لطالما شغل سؤال الذاكرة والطريقة التي تقوم بها أدمغتنا بحفظ التجارب اليومية بال علماء النفس المعرفيّ وعلماء الأعصاب، وواحدة من الموضوعات المتعلّقة بذلك هي الطريقة التي تلعب بها عواطفنا ومشاعرنا وحالاتنا المزاجية دورًا في تكوين ذكرياتنا واسترجاعها أو استعادتها في وقتٍ لاحقٍ بعد مرورها.
ولعلّ واحدة من أكثر النظريات المتعلّقة بالذاكرة متعةً هي تلك التي تتعلّق بتفسير الحالة العاطفية التي نعيشها والمرتبطة بحدثٍ معيّن وأثرها على قدرتنا على حفظ تفاصيل ذلك الحدث وتذكّره بعد فترةٍ من الزمن. وبكلماتٍ أخرى، يعتقد العلماء أنّ عواطفنا ومشاعرنا تلعبان دورًا كبيرًا في الطريقة التي نستحضر بها حدثًا ماضيًا من ذاكرتنا. كما يمكننا القول بناءً على هذه الفرضية أنّ المواقف العاطفية التي نختبرها في أحداث معينة قد تؤدي إلى خلق ذكرياتٍ تدوم لفترةٍ أطول من باقي تفاصيل الحدث نفسه.
الذكريات المتوهجة: هل تخدعنا ذكرياتنا؟
في عام 1977، نشر مجموعة من الباحثين في جامعة هارفارد الأمريكية بحثًا بعنوان ” Flashbulb Memories “، والتي يمكن ترجمتها للعربية بالذكريات المتوهّجة أو الذكريات الومضية، حيث أشاروا فيه إلى أنّ الناس غالبًا ما يكونون قادرين على إعادة تذكّر الأحداث المهمّة بالنسبة لهم بطريقةٍ أفضل حين يشعرون بأنّ الحدث ذو أهمية خاصة لهم أو في حال تسبّب الحدث ذاك بإثارة حالة عاطفية أو شعورية لديهم.
استخدم الباحثون في الدراسة اغتيال الرئيس الأمريكي “جون كينيدي” كمثال، على اعتبار أنه واحد من أهم الأحداث في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية في القرن العشرين. لكن ما هو غريبٌ أكثر بالموضوع، أنّ نمط الدراسة تكرّر ثانيةً بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، في حال نظرنا إليه أيضًا بكونه واحد من أهم الأحداث التاريخية التي مرّت على الذاكرة الأمريكية في القرن الواحد والعشرين.
حالة الشخص العاطفية في وقتٍ ما يمكن أن تؤثر على الطريقة التي يتمّ بها تشفير الحدث كذاكرة في الدماغ
فبعد حادثة البرجين، قامت مجموعة من علماء النفس في العديد من الجامعات الأمريكية بمشروعٍ حمل اسم “مشروع مانهاتن“، عكفوا فيه على استجواب أكثر من 3000 شخص ممّن تأثروا عاطفيًا بالحدث. أمّا جوهر المشروع فكان قائمًا على أسئلةٍ بسيطة من قبيل: أين كنتَ وقت وقوع الحدث؟ مَن كان معك؟ كيف كانت ردود أفعالك؟ وغيرها من الأسئلة المشابهة التي تعكس ما قامت ذكرياتهم بحفظه عن الحدث. ثمّ عاد العلماء بعد عامٍ كاملٍ وبعد ثلاثة أعوام بسؤالهم الأسئلة نفسها.
هل تعتقد أنّ إجابات الأسئلة تلك كانت متطابقة؟ لا. فقط 63% من التفاصيل التي رواها الخاضعون للدراسة كانت صحيحة. أمّا نسبة التطابق فكانت 57% فقط بعد ثلاثة أعوام. فكيف نفهم هذا في ضوء سؤالنا عن أثر العاطفة على ذكرياتنا؟
كِلا البحثان يدعمان فكرة أنّ حالة الشخص العاطفية في وقتٍ ما يمكن أن تؤثر على الطريقة التي يتمّ بها تشفير الحدث كذاكرة في الدماغ. وبكلماتٍ أكثر وضوحًا، فما يمكن تصنيفه تحت بند “الذكريات المتوهّجة” قد لا يكون حدث كما نذكره تمامًا، وإنما ثمّة احتمالٌ كبير بأنّ عقولنا تخدعنا وتمارس بعض الخدع علينا وعلى ذكرياتنا عن طريق استغلال عواطفنا.
لماذا تؤثر العواطف على ذكرياتنا؟
قد يكون هناك الكثير من الأدلة التي تدعم دور العواطف في تشكيل الذاكرة، لكن يبقى السؤال دومًا عن السبب وراء تشفيرنا للأحداث المرتبطة بعاطفةٍ ما بتلك الطريقة. ما هو الغرض من استدعائنا لحادثة، قد تكون مؤسفة وسلبيّة ونرغب في نسيانها، بطريقةٍ أفضل من المعلومات والحقائق التي نمرّ بها في حياتنا اليومية وقد نكون بحاجتها أكثر من تلك؟
تذكّر العواطف السلبية قد يردع عن الانخراط بمسبّباتها وتذكّر العواطف الإيجابية قد يشجّعنا على مواصلة سلوكياتها المريحة والحفاظ على أسبابها
في الحقيقة، يمكننا الاستناد إلى الغرض التطورّي الذي تخدمه تجاربنا العاطفية للإجابة عن سؤالنا هذا. وبالتالي يمكننا القول أنّ تذكّرنا لهذه التجارب يُعدّ سمةً موروثة ساعدت الإنسان الأوّل في البقاء والاستمرار. فمشاعر الخوف أو القلق أو التهديد أو الحزن التي كانت تنتابهم، كانت مهمةً جدًا بقدر ما كان تذكّرها كذلك. فتذكّر العواطف السلبية قد يردع عن الانخراط بمسبّباتها على سبيل المثال، وتذكّر العواطف الإيجابية قد يشجّعنا على مواصلة سلوكياتها المريحة والحفاظ على أسبابها، وهكذا.
الانتباه والعاطفة والذاكرة
إذن، فتشير الأبحاث إلى أنّ أدمغتنا أكثر قدرةً على التركيز على المغزى العاطفيّ من غيره. وقد تجلّى ذلك في دراسة عُرض فيها على المشاركين مجموعةً من الصور المحايدة وأخرى ترتبط باستجاباتٍ عاطفية مثل الشوق والسعادة والحزن والعائلة وما إلى ذلك. وقد تبيّن للباحثين أنّ اهتمام المشاركين وانتباههم لمكنونات الصور قد زاد عند عرض الصور العاطفية، ممّا يوحي بأنّ انتباهنا ينجذب بشكلٍ غريزيّ أو فطريّ إلى الموضوعات العاطفية.
في اللحظة التي نستجيب فيها لمحفّز عاطفيّ ما، فإنّنا لا نستطيع خلالها التركيز بشكلٍ كامل على المحفّزات الأخرى الموجودة في المكان.
تساعدنا هذه التجربة في فهم سبب تأثير العواطف على الذكريات، فنحنُ بالنهاية نتذكّر من خلال التركيز والانتباه. لكن مشكلة أساسية تتعلّق في هذه النقطة، والتي يمكننا فهمها من خلال ظاهرة ما يُعرف بمصطلح ” Attentional blink” أو “الومضة الانتباهية”، والتي تقتضي أنّنا في اللحظة التي نستجيب فيها لمحفّز عاطفيّ ما، فإنّنا لا نستطيع خلالها التركيز بشكلٍ كامل على المحفّزات الأخرى الموجودة في المكان.
الذكريات المثالية للطفولة، على سبيل المثال، قد ترجع لحقيقة أنّ عقولنا معتادة في تلك المرحلة العمرية على التركيز على الأحداث الإيجابية أكثر من تركيزها على الأحداث السلبية التي حدثت آنذاك.
نتيجة لذلك، قد نتذكر شيئًا بشكلٍ أضعف في حال كان تركيزنا منصبًّا على شيءٍ آخر. وهذا ما قد يفسّر لنا نتيجة التجربة المتعلّقة بأحداث الحادي عشر من سبتمبر وغيرها من التجارب الشبيهة. فنحنُ حين نركّز على حدثٍ ما نراه مهمًّا أكثر من غيره وننتبه له بطريقةٍ أقوى، فإنّنا نعجز بشكلٍ أو بآخر عن تذكّر الأحداث الأخرى التي حدثت بشكلٍ موازٍ له أو قبله أو بعده. ولذلك قد تمرُّ عليك أيّام لا تحفظ أيًّا من تفاصيلها في ذاكرتك. وفي المقابل، قد تمرّ عليك أخرى تصبح موصومةً فيما بعد بحدثٍ عاطفيّ واحد، كلقاء حبيبٍ أو صديق أو تجربة صادمة أو حزنٍ عابر، وهكذا. والذكريات المثالية للطفولة، على سبيل المثال، قد ترجع لحقيقة أنّ عقولنا معتادة في تلك المرحلة العمرية على التركيز على الأحداث الإيجابية أكثر من تركيزها على الأحداث السلبية التي حدثت آنذاك.
بالمحصّلة، نستطيع القول أنّ الأحداث العاطفية المهمّة يمكن تخزينها بطريقةٍ كاملة وحيوية تجسّد السياق والحدث وردود الفعل عليه. أمّا الفكرة القابعة وراء ذلك هي أنّ عقولنا مبرمجة على تخزين ذاكرة حية للحدث دون تحليله في الوقت الحالي نظرًا لأهمّيته. وفي حين إعادة فحصها وتحليلها في وقتٍ لاحق، يمكن للذكريات المرتبطة بها أنْ تصبح ضحيةً لبعض الألاعيب التي تمارسها علينا عقولنا، لا سيّما وأنها قد تندمج وتتلاحم مع ذكريات الآخرين التي كوّنوها عن نفس الحدث، فلا نعود نميّز بين ما هو أصيلٌ لنا وما هو نتاج لتأثيرات الآخرين والعوامل الأخرى المحيطة.