أمام وسائل الإعلام بابتسامة عريضة ولهفة اشتياق مشهودة وحفاوة ملموسة، التقى وزير الخارجية البحريني خالد بن محمد آل خليفة نظيره السوري وليد المعلم، على هامش الاجتماع الدوري السنوي العام للجمعية العامة التابعة للأمم المتحدة، متبادلين التحيات التي عكست إرهاصات تقارب قريب بين سوريا والبحرين، بل ومعظم دول الخليج.
ولا ريب في أن اللقاء أثار تساؤلًا بشأن مستقبل العلاقة بين الطرفين، وقد زاد الفضول بخصوص لقاء الطرفين في ظل اتجاه الملف السوري نحو عملية تسوية شاملة، وفي ظل وضع دولة البحرين كدولة لا تُظهر تحركات مستقلة عن توجه دول الخليج الأخرى، لا سيما توجه دولتي الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، فهل نشهد في قادم الأيام إعادة تطبيع لعلاقات هذه الدول مع النظام السوري؟
يمكن الإجابة عن التساؤل المطروح أعلاه، من خلال فك شيفرات اللقاء على النحو التالي:
الشيفرة الأولى: إنقاذ ما يمكن إنقاذه
في الغالب كانت المحاولة الأخيرة لمحور الخليج السعودي ـ الإماراتي ـ البحريني، لتحقيق نفوذ ملموس يوازن أو يقضم النفوذ الإيراني بالقرب من الممر البري لإيران؛ ذلك الخط الذي ترمي إلى تأسيسه من أجل نقل غازها الطبيعي إلى دول الاتحاد الأوروبي مستقبلًا، وفي سبيل تحقيق ارتباط جغرافي عضوي بين العراق وسوريا ولبنان من خلال التقارب مع عشائر المنطقة الشرقية لسوريا، لا سيما عشيرات العكَيدات، لكن يبدو أن المعادلة الدولية التي حُبكت بين الولايات المتحدة وروسيا مالت لصالح خدمة الأهداف الإيرانية، حيث سيطرت الميليشيات التابعة للولايات المتحدة على مساحات واسعة في الريف الشرقي لدير الزور، مقابل سيطرة الميليشيات التابعة لروسيا وإيران على البوكمال ومحيطها.
تحاول الإدارة الأمريكية الحاليّة تأسيس قواعد تحرك تشاركي تتقاسم فيها الدول التكلفة المادية والبشرية، وتحمل توجهًا نحو الإبقاء على النظام السوري بصورة عسكتها من خلال قطع الدعم عن غرفتي “الموك” والموم”
وفي ضوء انتهاء دور المعارضة السورية التابعة لدول الخليج، لا سيما تلك التابعة للمملكة العربية السعودية، وفي ظل التوغل الإيراني الصارخ في سوريا، لاحظت دول الخليج على ما يبدو ضرورة إعادة التواصل مع النظام السوري، ليتم إنقاذ ما يمكن إنقاذه من مسار تقارب النظام من إيران وحزب الله، ولعل في تصريح الوزير البحريني بعد اللقاء، بأن البحرين تدعم تمكين سيطرة وسيادة الدولة، دلالة واضحة على رغبة دول الخليج تحويل هذه الشيفرة لواقع.
الشيفرة الثانية: تحقيق توازن قوى معتدل في المنطقة
في ظل التوجه الخليجي المذكور فيما يتعلق بتغيير مسار السياسة حيال الأزمة السورية، يبدو أن اللقاء يحمل شيفرة تخاطب ود روسيا على نحو يشير إلى أن دول الخليج على استعداد تام للمساهمة بشكل كبير في إعادة إعمار سوريا، بشرط واحد يقوم على تحجيم أو القضاء على النفوذ الإيراني الصارخ.
فعلى الأرجح تحاول الدول الخليجية توظيف مسعى روسيا لتسريع إعادة تعويم النظام السوري اقتصاديًا وسياسيًا، في خدمة طموحها، أي أنها تحاول تقديم ورقة الدعم مقابل ورقة التحرك الروسي نحو تخفيف حجم الوجود الإيراني، ويبدو أن إظهار روسيا تجاوب مع المطلب الأمريكي الذي نقله ترامب لبوتين على هامش قمة هلسنكي، بشأن تحجيم النفوذ الإيراني، حفز دول الخليج نحو محاولة جذب روسيا نسبيًا نحو طموحها عبر أوراق ضغط تملكها، وقد حاولت البحرين على وجه التحديد التقارب من روسيا حينما أهدى ملكها في مارس/آذار 2016، سيفًا دمشقيًا لبوتين، متمنيًا له “الانتصار” في سوريا.
يُذكر أن روسيا تحاول تسريع عملية تعويم النظام اقتصاديًا وسياسيًا من خلال فتح طرق التجارة الدولية المارة بسوريا؛ لا سيما خط غازي عنتاب ـ الرمثا، ومن خلال فتح الباب أمام الحديث عن ملف إعادة الإعمار في سبيل تخفيف تكاليف تدخلها المباشر قدر الإمكان.
الشيفرة الثالثة: محاكاة التوجه الأمريكي
تحاول الإدارة الأمريكية الحاليّة تأسيس قواعد تحرك تشاركي تتقاسم فيها الدول التكلفة المادية والبشرية، وتحمل توجهًا نحو الإبقاء على النظام السوري بصورة عسكتها من خلال قطع الدعم عن غرفتي “الموك” والموم”، وهذا ما تعكسه تصريحات ترامب المطالبة دومًا دول الخليج بتحمل المسؤولية في مواجهة إيران في المنطقة، وربما يأتي توجه دول الخليج في إيقاف الدعم عن المعارضة السورية وفتح قنوات تواصل مع النظام في إطار محاكاة التوجه الأمريكي صوب الحفاظ على مركز “لامركزي” في سوريا، مع انتشار أمني على الأطراف يستمد شرعيته من الإدارات المحلية.
تمر سوريا بمنعطف محوري يرسم خريطة تقاسم النفوذ في جغرافيتها ومحيطها، وهذا ما يدفع الدول ذات العلاقة لإعادة ترتيب أوراقها بما يتناسب مع ضروريات المرحلة
كما يبدو أن دول الخليج تتماشى مع المقترح الأمريكي لإنشاء تحالف أمني عربي “ناتو عربي” يتألف من دول الخليج إضافة لمصر والأردن، يحظى بقبول من صاحب السيادة في سوريا، حال قرر الانتشار على الحدود العراقية ـ السورية، تحديدًا بالقرب من قاعدتي “تنف” و”الزكف”.
الشيفرة الرابعة: منح النظام فرصة لتنويع بيض السلة
إلى جانب الرغبة الروسية في مواكبة التحرك الأمريكي في تطويق النفوذ الإيراني، في سبيل الحفاظ على مركزيتها السياسية في سوريا، يُلامس التوجه العلماني واليساري “غير المذهبي” للبيروقراطية السورية، مع وجود توجه للطائفة العلوية للإبقاء على سطوتها على الدولة بعيدًا عن منافس مذهبي، فإيران شيعية وليست علوية، وهو ما يولد حالة تنافس مصلحي احتكاري بين الطرفين.
وتُشير هذه العوامل إلى احتمال وجود رغبة حقيقية لدى النظام السوري لتنويع بيض سلة التحرك الدبلوماسي، في سبيل تحقيق ميزان قوى سياسي وعسكري وأمني واقتصادي يحفظ له حالة الهيمنة، ولو نسبيًا، كما كان الحال عليه قبل عام 2011.
في المحصلة تمر سوريا بمنعطف محوري يرسم خريطة تقاسم النفوذ في جغرافيتها ومحيطها، وهذا ما يدفع الدول ذات العلاقة لإعادة ترتيب أوراقها بما يتناسب مع ضروريات المرحلة، وما يُفسر سبب ميل البحرين، المُمثلة لدول الخليج، نحو فتح قناة تواصل مع النظام السوري، ولا يمكن إغفال حجم التنافس المحتدم بين النظام السوري ودول الخليج منذ زمن بعيد، لكن ذلك لا يعني انعدام وجود منافع متبادلة قد تؤدي لتصالح الطرفين وفتح صفحة جديدة.