقرير المنظمة معاناة عوائل المعتقلين، ومن ذلك هموم زوجة “حردان” (42 عامًا) التي أُوقف زوجها في 2014، وقالت: “الحياة دون أب حياة لا معنى لها، الأطفال يتمرّدون ومن الصعب تربيتهم، ما ذنب هؤلاء الأطفال كي يُحرموا من الأب لـ4 سنوات؟”.
وبينت المنظمة استمرار حدوث عمليات الاختفاء، وأكدت أن أغلب الأشخاص الـ78 الذين وثّقت قضاياهم كانوا محتجزين في 2014 وآخرهم في أكتوبر/تشرين الأول 2017، لكن هيومن رايتس ووتش لا تزال تتلقى تقارير عن حدوث اختفاءات في مختلف أنحاء العراق!
وأكد تقرير المنظمة الدولية أن ثلاثة أشخاص أفرج عنهم، وهم من المحتجزين والمخفيين في 2014 و2015، أشاروا إلى أنهم كانوا بعهدة الحشد الشعبي أو “جهاز الأمن الوطني” في مواقع احتجاز غير رسمية، وقالوا جميعًا إنهم ضُربوا على امتداد فترة احتجازهم.
ختمت المنظمة تقريرها بالقول: “يجب توجيه تهمة إلى أي شخص لا يزال محتجزًا أو إطلاق سراحه، أما إذا كانوا قد تُوُفّوا، فعلى الحكومة أن تعيد الجثث إلى الأسر وتقدّم شرحًا مفصلاً لظروف الوفاة”
إن ما يجري من عمليات احتجاز تعسفية لا تتطابق مع الدستور العراقي ولا مع القوانين النافذة ومنها “قانون أصول المحاكمات الجزائية” الذي يوجب على الأجهزة المحتجزة للمواطن العراقي أن تتم عملية الاحتجاز بموجب مذكرة توقيف صادرة عن المحكمة، على أن يمثل المشتبه فيه أمام قاضي التحقيق في غضون 24 ساعة كي يصرّح بتمديد فترة الاحتجاز، وأكدت المنظمة أن عناصر الأمن لم يقدموا أي مذكرة توقيف أو تفتيش، ولا تعرف أيٌّ من الأسر إذا كان أقاربها قد مثلوا أمام قاضي التحقيق خلال الفترة القانونية.
وختمت المنظمة تقريرها بالقول: “يجب توجيه تهمة إلى أي شخص لا يزال محتجزًا أو إطلاق سراحه، أما إذا كانوا قد تُوُفّوا، فعلى الحكومة أن تعيد الجثث إلى الأسر وتقدّم شرحًا مفصلاً لظروف الوفاة، يجب التحقيق مع أي من القوات التابعة للدولة المتورطة في هذه القضايا، ومعاقبتها كما يجب تعويض الأسر”.
وفي ضوء هذه الأرقام المزعجة والكبيرة نحن حريصون على معرفة ردود حكومة بغداد ووزارة حقوق الإنسان والداخلية، وحتى البرلمان العراقي الجديد عن هذه الأرقام المؤلمة التي تشير إلى وجود ما يقارب مليون مفقود في العراق، فمنْ الذي اهتم بعوائلهم وتربية أولادهم وتوفير لقمة العيش الكريمة لهم، أم أنهم أصبحوا في ثنايا النسيان مع انشغال الساسة بالمناصب والترتيبات غير المجدية للشعب العراقي؟