استيقظ السودانيون صباح الخميس 26 سبتمبر/أيلول على أنباء عن عملية عسكرية واسعة النطاق للقوات المسلحة ضد قوات الدعم السريع في عدة مواقع بالعاصمة السودانية بهدف استعادة المناطق التي فقدها منذ بداية الحرب، حيث تسيطر الدعم السريع على معظم مدينتي الخرطوم وبحري، بينما يسيطر الجيش على أغلب مناطق وأحياء مدينة أم درمان التي تقع على الضفة الغربية لنهر النيل.
بدأت العملية العسكرية المباغتة في الثانية فجرًا بإسناد من سلاح الجو والمدفعية الثقيلة، وأطلق عليها ناشطون داعمون للجيش اسم “عملية العبور العظيم”، لأن قوات الجيش عَبَرت من مدينة أم درمان إلى شقيقتها الخرطوم في وقتٍ متزامنٍ باستخدام الجسور النيلية.
وقد جرت العملية على النحو التالي:
- تحركت قوة مشاة من قيادة سلاح المهندسين وقاعدة كرري عبر جسر السلاح الطبي (النيل الأبيض) الذي يصل أم درمان بأشهر شارع في الخرطوم وهو شارع النيل، حيث يلتف على المدينة من الشمال مرورًا بالقصر الرئاسي ومقار الحكومة والوزارات السيادية مثل وزارتي الداخلية والخارجية، فضلًا عن منطقة وسط الخرطوم التجارية المعروفة باسم السوق العربي.
- قوة أخرى تحركت نحو الخرطوم من منطقة أم درمان العسكرية التي تضم عددًا من المقرات المهمة مثل أكاديمية نميري العسكرية العليا وكلية القيادة والأركان، إضافة إلى قيادة لواء مدفعية الراجمات. استخدمت تلك القوات جسر الإنقاذ “الفتيحاب” الذي يربط مدينة أم درمان بمنطقة المقرن التي يقع فيها مقر رئاسة البنك المركزي وأبراج شركات البترول والمقر الرئيس لشركة زين للاتصالات، كما يتحكم جسر الإنقاذ في معظم حركة السير لجنوب الخرطوم عبر شارع غابة السنط، ويمثل أحد أقرب الطرق إلى قلب الخرطوم للقادمين من أم درمان.
- كما عبرت قوة برية ثالثة من منطقة وادي سيدنا العسكرية التي تضم معهد المدرعات ولواء الدفاع الجوي إلى مدينة بحري، مستخدمة جسر الحلفايا الذي يعد أبعد جسر في شمال الخرطوم.
#الخرطوم الان!🔥 pic.twitter.com/NsK9f0xK8S
— VISTA (@4004_04_04) September 26, 2024
مكاسب كبيرة
لم تقتصر المشاركة في العملية العسكرية للجيش السوداني على القوات البرية التي عبرت الجسور فحسب، إذ نسقت قوة من منطقة الكدرو العسكرية “شمال” مع القوة التي عبرت جسر الحلفايا واستطاعا معًا تحقيق العديد من المكاسب، يمكن تلخيصها بالآتي:
– استعادة حي الكدرو بأكمله، وكان يمثل خط إمداد رئيسي لقوات الدعم السريع من مصفاة الخرطوم للبترول للتزود بالوقود. ما يعني قطع الإمدادات عن قوات حميدتي.
ونشر داعمون للجيش مقطع فيديو يظهر فيه قائد منطقة الكدرو العسكرية، اللواء الركن النعمان عوض السيد، وهو يتجول برفقة قواته في الحي.
📌 قائد منطقة الكدرو العسكرية اللواء النعمان يتفقد الخطوط الامامية بعد سيطرة الجيش عليها …🇸🇩 pic.twitter.com/yPkHyKv50W
— مُصـْطَفـَـى (@Mustafa_sdm1) September 27, 2024
كما أظهرت الصور والمقاطع منازل بضاحية الكدرو، قال ناشطون إنّ الدعم السريع حولتها إلى ثكنات وقواعد عسكرية لتخزين العتاد والسيارات القتالية، بعد طرد المواطنين من داخلها ونهب مقتنياتها.
– كما توغلت القوة المشتركة جنوبًا إلى حي الإزيرقاب ومن ثم تمكنت من السيطرة على جسر الحلفايا من الجهتين (بحري وأمدرمان) وحي الدروشاب شمال.
– يجزم مراقبون على دراية بالمنطقة أنّ الربط بين وحدات الجيش الموجودة في مدينة بحري (منطقة الكدرو، سلاح الإشارة، معسكر حطاب) بات سهلًا بعد الاختراقات الأخيرة وأنه سيتم في القريب العاجل ما يعني استعادة الجيش السيطرة على معظم أحياء بحري القديمة.
– ويؤكد آخرون أن معارك بحري والخرطوم والمناقل ألقت بظلالها على محور مصفاة الخرطوم مشيرين إلى أنّ قوة الدعم السريع المتمركزة هناك وجدت نفسها محاصرة، وأنّ المصفاة في طريقها لتصبح بالنسبة لهم كما حدث في مبنى الإذاعة بأمدرمان التي استعادتها القوات المسلحة في مارس/آذار الماضي.
– في الوقت نفسه انفتحت قوة من قيادة سلاح المدرعات باتجاه حي جبرة الذي تقع في محيطه، ولم تتوفر معلومات تفصيلية حول حجم الانتشار الذي حققته قوات المدرعات، حيث يرجح أنها تسعى مستقبلًا للالتحام مع القوات الموجودة في رئاسة القيادة العامة، وإذا تحقق ذلك الأمر فهو يعني استعادة مناطق واسعة من أحياء جنوب الخرطوم وشرقها.
– توازيًا مع ذلك تمكنت قوات الفرقة الثالثة مشاه بولاية نهر النيل من استعادة منطقة حجر العسل وهي مدينة صغيرة حدودية مع ولاية الخرطوم، كانت الدعم السريع تسيطر عليها منذ يونيو/حزيران 2023.
– في مدينة الخرطوم لا تزال قوات الجيش التي عبرت من أمدرمان تحاول استعادة منطقة المقرن الإستراتيجية التي يقع في محيطها رئاسة البنك المركزي، بينما تستميت الدعم السريع في الدفاع عن وجود قواتها.
منذ الفجر الجيش يهاجم المليشيا في محيط المقرن الخرطوم pic.twitter.com/VjnstGStj3
— عبدالرؤوف طه علي (@AbwTh89838) September 28, 2024
صمت رسمي واحتفاء شعبي
رغم أهمية العملية العسكرية واسعة النطاق التي نفذتها تشكيلات من القوات المسلحة السودانية برًا وجوًا وبحرًا، امتنعت قيادة الجيش والمتحدث الرسمي عن إصدار أي بيان عن العملية وأهدافها ومدتها، كما لم يستجب المتحدث الرسمي ومكتبه لطلبات “نون بوست” للتعليق عن العملية، ورجح ناشطون وصحفيون أن يكون الجيش تعمد عدم الحديث عن الهجوم وأهدافه بهدف إرباك “الدعم السريع” والاستمرار في عنصر المباغتة الذي بدأه.
جدير بالذكر أن الهجوم غير المسبوق عَرَف تفاعلًا لافتًا من جمهور منصات التواصل الاجتماعي في السودان وخارج السودان، ذلك أنها المرة الأولى التي يشن فيها الجيش السوداني عملية عسكرية متزامنة بهذه القوة على “الدعم السريع” من عدة محاور شمال ووسط وجنوب العاصمة الخرطوم.
هذه لحظات مؤثره للغايه بين التهليل و التكبير و دموع الفرحه و الزغاريد في وقت واحد بعد وصول الجيش السوداني الي وسط العاصمه الخرطوم
تدور معارك طاحنة ضد مليشيات الدعم السريع في عدة محاور داخل العاصمة الخرطوم ومدنها الثلاث. pic.twitter.com/ViN9p8f61t
— أحمدصالحAhmd Saleh (@iahmedsalih) September 26, 2024
ويأتي الهجوم بعد أيامٍ من تصريحات للجنرال ياسر العطا، مساعد القائد العام للجيش السوداني قال فيها إن الجيش سيمطر “حجارة من سجيل” على “الدعم السريع”، موضحًا أن العمليات العسكرية انطلقت بالفعل والاستعدادات تتميز بجودة عالية، وأردف: “نحن الآن في مرحلة الحسم، لكن المعركة قد بدأت”.
العطا الذي اكتسب شعبيةً واسعةً كونه أكثر قيادات الجيش حديثًا عن تفاصيل العمليات العسكرية وحتمية انتصار القوات المسلحة، كان قد كشف في وقت سابق عن تشكل حلف إستراتيجي لصالح السودان من دول كبرى، ومن دول داخل الإقليم وخارجه، بعدما عملت قوى إقليمية على حصار السودان وعزله، حسب تعبيره.
كما اكتسب العطا شعبيته جراء حديثه المتكرر عن ضلوع أبو ظبي في تسليح “الدعم السريع”، فكان أول من صرّح بتورط الإمارات في العدوان على الشعب السوداني، واصفًا إياها بـ”دولة الشر” ورئيسها محمد بن زايد بـ”شيطان العرب”.
وأعلن ياسر العطا عضو مجلس السيادة ومساعد القائد العام للجيش السوداني في مطلع أغسطس/آب الماضي أنّ الفترة المقبلة ستشهد انتصارات حاسمة للجيش في كل محاور القتال بعدما حصلوا مؤخرًا على إمدادات عسكرية كبيرة، مع توقعات باستلام أسلحة نوعية أخرى “ستكون بداية لنهاية قوات الدعم السريع”.
استعدادات مبكرة للجيش
أحاديث الجنرال ياسر العطا تشير إلى أنّ القوات المسلحة السودانية كانت تعد العدة لهذه المعركة منذ فترة طويلة، حيث كشفت صحيفة نيويورك تايمز مؤخرًا أن إيران زودت الجيش السوداني بطائرات مسيرة مسلحة، وأن الحوثيين في اليمن أرسلوا شحنات من الأسلحة إلى الجيش السوداني، بناءً على طلب من إيران، كما أوضحت أن قطر أرسلت للجيش ست طائرات حربية صينية.
ونقلت الصحيفة الأمريكية في تحقيق لها عن سفير الاتحاد الأوروبي لدى السودان أن السعودية قدمت أموالًا للجيش السوداني استخدمها لشراء طائرات إيرانية مسيرة، كما أشار التحقيق إلى أن الجيش و”الدعم السريع” حصلا على أسلحة من روسيا والصين، لكن روسيا تحولت مؤخرًا إلى جانب الجيش، بحسب الصحيفة الأمريكية.
للحصول على المزيد من المعلومات حول هجوم الخميس، تحدث “نون بوست” إلى مصدر عسكري مطلع، والذي قال إن العملية العسكرية انطلقت بالفعل منذ أسبوعين بطلعات جوية ناجحة لسلاح الجو والمسيرات أسفرت عن تدمير العديد من الأهداف لـ”الدعم السريع” داخل الخرطوم وخارجها.
وكشف المصدر – رفض ذكر اسمه كونه غير مخول بالحديث – أنّ الهدف الأساسي لعملية العبور يتمثل في استعادة منطقتي المقرن ووسط الخرطوم إلى جانب ربط سلاح المهندسين مع القيادة العامة، مشيرًا إلى أنّ التحرير الكامل للخرطوم سيستغرق بعض الوقت والأولوية حاليًا لعمق المدينة ووسطها مع محاور أخرى في سلاح المدرعات ومدينتي بحري وأم درمان.
تدمير القوة الصلبة لـ”الدعم السريع”
أضاف المصدر أن الجيش كان يواصل الاستعداد منذ شهور لهذه العملية العسكرية من حيث التدريب والتسليح والتنسيق بين الوحدات على الأرض، وحتى من ناحية الوجبات الغذائية الجاهزة، بعدما تمكن من تدمير القوة الصلبة لـ”الدعم السريع” والقضاء على قيادتها الميدانية على مدى عام ونصف من القتال المستمر، شارحًا في هذا الصدد الفارق الكبير من حيث العددية بين الجيش و”الدعم السريع” الذي استقطب مئات آلاف المرتزقة من دول الجوار وعن طريق الفَزَع القبلي، مقابل عشرات الآلاف من جنود الجيش والمتطوعين، حسب وصفه.
وردًا على سؤال مزدوج حول ما يتردد عن مقتل 4 جنود إماراتيين في استهداف مقاتلة تابعة للجيش لمطار نيالا غرب السودان بعد رصد هبوط طائرة مجهولة فيه، وعن حشود للجيش والحركات المسلحة المتحالفة معه بالقرب من المدينة لاستعادتها من قبضة “الدعم السريع”، تحفّظ محدثنا عن الإجابة، قائلًا إنه يفضل عدم الإجابة عن هذا السؤال، مشيرًا إلى أنّ الأيام القادمة ستكشف عن المزيد.
واختتم المصدر المطلع حديثه لـ”نون بوست” بالقول إنّ عملية العبور كانت هجومًا كبيرًا ناجحًا واسع النطاق يعتمد استمراره على عدة عوامل ميدانية، مشيدًا بالتنسيق المحكم وبإشارة موحدة، حيث كان سلاح الجو يعمل جنبًا إلى جنب مع المشاة، وأنّ المدفعية كانت تعمل من قاعدة وادي سيدنا في تناغم مع سلاح المدرعات بالخرطوم.
الطريق الى الجيلي 🔥
🔴 القوات المسلحة تحرر وتمشط اجزاء واسعة من طريق الجيلي شمال بحري pic.twitter.com/YzYEYCBY6y— Dothα⚡ (@modather98) September 27, 2024
أخيرًا، وبغض النظر عن نتائج عملية العبور وتكتم الجيش على تفاصيلها، من الواضح أن الحكومة السودانية كانت ترتب لها منذ فترة طويلة، والتفاعل الجماهيري الكبير مع العملية أثبت مدى كراهية الشعب لمليشيا الدعم السريع وفرحه بأي تحرك عسكري ضدها.
يبقى هناك أمر مهم ينبغي أن يكون في طليعة اهتمامات الجيش السوداني وهو ضرورة قطع إمدادات “الدعم السريع”، حيث تتمتع منذ بداية الحرب بإمداد عسكري ولوجيستي مفتوح من دولة الإمارات عبر الحدود الغربية، ومع عدم وجود ضغط دولي فعال ضد أبو ظبي، لا خيار أمام الجيش سوى الشروع في وضع خطة لقطع الإمداد عن قوات حميدتي، وهذه العملية لن تكون سهلة لطول الشريط الحدودي للسودان مع تشاد المتورطة في إسناد “الدعم السريع”، وعليه قد يتطلب الأمر طلب المساعدة من مخابرات الدول الصديقة لإنجاز المهمة.