يبدو أن وضعية “الشغور في المناصب” باتت السمة الأبرز للشارع السياسي اللبناني، فكما كانت مع الكرسي الرئاسي الذي ظل شاغرًا قرابة عامين ونصف حتى شغله العماد ميشال عون قبل عامين، ها هي الحكومة المقترح تشكيلها تسير على نفس الدرب تقريبًا وإن تغيرت الظروف والملابسات.
5 أشهر تقريبًا مرت على تكليف سعد الحريري بتشكيل الحكومة الجديدة دون التوصل إلى صيغة ترضي الأطراف كافة، في ظل انقسام حاد في الرؤى والتوجهات بشأن ملامح الخريطة الهيكلية للتشكيل المقترح، وسط تبادل للاتهامات بين مختلف القوى السياسية بشأن هوية المسؤولين عن هذا التعثر.
المشهد السياسي الداخلي يعاني من زخم في الطروحات المقدمة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بشأن إخراج حكومة تتناسب وطبيعة المرحلة القادمة، غير أن حجم الهوة بين المتنازعين على “الكعكة” تجهض أي تحركات هنا وهناك، ما دفع البعض إلى البحث عن حلول جديدة بعضها ربما يكون صداميًا خاصة تلك المتعلقة بتسمية رئيس حكومة جديد أو اللجوء إلى حكومة الأمر الواقع كحل سريع للخروج من هذا المأزق.
الواقع يفند التصريحات
بون شاسع بين التصريحات الصادرة عن الرئاسة اللبنانية وتيار المستقبل بشأن قرب الانتهاء من تشكيل الحكومة والتوصل إلى اتفاقات شبه مرضية مع جميع القوى، والواقع الفعلي الممارس الذي وإن أكدها أحيانًا فإنه يفندها آحايين أخرى، وهو ما تعكسه ارتفاع معدلات “السخونة” في المواقف بين القوات اللبنانية بزعامة سمير جعجع والحزب الاشتراكي بقيادة جنبلاط من جهة، ورئيس الجمهورية ميشال عون وتياره “الوطني الحر” من جهة ثانية.
عون وخلال مقابلة تليفزيونية له مع “روسيا اليوم” على هامش مشاركته في اجتماعات الأمم المتحدة قبل أيام قال: “وصلنا إلى نهاية الجدل في موضوع تشكيل الحكومة، وآمل أن نبلغ الحل (بعد عودتي إلى لبنان)”، لافتًا في الوقت ذاته إلى “العودة لمجلس النواب” إن لم يتبلور هذا الحل، واستمر الفشل في تشكيل الحكومة.
سهام الاتهامات لم تترك أحدًا إلا وتعرضت له، محملة إياه مسؤولية الوصول إلى هذه الوضعية الحرجة التي تضع مستقبل لبنان وصورته الخارجية على المحك، خاصة في ظل الظروف والمستجدات الإقليمية والدولية التي تتطلب حكومة قوية قادرة على التعامل مع الملفات الحساسة في الداخل اللبناني.
التأرجح في تشكيل الحكومة الجديدة لم يكن وحده السبب في تأزم المشهد، إذ إن حالة الانعزالية وعدم الانسجام التي تعاني منها حكومة تصريف الأعمال التي دخلت شهرها الـ5 كانت أحد الأسباب التي زادت من تعقيد الوضع الداخلي
عضو كتلة “المستقبل” النائب محمد القرعاوي رفض الاتهامات الموجهة للحريري بعرقلة تشكيل الحكومة، مؤكدًا أنه لن يقبل بتكريس أعراف جديدة تتجاوز الدستور واتفاق الطائف، كما عاود العزف مجددًا على “التمسك بحكومة وفاق وطني والسعي إلى تشكيل حكومة متوازنة ومتجانسة وقادرة على مواكبة التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية”، مؤكدًا “لا لحكومة أكثرية ونعم لحكومة متوازنة، ولن يسمح لأي جهة بالحصول على الثلث المعطل في الحكومة، لأن هذا يعطل البلد”.
بينما ذهب النائب هادي حبيش عضو الكتلة ذاتها إلى أن الرئيس الحريري يريد مشاركة جميع الفرقاء السياسيين في الحكومة وإرضاء جميع اللبنانيين وسيقوم باتصالات مكثفة قريبًا لمحاولة الخروج بتشكيلة حكومية، فيما أشار سامي فتفت “حكومة الأكثرية والأقلية تسمح بتعزيز دور النائب الرقابي، ولكن في وضعنا يجب تشكيل حكومة وحدة وطنية”، ورأى أن الأنسب أن يكون لـ”القوات اللبناينة” 4 حقائب، وهي فرضت حضورها على الأرض”، موضحًا أن تشكيل الحكومة أمر داخلي، والسعودية لن تريد شيئًا ليس لمصلحة لبنان، كما أن من الصعب أن يعتذر الحريري عن التأليف.
حكومة تصريف الأعمال تعمق الأزمة الداخلية
مأزق الحريري
منذ تكليفه بتشكيل الحكومة في مايو/آيار الماضي وجد الحريري نفسه بين مطرقة القانون الانتخابي الجديد الذي أفرز واقعًا سنيًا لم يتعود عليه على غير هوى تيار المستقبل، وسندان الضغوط السعودية من جانب وحزب الله من جانب آخر.
وفي قراءة سريعة للخريطة البرلمانية التي تشكلت على خلفية ما أفرزته الانتخابات الأخيرة، يلاحظ صعود تكتل سني جديد من طراز مختلف يمتلك 10 أصوات ويطالب بوزيرين في الحكومة المفترض تشكيلها، وهو ما يعني مزاحمة تيار المستقبل على التمثيل السني، في الوقت الذي يضغط فيه حزب الله – الممول إيرانيًا – للدفع نحو تمثيل حلفائه السنة في الحكومة، استنادًا لما أفرزته نتائج الانتخابات.
وفي حال ترجمة نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة على التشكيل الحكومي المقترح، فإن القوات اللبنانية من المفترض أن تحصل على 3 حقائب وزارية استنادًا لحصولها على 15 نائبًا، في مقابل حقيبتين للكتلة السنية الجديدة التي حصلت على 10 نواب، وعليه فإن الحريري أمام أزمة كبيرة، إما الأخذ بواقع الانتخابات وتمثيل الحالة السنية التي أفرزتها الانتخابات، وهو ما يعني إغضاب الحليف السعودي، أو الصدام مع “حزب الله” وحلفائه ما يعني عرقلة تشكيل الحكومة والدخول في أزمة طويلة، وهو ما تسير إليه المؤشرات.
طرح ميشال عون فكرة تشكيل حكومة “الأكثرية” بدلاً من حكومة “وحدة وطنية”، وترجيح خيار حكومة الأمر الواقع التي ليست شرطًا أن تلبي طموحات الفرق المتناحرة
التأرجح في تشكيل الحكومة الجديدة لم يكن وحده السبب في تأزم المشهد، إذ إن حالة الانعزالية وعدم الانسجام التي تعاني منها حكومة تصريف الأعمال التي دخلت شهرها الـ5 كانت أحد الأسباب التي زادت من تعقيد الوضع الداخلي، إذ يتعامل كل مسؤول بشكل انفرادي بمعزل عن الحكومة والسياسة العامة لما بقي من الدولة.
لا بيان وزاري ولا خطوط عريضة من الممكن أن تجمع أعضاء حكومة التصريف الحاليّة، ومع وجود رئيس للجمهورية ومجلس نواب منتخب جماهيريًا، ورئيس حكومة تصريف أعمال من المفترض أن يشكل حكومة دائمة قريبًا، يزداد الوضع خطورة وانهيارًا على المستوى الداخلي، إذ يتحرك كل وزير ومسؤول وكيان مؤسسي وكأن لديه استقلالية تامة عن السلطة المركزية، وهو ما انعكس بصورة أو بأخرى على وقائع مجلس النواب الذي بات كل طرف فيه يطرح ملفات بعينها على أنها تخص فريقه هو دون النظر إلى المجموع.
حزب الله يطمح في تمثيل كبير في الحكومة الجديدة
بدائل على طاولة الحل
بعض السياسيين المقربين من المطبخ اللبناني يربطون بين تشكيل الحكومة الجديدة وعدد من الملفات الخارجية ذات الصلة بالشأن اللبناني، منها المحكمة الدولية والأزمة السورية والعقوبات المفروضة على إيران فضلًا عن مستوى التدخل السعودي ودوره في إضفاء المزيد من التعثر.
المأزق الحاليّ دفع الجميع، من أول الرئيس اللبناني إلى أقل مهتم بالشأن العام، إلى تقديم بدائل على مائدة الحل في محاولة للخروج من تلك الوضعية الحرجة، سياسيًا وجماهيريًا، حيث طرح ميشال عون فكرة تشكيل حكومة “الأكثرية” بدلاً من حكومة “وحدة وطنية”، وترجيح خيار حكومة الأمر الواقع التي ليست شرطًا أن تلبي طموحات الفرق المتناحرة، يقابلها معارضة قوية تكون قادرة على محاسبتها.
غير أن هذا الطرح لم يلق قبولًا من تيار المستقبل الذي عارضه وبشدة، بجانب قوى سياسية أخرى رأت أن عملية الإنقاذ تتطلب مشاركة الكيانات كافة، فيما استبعد آخرون احتمالية أن يكون التأليف الأكثري هو الحل في الوقت الراهن، فبخلاف أنه لم يتم التوافق عليه فهو كذلك غير ممكن في مثل هذه الظروف التي يمر بها البلد.
بعد 5 أشهر من التكليف لم تراوح أزمة تشكيل الحكومة اللبنانية مكانها، وسط تعميق الخلافات بين القوى والأطياف السياسية
خيار آخر طرحته أطراف مؤيدة لحزب الله، يشير إلى أن تكليف رئيس حكومة جديد بديلًا عن الحريري في حكومة أكثرية ربما يكون الحل في هذه الظرفية الحرجة، بضعهم ذهب إلى تسميته بالفعل وهو عبد الرحيم مراد، غير أن هذا الطرح قوبل هو الآخر باعتراض من الكثيرين.
الرافضون لهذا الخيار أشاروا إلى أن الحريري لن يتراجع عن تأليف الحكومة، كما أن مجلس النواب الحاليّ لا يمتلك صلاحية سحب الثقة عنه، هذا بخلاف الإجماع بين أغلبية القوى السياسية على استمراره على رأس الحكومة وإن تأخرت قليلًا، كونه الأنسب للمرحلة المقبلة حسبما ذهب البعض.
وبعد 5 أشهر من التكليف لم تراوح أزمة تشكيل الحكومة اللبنانية مكانها، وسط تعميق الخلافات بين القوى والأطياف السياسية، ورغم التصريحات الوردية الصادرة عن الطرف الرئاسي تارة وأعضاء المستقبل تارة أخرى، فإن الواقع أكثر تشاؤمًا مما يتوقع الكثيرون، ليبقى اللبنانيون في انتظار مفاجأة تطوي صفحة الشغور الحكومي كما حدث مع المنصب الرئاسي قبل عامين، وإن لم يسرع الحريري في خطوات تشكيل الحكومة فقد يضطر إلى قبول حكومة أمر واقع بتصريف من عون وهو ما قد يكون له تبعات غير جيدة على المستوى الداخلي.