عانت مجمل الدول العربية (ولازالت) من نظم استبدادية مارست القمع ضد شعوبها وصادرت الحقوق ومنعت الحريات بصورة أدت إلى حصول انتفاضات شعبية انزاح بعضها إلى حالات تمرد واسعة وإلى حروب أهلية دموية أسفرت عن انتشار الفوضى والصراعات السياسية الحادة، فإذا أضفنا إليها تدخل القوى الأجنبية وتواطؤها مع أنظمة الحكم ندرك ما ألحقته الدكتاتوريات العربية من آثار مدمرة على مواطنيها من خلال أدوات القمع التي تعتمدها وأساليب تزييف الوعي التي تمارسها. فما طبيعة الاستبداد؟ وما هي مظاهره؟ وكيف تتم صناعة الطاغية وتسويقه؟
1ـ ماهية الاستبداد:
يمكن القول أن الاستبداد لا يحيل إلى حالة مخصوصة لحكومة معينة بل إلى نسق من الحكم السياسي يقوم في جوهره على الإكراه والتسلط المطلقين، ومن هذه الناحية فإن الحكم الاستبدادي أوسع دلالة من مجرد وصف حالات محددة من التجاوزات الفردية يقوم بها حاكم بعينه لأن كلمة استبداد تدل على جنس عام من أجناس الحكم السياسي إنها “مرض سلطة” بمصطلح الفيلسوف الفرنسي “بول ريكور”، فليس للطغيان صورة واحدة “فمتى استغلت السلطة لإرهاق الشعب وإفقاره تحولت إلى طغيان أيًا كانت صورته” كما يقول جون لوك.
ويجد الاستبداد في صورته العربية جذوره في نوع من التواطؤ بين عنف الواحد وجبن الجميع في صورة فاسدة فريدة، إنه نمط من الحكم المطلق الذي لا يخضع لعملية ضبط أخلاقي أو لرقابة دستورية ويتأسس في جوهره على عنف الحاكم، وتنبني شرعية هذا النمط من الحكم أساسًا على الخوف؛ ولذلك في حالة غياب هذا العنصر يتداعى مجمل البنيان السياسي، بمعنى أن النقيض المباشر للاستبداد ليس الديمقراطية وإنما هو الانخراط في الفوضى، فالديمقراطية هي هذا “الوسط العادل” ـ بالمنطوق الأرسطي ـ الذي ينشأ بين رذيلتين هما الاستبداد والفوضى، وباختصار فالديمقراطية هي “نتاج لاختيار عقلاني حر وواعي”، أما الفوضى فهي “إفساح المجال للغرائز لكي تطلق من عقالها وأن تنطلق في الفضاء العمومي”، حيث يستفيد الطاغية من حالة الفوضى من أجل فرض ذاته حلاً للمشكل السياسي القائم (خاصة بعد الانتفاضات العربية المتتالية) فالمسوغ العام الذي يبرر به الطغيان حضوره هو قدرته على النهوض كحكومة فعالة بعد أن يصبح جهاز الدولة عاجزًا عن مواجهة الأزمات التي تظهر بسبب ضغوط خارجية أو توترات داخلية ومن ثم يصبح أمل عوام الناس منعقدًا على ظهور حاكم قوي يعيد النظام والاستقرار إلى الدولة، ويذهب أندروز في كتابه “طغيان الإغريق” إلى القول “عندما كانت الحاجة تدعو إلى وجود طاغية فإنه عندما يحكم، كان يذهب في حكمه إلى أبعد من الأزمة التي جاء ليعالجها فالضرورة العامة شيء يتحد مع الطموح الشخصي ولا يمكن الفصل بينهما بوضوح، فضلاً عن أنه ليس من السهل على الحاكم المطلق أن يتقاعد”، ولنا في النموذج المصري خير مثال حيث جاء الانقلاب لحل أزمة تفاقمت أكثر بعد الإطاحة بالرئيس المنتخب ولينزاح منطق إنقاذ البلاد من الفوضى ومن خطر التقسيم والحرب الأهلية إلى رغبة جامحة في الوصول إلى السلطة تجسمت في تراجع قائد الانقلاب عن وعده بعدم البقاء في الحكم ليصبح مرشحًا للاستئثار بالرئاسة بصورة تدعو إلى السخرية.
2ـ تقنيات صناعة الطاغية:
يستفيد الطاغية من أجل تبرير هيمنته على السلطة من جملة من العوامل والأدوات المساعدة التي يمكن اختصارها على النحو التالي:
ـ التلاعب بمشاعر الجماهير وإثارة الحماس من خلال الخطب واللافتات والشعارات الكبرى (تسويق أوهام بناء الوطن = مصر قد الدنيا) وتحقيق الرخاء والتلاعب بأحلام البسطاء وتلعب النخبة في هذا المجال دورًا مهمًا باعتبارها من يتولى ترويج هذه الأحلام ومنحها مسحة واقعية وقابلية التحقق على يد الزعيم والقائد صاحب الألقاب الكثيرة.
ـ يستفيد الطاغية من الخطاب الديني لتبرير القمع الذي يمارسه أو للتخلص من خصومه السياسيين ولإضفاء مسحة من التدين على ذاته (لاحظ خطابات مفتي مصر الأسبق في تأييد الانقلاب أو ما وصل إليه البعض من القول بتشبيه قائد الانقلاب في مصر ووزير داخليته بالأنبياء) وهو ما يذكرنا بما قاله عن حق عبد الرحمن الكواكبي في طبائع الاستبداد “إنَّه ما من مستبدٍّ سياسيّ إلى الآن إلا ويتَّخذ له صفة قدسيّة يشارك بها الله، أو تعطيه مقامَ ذي علاقة مع الله، ولا أقلَّ من أنْ يتَّخذ بطانة من خَدَمَةِ الدِّين يعينونه على ظلم النَّاس باسم الله”.
ـ تسخير وسائل الإعلام وأدوات الاتصال الجماهيري للتأثير في جماهير الناس وتحقيق التطابق المنشود بين إرادة الشعب وإرادة الطاغية (طلب تفويض من الناس من خلال النزول إلى الشارع من أجل الفتك بخصوم سياسيين) وهكذا نصل الى مفارقة غريبة وهي أن حركة الشعوب التي كانت تستهدف الإطاحة بالطغيان تخلق هي نفسها طغيانًا جديدًا أشد وأنكى من ذاك الذي ثارت عليه يومًا.
ـ يتمسك الطاغية بالمظهر الديمقراطي لتسويغ سلطته وإعطاء نظام حكمه طابع الشرعية من خلال الدعوة إلى أشكال من الانتخاب أو الاستفتاء ذات النتائج المعلومة مسبقًا والتي تخلو من التنافس الحقيقي، حيث يرفض المستبد غالبًا أن يضع نفسه في موقع المنافسة السياسية العادلة (حملة السيسي الانتخابية نموذجًا).
ـ تحاول النخب المحيطة بالمستبد تبرير كل أنماط السلوك الغير اعتيادية التي تظهر عليه وتخرجه عن دائرة المساءلة بل وتجعل من أي سؤال عن برامج سياسية أو خضوعه للمحاسبة شكل من أشكال العبثية باعتبار تضحيته العظيمة من أجل الوطن (رسالة عبد الحليم قنديل إلى السيسي حيث يقول “فليست القصة في وجود برامج أو اقتراحات فنية، وهي موجودة وبكثرة، و(على قفا من يشيل)”، بل ويصل إلى حد التأكيد أن السيسي صاحب فضل على الناس لمجرد قبوله الحكم، حيث قبل المهمة بروح الجندية الوطنية الصافية، فليس في الأمر سباق إلى وظيفة، وقد تقلد الرجل أعلى الوظائف وحاز أعلى الرتب، وليس في الأمر سباق إلى مجد شخصي ولا إلى شعبية يبتغيها.
ـ يسعى المستبد إلى ترضية الخارج وتقديم التنازلات وعندما يأمن هذا الجانب يتجه إلى الداخل ليتخلص من المناوئين له وهو “لا يكف عن إشعال الحرب تلو الأخرى حتى يشعر الشعب بحاجته إلى قائد وكذلك حتى يضطر المواطنون الذين أفقرتهم الضرائب إلى الانشغال بكسب رزقهم اليومي بدلاً من أن يتآمروا عليه” (أفلاطون: الجمهورية ص491) (لاحظ حالة الانقسام الحاصلة في الشعب المصري بعد الانقلاب إلى حد الحديث عن شعبين “احنا شعب وأنتم شعب” ينبغي تصفية أحدهما لضمان بقاء الآخر).
ـ في تحليله لنفسية الطاغية يؤكد أفلاطون في كتابه الجمهورية أن المستبد “إذا كان هو في حاجة إلى خدمة يؤديها له شخص آخر فإنه يقف أمامه في مذلة وكأنه كلب خاضع متظاهرًا بالإخلاص حتى إذا قضى منه مأربه أدار له ظهره” وهكذا نرى الطغاة طوال حياتهم “لا يجدون لهم صديقًا وإنما هم إما سادة مستبدون وإما عبيد خاضعون”.
إن الطغيان بوصفه حالة مرضية تساهم جملة من العوامل في صناعتها تتواطأ فيها النخبة مع القوى المتنفذة في الداخل والخارج من أجل تدمير روح المواطنة وتحطيم كل طموح نحو التحرر والانعتاق، فالمستبد يرغب أن تكون رعيته كالغنم دورًا وطاعةً، وكالكلاب تذللاً وتملقًا، ومن هذا المنطلق يمكن التأكيد أن التحرر من الاستبداد يظل الخطوة الأولى والمركزية لكل مشروع نهضوي في البلاد العربية وشرط أساسي لكل عملية إصلاحية وهو ما تفطن له رواد النهضة العربية منذ نهايات القرن التاسع عشر حيث أعلن عبد الرحمن الكواكبي في كتابه طبائع الاستبداد “أن مقاومة الاستبداد هو شرط الرقي الإنساني وحفظ الكرامة البشرية سواء على مستوى الأفراد أو المجتمعات” فالطغيان أيًا كانت أشكاله أو طرقه يؤدي إلى ضياع ماهية الإنسان فمن يتنازل عن حريته يتنازل عن إنسانيته التي هي جوهر كل نظام سياسي ديمقراطي عادل وسليم.