لم يرد الاحتلال الإسرائيلي اختبار حالة الفزعة من جديد، أو بمعنى أكثر دقة أن سنوات أوسلو التي أعقبت إنشاء أجهزة أمنية في الضفة الغربية وقطاع غزة سبق لها أن حققت الهدوء المطلوب وفق ما اتفق عليه في أوسلو، وقد خضعت للمرة الأولى لاختبار اللحظة التي دخل فيها أرئيل شارون إلى باحات المسجد الأقصى في الـ28 من سبتمبر عام 2000.
كان الرئيس الشهيد ياسر عرفات عائدًا من كامب ديفيد خالي الوفاض تمامًا، رافضًا التنازل عن القدس واللاجئين والعودة، ما جعله يعلن حالة “الفزعة” التي طحنت الجنود الإسرائيليين في المخيمات الفلسطينية بالضفة الغربية وقطاع غزة، ولم يبق أحد من مختلف الخلفيات والإيديولوجيات الفلسطينية لم ينخرط في الانتفاضة، بعد سبع سنوات من الهدوء الحذر “مرحلة أوسلو”، تفجر كل شيء.
كان سلاح الأجهزة الأمنية الفلسطينية التي عوّلت عليه “إسرائيل” لحماية أمنها المخزن الأول للمقاتلين الفلسطينيين
عدة قضايا أعادتها انتفاضة الأقصى، إذ لم يكن الاحتلال الإسرائيلي يراهن على عودتهم مبكرًا بهذه القوة، وقد مثلت الحدث الجامع للفلسطينيين جميعًا في الداخل والخارج، والحدث الجامع للعرب في كل العواصم العربية من خلال الأحداث التالية:
أولا: دخول شارون للمسجد الأقصى 28 من سبتمبر 2000
أظهر اقتحام شارون لباحات المسجد الأقصى غضب الجماهير الفلسطينية في الداخل والجماهير العربية في الخارج، وتفاعلت الجماهير العربية مع المشهد بشكل غير متوقع لا أمريكيًا ولا إسرائيليًا، وبدأت العواصم العربية تردد اسم فلسطين بعد سنوات التأسيس لحالة فلسطينية مستقرة سعت إليها أمريكا، ونزع فلسطين من وعائها العربي وفشلت تمامًا في تغييب القضية الفلسطينية.
ثانيًا: لحن الجماهير الجامع أغنية “وين الملايين”
تسارع الأحداث بشكل غير متوقع أدى لالتفاف جماهيري عربي، أظهر أول أيقونة غنائية عربية للانتفاضة من كلمات الشاعر الليبي علي الكيلاني وغناء جوليا بطرس في “الكوبليه” الأول وكانت الأغنية التي سرت على لسان جموع عربية غفيرة في العواصم العربية بعنوان “وين الملايين”.
ثالثًا: محمد الدرة أيقونة الانتفاضة الفلسطينية الثانية
مثل مشهد اغتيال محمد الدرة في 30 من سبتمبر 2000 أمام كاميرات التلفزة العالمية الغضب الجامع للقضية الفلسطينية، وواكب مطالب العرب من المقاتلين الفلسطينيين للانتقام الفوري وهو ما دحرج الكرة بضرورة الانتقام.
رابعًا: الأجهزة الأمنية الفلسطينية “مقاتلو الفزعة الشرسون”
جاءت الأوامر سريعًا بتشكيل كتائب شهداء الأقصى من الرئيس الراحل ياسر عرفات زعيم الثورة، رجل الحدس السياسي، وفي جرة قلم تحول رجال الأمن الفلسطينيين الذين تم تدريبهم على مدار سبع سنوات من أوسلو لتحقيق الأمن والاستقرار في “إسرائيل” ومنع أي عمليات فلسطينية مسلحة، إلى مقاتلي فزعة لا يمكن لأي قوة إيقافهم، وقد شكل الحدث الأبرز في 12 من أكتوبر 2000 حينما ضلّ جنديان إسرائيليان طريقهما بالخطأ في رام الله، وتم قتلهما في مركز شرطة فلسطيني على يد رجال الشرطة الفلسطينيين الغضبة الإسرائيلية الأكبر، لقد ذهب مشروع الاستقرار لـ”إسرائيل” أدراج الرياح.
كان سلاح الأجهزة الأمنية الفلسطينية التي عوّلت عليه “إسرائيل” لحماية أمنها المخزن الأول للمقاتلين الفلسطينيين، وبدأت الأيقونات بالظهور، رائد الكرمي قائد شهداء الأقصى في الضفة وحسين عبيات في مخيمات بيت لحم، إضافة لدخول مجموعات عمر المختار التي تشكلت من الأجهزة الأمنية الفلسطينية في قطاع غزة بشكل سريع للمسار العسكري المقاوم، فقد بدأت عملياتها بتفجير عبوات ناسفة كبيرة أعدها مقاتلون قدماء في الأجهزة الأمنية بقطاع غزة، وهي أول من أطلقت قذائف الهاون بقاذف محلي الصنع.
التحول السريع للعمل المقاوم كان الفرصة الأكبر للفلسطينيين لانتزاع استحقاقات على أرض الواقع، لكن الدعم العربي لم يكن واضحًا
إن أكثر ما أثار سخط وارتباك الاحتلال الإسرائيلي تَحَوُّل رجال الأمن الفلسطينيين المندرجين تحت غلاف السلطة، الذين خضعوا لإعادة بناء وفق ما جاءت به أوسلو إلى مقاتلي شوارع أشدّاء لا يمكن السيطرة عليهم، ولا يمكن ملاحقتهم والقضاء عليهم بسرعة نتيجة الانتشار الواسع للعمل المقاوم في الضفة الغربية، ما جعل الاحتلال يدخل في عملية السور الواقي في 29 من مارس 2002 وهي إحدى أكبر العمليات للجيش الإسرائيلي في فلسطين، للقضاء على المقاومة الفلسطينية والانتفاضة الثانية، وقد تطلبت الدخول للمخيمات وأزقتها وشوارعها واعتقال عشرات الآلاف من المقاتلين والمواطنين.
رابعًا: الفلسطينيون المقاتلون
سراب السلطة ذهب في أيام معدودة وتحولت المخيمات إلى براميل من الوقود، ووقع ما يخشاه الاحتلال الإسرائيلي “فزعة المقاتل” وكان مخيم جنين الشاهد الأبرز على فزعة أهالي المخيم ومقاتليه ووقوفهم بكل شراسة في وجه الدبابات الإسرائيلية، وكان كمين “13” المشهور الذي قتل فيه 13 جنديًا داخل مخيم جنين أهم العمليات المباشرة بين الجنود الإسرائيليين والمقاتلين الفلسطينيين.
التحول السريع للعمل المقاوم كان الفرصة الأكبر للفلسطينيين لانتزاع استحقاقات على أرض الواقع، لكن الدعم العربي لم يكن واضحًا فقد كان إغاثيًا أكثر من أي شيء آخر، كما أن القمة العربية الهزيلة التي عقدت في بيروت في 28 من مارس 2002 كانت القطيعة العربية لدعم أكبر انتفاضة فلسطينية جامعة لكل الأحزاب الفلسطينية، وكان من الممكن أن تحقق إنجازات كبيرة، لكن الرئيس أبو عمار مُنع أمريكيًا وإسرائيليًا من الذهاب لبيروت وأرسل كلمة مسجلة من مكان حصاره في رام الله للمجتمعين هناك.
تخوفات في وقتها
حينما أعطى الشهيد الراحل ياسر عرفات الضوء الأخضر للفصائل الفلسطينية وخاصة حركة حماس للدخول في الانتفاضة، وإطلاق سراح كوادرها المقاتلة المعتقلة لدى الأجهزة الأمنية، وذلك في اجتماع داخل مقر أنصاره في قطاع غزة حضره القيادي حسن شمعة عن حماس، كانت الأخيرة تتخوف أن يتم استغلالها لفرض حالة جديدة من التسوية بعد فشل كامب ديفيد، وهذا ما جعلها تتخوف من دخول الانتفاضة مبكرًا، لكن الفرصة أكبر من التخوف، وكان دخولها في الانتفاضة مع الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية عنيفًا وثوريًا وفوضويًا خصوصًا في الضفة الغربية التي تأخرت فيها حماس عن غزة نتيجة تخوف إمبراطورية المال الخاصة بالحركة في الخليل من الخسارة بعد اندماجها في الانتفاضة.
لكن مطلب الجماهير كان فوق أي قرار، ومثل دخول حماس في الانتفاضة الثانية نقلة نوعية في العمل العسكري داخل فلسطين المحتلة، فحماس والفصائل الفلسطينية المقاتلة التي شنت سلسلة عمليات داخل فلسطين المحتلة حققت توازنًا خطيرًا لم يشهده تاريخ الأرض المحتلة، إذ كان مقابل كل 3 شهداء فلسطينيين قتيل إسرائيلي، وكانت العمليات في مجملها توقع من 15إلى 20 قتيلاً في الانفجار الواحد، أهمها عملية عز الدين المصري وعبد الباسط عودة وغيرها من العمليات.
نجحت انتفاضة الأقصى الثانية في توحيد الفلسطينيين جميعًا تحت نداء الأقصى، وإعادة الوعي الجمعي العربي للقضية الفلسطينية، وإعادة المقاتل الفلسطيني لثكناته العسكرية الصحيحة، لكنها لم تكتمل
زالت هذه التخوفات سريعًا، وبدأ الاحتلال الإسرائيلي يتعامل تدريجيًا من إزاحة ثقل غزة عن كاهله بعد انسحابه عام 2005 والتفرغ للقضاء على كل حالات المقاومة في الضفة الغربية، وقد كان خطأ الاندماج العسكري السريع دون تخطيط إستراتيجي من الفصائل الفلسطينية في انتفاضة الأقصى كاشفًا لكل الهيكليات التي بنتها الفصائل الفلسطينية هناك، وبعد دخول العملية السياسية بات الهرم التنظيمي للفصائل هناك مكشوفًا خصوصًا حركتي حماس والجهاد الإسلامي ما سهل القضاء على كل بذور المقاومة الفلسطينية هناك حتى وصلت حماس لقناعة ارتفاع تكلفة العمل العسكري في الضفة والعدول عنه.
هل نجحت انتفاضة الأقصى؟ السؤال الأهم في التوقيت الخطأ
كل المبادرات السياسية التي قدمت في وقتها فشلت في إيقاف الانتفاضة الفلسطينية، وعمل الاحتلال الإسرائيلي على إنهاء حالة الأيقونات الزعائمية للعمل المقاوم لجميع الفصائل ابتداءً بالرئيس ياسر عرفات وجورج حبش وقيادات حماس العسكرية والتاريخية أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي وإبراهيم المقادمة من الجيل الأول، لتبدأ عملية الاندماج السياسي نحو إقناع الأطراف خصوصًا في الضفة للتعامل بعقلانية أكثر مع المستجدات، لكن غزة بقيت وحيدة ومنفصلة ما بعد الانتفاضة الفلسطينية.
نجحت انتفاضة الأقصى الثانية في توحيد الفلسطينيين جميعًا تحت نداء الأقصى، وإعادة الوعي الجمعي العربي للقضية الفلسطينية، وإعادة المقاتل الفلسطيني لثكناته العسكرية الصحيحة، لكنها لم تكتمل.