حرص علماء النفس والتربية منذ عقود طويلة على دراسة أساليب التربية والتنشئة وأثرها على الطفل على مدى المراحل العمرية المختلفة لما في ذلك من أهميةٍ كبيرة على الفرد والأسرة والمجتمع. ولذلك، رأى عالم النفس البريطانيّ “دونالد وينيكوت” أنّ أنّ سعادة الجنس البشريّ ورضاه لا يتوقفان على الأوضاع السياسية لمحيطه، بل على ما هو أقرب من كلّ ذلك؛ على المنزل والطريقة التي يربّي بها الوالديْن أطفالهما، كما ركّز على أنّ جميع الأمراض البشرية التي يشهدها العالم هي بالأصل نتاج فشل علاقة الأبوين بأطفالهما واستيعابهما لهم.
إذ يسعى الكثير من الآباء، بوعيٍ أو بغير وعي، إلى الوصول بأبنائهم لمرحلة من المثالية والتميّز في تربيتهم وتنشئتهم إياهم، ويظهر ذلك جليًا من خلال علاقة الطفل بأبويه ونوعيتها، تمامًا كما من خلال العديد من القواعد والقيود التي يتم وضعها ويُطلب من الطفل اتباعها وطاعتها ليكونَ طفلًا “جيّدًا” وفقًا لمعايير المجتمع والمحيط من حوله.
“آباء الهليوكبتر” هو ظاهرةً منتشرة بين جيل الألفية، حيث كثيرًا ما يكون الآباء مهووسين برؤية أطفالهم على طريق النجاح ما يدفعهم للتدخّل في كافة تفاصيل حياتهم بدءًا من الأمور الشخصية وحتى الأكاديمية والاجتماعية.
“آباء الهليكوبتر”: الخوف والاهتمام المفرطان لا يعودان بنتائج إيجابية
على الرغم من أنه قد يبدو من الرائع أنْ يكون هناك شخص ما يقوم بالاعتناء بكل شيء يخصّك، إلا أن البشر لديهم حاجة فطرية للقيام بالأشياء بأنفسهم، حتى في سني الطفولة المبكرة. فالطفل، وبشكلٍ فطريّ للغاية، يميل لاكتشاف عالمه بنفسه وحلّ مشكلاته الخاصة وتجربة خياراته الفردية. لكنّ ثمة نوعٌ من الآباء، يُطلق عليه في الأدبيات العلمية مصطلح “آباء الهليكوبتر”، يحاول دومًا تخليص طفله من ميله الفطريّ هذا سعيًا منه بالوصول للطفل لمرحلةٍ من الكمال.
كيف يمكن لصرامة الآباء تخريب قدرة الأبناء على التعامل مع العالم.
ومن خلال رغبة الكمال والتميّز والنجاح تلك، يظهر أبٌ صارمٌ أو أمٌّ صارمة يخافان حدّ الفرط على أبنائهما ويولونوهم اهتمامًا مبالغًا إلى درجة مشاركتهم جميع لحظاتهم واتخاذهم لجميع قراراتهم ومراجعة جميع خطواتهم في الحياة.
يعود بداية استخدام هذا المصطلح إلى العام 1969 حين نشر الكاتب “حايين جينوت” كتابه “بين الآباء والمراهقين” ذاكرًا فيه ذلك النوع من المراهقين الذي يعانون من “تحليق الأم فوقهم كالهليكوبتر”. لاحقًا وفي بداية التسعينات، صاغ كلٌّ من الأكاديميين الأمريكيين فوستر كلاين وجيم فاي مصطلح “آباء الهليوكبتر” واصفين فيهم ظاهرةً منتشرة بين جيل الألفية، حيث كثيرًا ما كان آباؤهم مهووسين برؤية أطفالهم على طريق النجاح ما يدفعهم للتدخّل في كافة تفاصيل حياتهم بدءًا من الأمور الشخصية وحتى الأكاديمية والاجتماعية.
الأطفال الذين لديهم آباءً صارمين ويحبون فرض السيطرة والمبالغة في التدخل في خيارات أطفالهم، هم أكثر الأطفال عرضةً للمشاكل في المدرسة بسبب ارتفاع معدّلات سوء السلوك لديهم.
سلوكٌ غير سويّ ونفسية متذبذة
قد توصلت دراسة حديثة، قام بها عدد من علماء النفس التنموي في جامعة “مينيسوتا” الأمريكية، إلى أنّ الأطفال الذين لديهم آباءً صارمين ويحبون فرض السيطرة والمبالغة في التدخل في خيارات أطفالهم، هم أكثر الأطفال عرضةً للمشاكل في المدرسة بسبب ارتفاع معدّلات سوء السلوك لديهم.
فالخوف والتدخّل المفرطان من الأبوين يمكن أن يؤثرا سلبًا على صحة الطفل العاطفية بحسب ما وصفته الدراسة؛ ما يجعله أقل قدرة على التحكم بسلوكه والتعامل مع المواقف الاجتماعية. وتؤكد الدراسة أنّ الأطفال الذين يملكون آباء وأمهات صارمين ومسيطرين قد يكونون أقل قدرة على التعامل مع المتطلبات الصعبة للنمو، لا سيما مع الانتقال إلى بيئة المدرسة المعقدة.
كما يعجز هؤلاء الأطفال عن تنظيم عواطفهم وسلوكهم بشكل فعال في الفصل الدراسي أو حتى عن تكوين صداقات وعلاقات اجتماعية في المدرسة أو خارج أسوارها. وبذلك، تقترح الدراسة أنْ يعمل الآباء على مساعدة أطفالهم على تعلّم التحكم بعواطفهم وسلوكهم من خلال إرشادهم لهم والتحدث عن كيفية فهم المشاعر وتوضيح العديد من السلوكيات، بدلًا من إملائهم لكيفية تفاعلهم وتعاملهم وتوجيههم لما يجب عليهم القيام به.
من المرّجح أيضًا أنْ يكون آباء الهليوكبتر أكثر حزنًا من غيرهم حين يتعلّق الأمر بخروج أبنائهم من المنزل
ولا تقتصر الآثار السلبية على نفسية الطفل وحسب، فمن المرّجح أيضًا أنْ يكون آباء الهليوكبتر أكثر حزنًا من غيرهم حين يتعلّق الأمر بخروج أبنائهم من المنزل. ووفقًا لإحدى الدراسات التي أجربتها جامعة “ماري واشنطن” في فريدريكسبيرغ بولاية فرجينيا، فإنّ أكثر من 23٪ من الأمهات اللواتي تنطبق عليهنّ صفات “أمهات الهليوكبتر” قد جربنَ أعراض الاكتئاب في مرحلة وصول أبنائهنّ لرياض الأطفال وتركهم البيت للذهاب للروضة أو المدرسة.
أمّا عن الأسباب الدافعة للاكتئاب، فتوضح الدراسة أنّ خوف الأمّهات من تعرّض أطفالهنّ للأذى بأشكاله المختلفة أثناء غيابهم عنهم قد يكون العامل الرئيسيّ. وذلك لأنّ الآباء المفرطين فغالبًا ما يتخذون إجراءات حماية أطفالهم من أيّ أذىً قد يلحق بهم، حتى لو كان صغيرًا للغاية ولا يمكن ذكره.
وبالتالي، يرى خبراء التربية والطفل أنّ الطفل بحاجةٍ لأنْ يعرف من أبويه ما هو آمنٌ وما هو غير ذلك. فالأطفال ينجذبون بشكلٍ طبيعيّ للعب المحفوف بالمخاطر نظرًا لكونه يساعدهم بشكلٍ كبير على تعلّمهم لإدراة مخاوفهم ومواجهة تحدّيات الحياة. وبهذا، يرى علم النفس التطوري أصلًا، أنّ اللعب وُجد بين الأطفال أصلًا لمحاكاة المهارات البدنية والعقلية التي نحتاجها للبقاء والاستمرار والتكاثر. والعديد من الأبحاث أيضًا تشير إلى أنّ الأطفال يشعرون بالملل من اللعب الآمن، لذلك تراهم يلجؤون لخلق مخاطرهم الخاصة مثل تسلق الأشجار والوقوع عن الأراجيح والاندماج في ألعاب القتال وغيرها.