ربما لا يجدر بنا إيلاء اهتمام كبير للافتراض القائل بأن للعلم مجالًا مغايرًا – بشكل جدي – للحياة اليومية؛ فمن جهة، هذا التصور يحصر الاشتغال بالعلم على جماعة معينة لها قيمها ولغتها وطقوسها ومظهرها المتفرد المعزول عن باقي أشكال النشاط الإنساني.
ومن جهة أخرى، فإن إعادة النظر في كيفية تدبير الإنسان لاحتياجاته الرئيسة وتفاعله داخل المجتمع تَشي بعدم صدق هذا الافتراض، وأسوق في هذا السياق قليلًا من الأمثلة التي تدحض هذا الوهم، وتعرضت لها بشكل مباشر وشخصي:
العلوم الضرورية تُقَعّد ولا تُخترَع!
بدأت الحكاية في قاعات الدرس الأكاديمي بالجامعة، حينما كان بروفيسور اللسانيات مصرًا على أننا نعرف النحو العربي قبل أن ندرسه تخصصيًا في المدارس والجامعات، وأن الذي لا نعرفه تحديدًا هو مصطلحات أهل العلم “النحاة”، وما يحول بيننا وبين فَهم النحو وهضمه هو ذلك القلق النفسي الذي نجتره حينما نسمع كلمة (النحو) وكل ما ينتمي إلى مجالها الدلالي، وذلك القلق النفسي سيزول حتمًا بعد أن نتعرف على فلسفة النحو وكيفية وضعه من جانب النحاة.
وكان رد فعلنا – دومًا – الاستنكار والنفي، معتبرين هذا الرجل “بياع كلام”، كما يقولون، فالنحو – بالنسبة لنا – نشاط ذهني استثنائي لا يقوى عليه إلا أشخاص معينون، يغلب عليهم الاشتغال بالشرعيات ويتمتعون بملكات خاصة من الحفظ والتحليل، إلخ، وما كان منه إلا أن يضرب لنا مثالًا يعكس صدق قوله وهشاشة صورتنا الذهنية المتوهمة عن صعوبة النحو، فكان يقول:
“أكل زيدٌ فولاً صباحًا عند بائع الفول سدًا لجوعه”؛ فإذا علمتم أن النحو – في أي لغة – يدرس الجملة، وإذا علمتم أن الجملة – أي جملة – عبارة عن مركب إسنادي (مسند إليه، نتحدث عنه، ونسند إليه حكمًا ما)، فماذا تفهمون من الجملة؟ فكان الطلاب يجيبون: إن شخصًا اسمه زيد، أكل فولاً، صباحًا، عند بائع الفول، لأنه كان جائعًا.
جوهر المقرر أن النحاة العرب “لم” يخترعوا النحو، وإنما، هم، فقط، قاموا بتقعيده وتنظيمه وتهذيبه في ضوء قياسهم على ما أطرد على لسان القبائل العربية الفصيحة، إبان ما يعرف “بعصر الاحتجاج”
كانت إعادة ترتيب الجملة التي يقوم بها الطلاب فتحًا وكسرًا للحاجز النفسي بينهم وبين النحو، إذ كان “البروفيسور” يسألهم بعدها بعفوية:
إذًا، من الآكل يعني؟ فيجيبونه: زيد!
وماذا أكل زيد؟ فيجيبونه: فولاً!
ومتى أكله زيد؟ فيجيبونه: صباحًا!
أين؟ عند البائع!
لم؟ سدًا لجوعه!
فأدرك الطلاب مبكرًا أن ثمة (إجابةً) ما، تحملها كل أداة نحوية، ردًا على سؤال ما، وأن هذه النظرية تعرف بـ(المحتوى الدلالي للوظائف النحوية).
كبرنا قليلاً ووصلنا للفرقة الثالثة، فدرسنا مقررًا بعنوان:”أصول النحو العربي”، وجوهر المقرر أن النحاة العرب “لم” يخترعوا النحو، وإنما، هم، فقط، قاموا بتقعيده وتنظيمه وتهذيبه في ضوء قياسهم على ما أطرد على لسان القبائل العربية الفصيحة، إبان ما يعرف “بعصر الاحتجاج”، ثم ساقوا شواهدًا من الشعر والنثر والقرآن والحديث وكلام العرب، تؤكد أن العرب قد فهموا هذه القاعدة كما أقرها ووضعها النحاة.
شطائر بنكهة علمية!
في أحد الأيام، وفي وقت متأخر من الليل، طلبت من أخي الصغير شراء شطيرة معينة من أحد المخابز الإفرنجية، فأخبرني أنه لن يجدها هناك في هذا الوقت، وأن ذهابه سيكون بلا جدوى، تصورت أنه يتكاسل كعادته، وأنه يسوق أعذارًا حتى لا يكلف نفسه عناء الطريق، ولكنه ذهب فعلاً، ولم يجدها.
أنتج واقعنا الجديد حقيقة جديدة مفادها أن كل ضروب المعرفة البشرية – تقريبًا – صارت متاحة للجميع
سألته عن سر تأكده من عدم وجودها، فأخبرني أن المخبز يخبز عددًا محدودًا من هذه الشطيرة في وقت مبكر من اليوم، وأنه (اعتاد) شراءها لنفسه دومًا وقت خروجها طازجةً، فكان يجد أن الإقبال على طلبها كبير، مقارنةً بعدد المخبوز، وبالكاد كان يستطيع الحصول على ما يريد لنفسه؛ (فتنبأ) – بسهولة – أنها قد بيعت كلها في هذا الوقت المتأخر من اليوم، وكان ينبغي لي طلبها في وقت أقرب من ذلك الوقت المتأخر من اليوم.
والشاهد من الموقف هو استخدام الطفل الصغير لبعض الأدوات الذهنية المعروفة في المنهج العلمي التجريبي مثل: “الملاحظة، والتفسير، والتنبؤ” في موقف عادي من مواقف الحياة اليومية.
استدلال علمي في موقف استثنائي
طلب مني أحد الأصدقاء أن أكون شاهدًا على “طلاق” أمه من أبيه! وبعد أن تحققت من جدية مطلبه، وأصبحت قاب قوسين أو أدنى من القيام بمطلبه، وبمجرد حضور والدته، فإذا بوالده يطلق ضحكة ساخرة، مصحوبة بعبارة: “أنا كنت حاسس!”.
انتهى الأمر، وحدث ما أتينا جميعًا لأجله، ولكن بقي أن أعرف سر هذه الضحكة غير الملائمة للسياق، فسألت صديقي الذي أخبرني أن أحد أبرز أسباب توتر علاقتهما، هو اهتمام والده المنصب على كل شيء تقريبًا، باستثناء تفاصيل زوجته الشخصية، وكل محاولات لفت انتباهه لهذا العيب من جانبها باءت بالفشل! وفي هذه الليلة تحديدًا، ليلة الانفصال، قررت أمه ارتداء لباس عصري أنيق لم تعتد ارتداءه طوال مدة زواجهم الطويلة، فأدرك الزوج وقتها أن شيئًا جوهريًا قد انهار في هذه العلاقة، وأن كل شيء لم يعد كما كان.
توقفت طويلاً عند استدلال الزوج على انهيار العلاقة من خلال تغير ملابس زوجته، وتذكرت ما قرأته عن “فلسفة الملابس”؛ فملابس الشخص قد تعكس خلفيته الاجتماعية أو هويته الوطنية أو عقيدته الدينية، وأن أي تغير – جذري – في شكل الإنسان الخارجي، هو انعكاس لتغير مقابل في “داخل الإنسان”.
واقعنا السائل قد أعطى فرصة حقيقية للتعبير عن حقيقة أن العلم جزء لا يتجزأ من بنية الحياة اليومية
ربما لا يستطيع هذا الزوج البسيط التعبير عن هذه الحقيقة بمفردات علمية، ولكن التجربة أثبتت أنه يدركها، تمامًا كما أخبرنا بروفيسور اللسانيات عن النحو.
التأصيل الفلسفي
ذهب بعض المفكرين – القدامى والمعاصرين – إلى أن “العلمية” ضاربة بجذورها في فطرة الإنسان وسعيه في هذه الحياة، فاعتبر “ابن تيمية” أن “المعارف البديهية” التي لا تتطلب استدلالاً ولا تحتاج، التي ينبني عليها كل “معرفة مكتسبة” هي من دلائل وجود المطلق، المتجاوز، إذ تكتسب موضوعيتها منه، الله، سبحانه وتعالى.
أما إدغار موران، في “منهجه”، فقد رأى أن الاعتقاد السائد بأن حياة أسلافنا كانت عبارة عن أساطير ورموز، هو محض وهم أو تدليس؛ فالميثوس، الفكر الأسطوري، الذي يصبغ العالم بالسحر والرمزية والقداسة لم ينفصل – في رأيه – عن “اللوغوس”، الفكر المنطقي، العقلاني، التجريبي، وإنما كانا يعملان معًا جنبًا إلى جنب.
العلم في القرن الواحد والعشرين
أنتج واقعنا الجديد حقيقة جديدة مفادها أن كل ضروب المعرفة البشرية – تقريبًا – صارت متاحة للجميع، في أي مكان وزمان، وبالشكل الذي تختاره أنت شخصيًا، وبلا أي مقابل، وقد توقفت لوقت طويل عند شعار واحدة من أكبر وأهم منصات التعلم الإلكتروني العربية “إدراك”: العلم لمن يريد! واللافت أيضًا أن هذه المنصة التي توفر مساقات تعليمية احترافية مجانية في شتى المجالات – مع إمكانية استصدار شهادات حضور – هي فكرة وتمويل “الملكة رانيا”، حرم ملك الأردن، وهو أمر شديد التعبير عن حقيقة أن المعرفة لم تعد – كما كانت في السابق – حكرًا على طبقة اجتماعية معينة.
اللافت أيضًا أن واقعنا السائل أعطى فرصة حقيقية للتعبير عن حقيقة أن العلم جزء لا يتجزأ من بنية الحياة اليومية، الأمر الذي بدا واضحًا جدًا في انتشار “البوب ساينس”، العلم الشعبي! وهو محتوى علمي حقيقي يتم تقديمه في أبسط قالب ممكن، كنوع من المقاربة والترفيه وكسر الحاجز النفسي، وقد فوجئت شخصيًا عندما وجدت “أخي الصغير” يشاهد مادة مرئية عن “فلسفة الأخلاق” عند كانط عبر قناة “الدحيح” على يوتيوب، والغريب أيضًا أن معظم حلقات هذا البرنامج تصل مشاهداتها إلى نصف مليون مشاهدة كمتوسط! ولا تخلو من جدل حاد بين المتابعين عن موضوعات الدين والفلسفة والعلم، وهو أمر محمود بلا شك.