يشكل الحفاظ على مصادر المياه أهمية كبرى لاستمرار الحياة في جميع بلدان العالم دون استثناء، ولكن على ما يبدو، أن الدول العربية لا تعتبره كذلك، ولا يشكل لها كما هو حال أغلب القضايا المصيرية، أي هاجس يجب أن يؤسس لاهتمام مشترك، رغم الأزمات التي ترتبط بالمياه في كل بقاع الأرض، بسبب اختلاف نسب توزيعه من دولة لأخرى، بل ومن منطقة لأخرى داخل الدولة الواحدة، لتباين الظروف المناخية إلى آخر العوامل التي تتحكم في توزيع المياه.
العالم يحذر.. والعرب في وادٍ آخر
كانت وفرة الماء قديمًا بالمنطقة، أحد المكونات الأساسية لقيام حضارات عظيمة ارتبطت بتاريخ الكثير من البلدان العربية وعلى رأسها الحضارة الفرعونية والسومرية وغيرهم، مضى العالم في طريقه وحدد مخاوفه وعمل بجد على الحد منها وفي مقدمتها ندرة المياه، في الوقت الذي تخلف فيه المجتمع العربي – كما هي عادته – عن مسايرة الضمير العالمي لتوفير حق الحياة المجاني لأبنائه.
بدأت الأمم المتحدة منذ تسعينيات القرن الماضي، ومن خلال لجنة الموارد المائية، تنظيم ما يسمى باليوم العالمي للمياه، كان هدفه تنمية الوعي والضمير الإنساني في جميع أرجاء المعمورة وإبصاره بضرورة الاهتمام بقضايا المياه ومناقشة تحدياتها المستمرة والمتزايدة كل عام والنظر في الحلول المبتكرة لمواجهتها.
تصاعدت رمزية القضية لدى بلدان العالم أجمع، وأصبح اليوم العالمي للمياه سنويًا، عبارة عن مباريات شديدة التنافسية في استعراض الدراسات والمخاوف والتحذيرات، إلا في بلدان الوطن العربي الذي تشكل هذه الأعياد الدولية لديه مجرد نموذج فج لـ”عبث الرفاهية” في العقل الأوروبي، فأغلب العرب لا يهتمون بعمل أعياء ميلاد لأبنائهم بالأساس، فكيف لهم الاهتمام باليوم العالمي للمياه.
كان العالم على موعد مع حقائق مفزعة عام 2015، بعدما قدم معهد الموارد الدولي بواشنطن حقائق جديدة مرعبة عن مستقبل المياه في العالم العربي، وأصدر تقريرًا نُشر في اليوم العالم للمياه وقتها، وبث معلومات جديدة عن الدول الـ33 الأكثر تضررًا في العالم، وتحدث عن تفاصيل مرعبة تتحدث عن نقص الموارد المائية بحلول عام 2040، وكانت المفاجأة الكبرى وقوع أغنى دول المنطقة (قطر والكويت والبحرين)، في المراكز الثلاث الأولى، بينما احتلت السعودية وعُمان ولبنان المراكز من التاسع حتى الحادي عشر.
التقرير الأمريكي الذي مر عليه نحو 3 سنوات، أكد أن الدول العربية ستدخل صراعات مريرة على المياه، بسبب التطورات الهائلة التي تجري على قدم وساق في المنطقة على جميع المستويات الصناعية والتكنولوجية والعمرانية والسكانية، وتزايد عدد السكان بشكل ضخم
كما احتل الأردن المركز الرابع عشر وليبيا المركز الخامس عشر واليمن في السادس عشر، بينما شغلت سوريا الترتيب الخامس والعشرين، وكذلك دول المغرب والجزائر وتونس الذين احتلوا المراكز من التاسع عشر حتى الثالث والثلاثين على الترتيب، ورغم خطورة التقرير الأمريكي عن المياه العربية، إلا أن الدول التي يجمعها مؤسسات إقليمية وقومية على رأسها جامعة الدول العربية، تعاني حتى الآن من سلبيات التعاون الهامشي وغير الجاد، مما خلف شح وندرة في البيانات والمعلومات الدقيقة التي تكفي لأداء المهام البحثية، فضلاً عن افتقاد بلدان العرب مجتمعة، لمؤسسات متخصصة على صعيد الدولة والمنطقة تستطيع تشخيص أزمات المياه بدقة ووضع حلول إستراتيجية لها.
التقرير الأمريكي الذي مر عليه نحو 3 سنوات، أكد أن الدول العربية ستدخل صراعات مريرة على المياه، بسبب التطورات الهائلة التي تجري على قدم وساق في المنطقة على جميع المستويات الصناعية والتكنولوجية والعمرانية والسكانية، وتزايد عدد السكان بشكل ضخم، مما أنتج في الوعي العالمي تخوفات من مستقبل الأمن المائي والغذائي الذي سيعود عليهم بالسلب دون شك.
جفاف الأراضي في مصر
وتربط الدول المتقدمة عادة، بين الأمن السياسي لبلدانها وتحقيق الأمن المائي والغذائي، من خلال إحياء تنمية متكاملة وزيادة رقعة المشاريع الزراعية على وجه الخصوص، التي تستهدف إيجاد موارد مائية بديلة، رغم سهولة المهمة نسبيًا في الغرب، بينما تؤجل بلدان الشرق الاهتمام بالقضية، رغم حاجتها إلى جهود خارقة لتفاديها، في ظل وقوع أغلب الأراضي العربية ضمن نطاق المناطق الجافة وشبه الجافة، بجانب تذبذب سقوط الأمطار.
وما يزيد الأزمة تعقيدًا وإثارةً للقلق العالمي، التفاوت الكبير بين مساحة العالم العربي الذي يشكل نحو 10.2% من مساحه العالم، و5% من عدد سكانه، وموارده المائية العذبة التي لا تمثل أكثر من 0.5% من المياه العالمية المتجددة، مما يعني أن المعدل السنوي لنصيب العربي من المياه العذبة، نحو 1000م3 سنويًا مقابل 7700م3 لنصيب الفرد في باقي بلدان العالم.
على المستوى العربي، تتعقد القضية في الشرق عنه في الغرب؛ فمعظم المياه المتوفرة بالأنهار الرئيسية الثلاث، عبر دجلة والفرات والنيل، تقع منابعها خارج حدود الدول العربية
وتشير الإحصاءات العالمية إلى أن أزمات الغذاء والفقر في العديد من الدول العربية، ستزيد حتمًا من تفاقم الأزمة؛ فكلما مر الزمن ودارت عجلة التطور والتنمية وتضاعفت أعداد السكان، ستتضرر الموارد المائية الشحيحة بالأساس في العالم العربي، بما يجعلها عاجزة عن تلبية احتياجات المواطنين.
العرب وتفاوت المخاطر من بلد لآخر
على المستوى العربي، تتعقد القضية في الشرق عنه في الغرب؛ فمعظم المياه المتوفرة بالأنهار الرئيسية الثلاث، عبر دجلة والفرات والنيل، تقع منابعها خارج حدود الدول العربية، ولا تستطيع هذه الدول التحكم بمنابع دجلة والفرات الموجودة بتركيا، وإن كانت هنا الأزمة أقل بكثير، فتركيا بلد مسلم في نهاية المطاف وترتبط تاريخيًا بالهموم العربية.
أما الكارثة الأكبر فتتمثل في نهر النيل الذي ترتكز منابعه في إثيوبيا وغيرها من الدول الإفريقية الذين يسعون مؤخرًا للتحكم في بوصلة المشاريع القومية التي تنحصر بالنسبهم لهم في إقامة السدود الضخمة لتوليد الكهرباء والطاقة وتوريدها، بما يجعل الأمن المائي العربي في هذه البلدان وعلى رأسهم مصر، غير كامل الأهلية، ومعرض للاختراق في أي لحظة.
الجفاف يضرب العراق المعروف بأنه بلاد الرافدين!
كما تأتي الأزمات الأمنية التي تعيشها بعض البلدان العربية، لتزيد من بؤر التوتر بالعالم، خاصة بعدما استفادت منها “إسرائيل” جيدًا، وزرعت مخالبها أكثر في المنطقة، وأصبحت ضمن أبرز أسباب تأجيج المشاكل والأزمات، لا سيما أن الكيان الصهيوني صاحب أيديولوجية زراعية، وتغلب بشكل واضح على ترسيمات اقتصاده، لذا كان دائمًا يضع ماء جيرانه على رأس ملف الصراع الوجودي مع العرب، بما جعل الأنهار الداخلية العربية مثل العاصي والليطاني ونهر الأردن، الذين ترتكز منابعهم في سوريا ولبنان، تحت رادار الابتزاز والسرقة باستخدام سياسة القوة وفرض الأمر الواقع، كما هو معروف عن الأيدلوجية الصهيونية.
لم تعد القوة العسكرية في الزمن الذي نعيشه باستطاعتها حسم أي شيء دون امتلاك الأدوات المادية لذلك؛ فالصراع الأساسي حاليًّا تحسمه العطايا الاقتصادية دون غيرها
الأمر الذي جعل البلدان الموجودة على خط تماس مع “إسرائيل” في ملف المياه، مضطرة إلى مهادنتها؛ لتحقق الحد الأدنى المطلوب لحماية أمنها المائي، خاصة أن “إسرائيل” لم تعد تتحكم فقط في المنابع الداخلية، بل استطاعت بعلاقاتها الدولية وعطاياها للدول الفقيرة، التحكم أيضًا بالمنابع الخارجية، ولم يحدها في ذلك قوة الكثير من الجيوش العربية، وتفوقها في التصنيف العالمي، بما يشكل ردع دون شك للكيان الصهيوني، أو أي دولة أخرى تفكر في الاستحواذ والتلاعب بمنابع الأنهار، إلا أن هناك معضلة كبرى، وكارت أكثر قوة من التفوق العسكري يمنح “إسرائيل” التفوق الساحق وهو “المال” الذي يتحكم في تغيير موازين القوى حاليًّا، ويغير بوصلة القرار السياسي بين لحظة وأخرى.
لم تعد القوة العسكرية في الزمن الذي نعيشه، باستطاعتها حسم أي شيء دون امتلاك الأدوات المادية لذلك؛ فالصراع الأساسي حاليًّا تحسمه العطايا الاقتصادية دون غيرها، وقوة عسكرية دون مال يحميها، لا أهمية لها، إلا في صد عدوان هجومي خارجي، وهو فكر لم يعد له وجود، إلا في أيدلوجيات العصابات الإرهابية، ودول المليشيات التي تعيش على أطراف الحضارة، وما زالت متأثرة بعقلية القرون الوسطى، بما يعني أن الحفاظ على الحق المائي العربي، يحتاج إلى تضافر الجهود العربية والتخلي عن النزعات الاستعلائية في تعامل الدول مع بعضهم البعض، لإيجاد إستراتيجية عربية موحدة، تواجه هذه المخاطر التي تتعاظم يومًا بعد الآخر، وإلا فالنهاية أقرب مما يتوقعها أحد.