نعى “حزب الله” اللبناني في بيان، السبت 28 سبتمبر/أيلول 2024، زعيمه حسن نصر الله، الذي اغتالته غارات إسرائيلية عنيفة، مساء الجمعة، استهدفت اجتماعًا في المقر المركزي للحزب في حارة حويك بالضاحية الجنوبية ببيروت.
وقال حزب الله في بيانه: “التحق سماحة السيد حسن نصرالله الأمين العام لحزب الله برفاقه الشهداء العظام الخالدين الذين قاد مسيرتهم نحوًا من ثلاثين عامًا”، مشددًا على أن “قيادة حزب الله تعاهد الشهيد الأسمى والأقدس والأغلى في مسيرتنا المليئة بالتضحيات والشهداء أن تواصل جهادها في مواجهة العدو وإسنادًا لغزة وفلسطين ودفاعًا عن لبنان وشعبه الصامد والشريف”.
وكان جيش الاحتلال الإسرائيلي قد أعلن في وقت سابق من صباح السبت، اغتيال نصر الله، خلال الغارات التي تعد الأعنف منذ بدء التصعيد الأخير على الجبهة الشمالية، وأسفرت عن سقوط العديد من قيادات الصف الأول للحزب.
ويعد استهداف زعيم حزب الله قرارًا خطيرًا للغاية، حسبما نقلت شبكة “سي إن إن” الأمريكية عن مسؤول إسرائيلي، فيما نقلت صحيفة “نيويورك تايمز” عن مصادرها الخاصة أن استهداف نصر الله جاء بعد معلومات بعقد اجتماع قيادي في منشأة تحت الأرض، وأن مسؤولين كبارًا من الحزب والحرس الثوري الإيراني كانوا في الموقع المستهدف.
ولا شك، أن سقوط قيادة بهذا الحجم تمثل تحولًا جذريًا في مسار المواجهة بين “إسرائيل” و”حزب الله” الذي تلقى خلال الآونة الأخيرة حزمة من الضربات المؤثرة التي لم يتلقاها منذ نشأته، وذلك عبر اغتيال معظم قادة الصف الأول في غضون أيام قليلة.
ولم يكن نصر الله مجرد زعيم لحزب أو قائد لكيان مسلح، إذ يعده أنصاره رمزًا سياسيًا وعسكريًا من طراز فريد، يستمدون منه القوة والإلهام، وينطلقون من خطاباته الحماسية لتحقيق أهداف الحزب، كما يعتبره الإيرانيون ابنهم البار، وتلميذهم النجيب، وذراعهم الطولى في المنطقة، ومن هنا فسقوطه يمثل خسارة فادحة وصدمة مدوية سيكون لها ما بعدها.
ابن الحوزات
يُعرف نصر الله، المولود في 31 أغسطس/آب 1960 في بلدة البازورية القريبة من مدينة صور في جنوب لبنان، بأنه “ابن الحوزات”، فبعد تلقيه التعليم الابتدائي في مدرسة “الكفاح” الخاصة في حي الكرنتينا بالضاحية الشرقية لبيروت، ثم المتوسطة في مدرسة “الثانوية التربوية” في منطقة سن الفيل، التحق بالحوزة العلمية في مدينة النجف بالعراق عام 1976، وهو لم يتجاوز بعد السادسة عشر عامًا.
رغم حداثة سنه لكنه كان مخلصًا في تعليمه الديني بشكل أهله للتعرف على بعض الشخصيات المحورية في ذلك الوقت، من بينها عباس الموسوي، الذي أشرف على تعليمه وتربيته في ذلك الوقت، قبل أن يصبح الأمين العام لحزب الله ومعلم نصر الله الأمين.
لم يكمل الشاب صغير السن في حوزة النجف أكثر من عامين، ليضطر بعدها إلى العودة للبنان عام 1978 جراء المضايقات التي تعرضت لها الحوزات الدينية في العراق، والتي ما كان له أن يستمر معها هناك، ليلتحق بحوزة الإمام المنتظر في بعلبك، تلك التي أسسها أستاذه ومعلمه، الموسوي، والتي تتبنى نفس المناهج الدراسية التي كان يدرسها في النجف.
وبعد إنهاء دراسته في حوزة بعلبك، وانخراطه في العمل السياسي الديني من خلال الانضمام إلى حركة أمل الشيعية في لبنان، أراد نصر الله أن يكمل تعليمه الحوزي من منبعه، فسافر في نهاية الثمانينيات إلى مدينة قم، أحد أكبر مراكز تعليم الدين الشيعي في العالم، حيث مكث هناك عامًا كاملًا، كان بمثابة إعداد نفسي وفكري وعقدي لمهمة يتم تجهيزه لأجلها.
صعود بخطوات متسارعة
بعد انضمامه لحركة أمل خلال المرحلة الثانوية لم يستغرق الشاب الطموح كثيرًا حتى يفرض نفسه على الجميع، فكانت حماسته وشخصيته الثورية وولاؤه للحوزات وقوده نحو الصعود بسرعة كبيرة، حيث أبدى نشاطًا حماسيًا كبيرًا داخل الحركة بعد العودة من العراق، ليتم تعيينه عام 1979 مسؤولًا سياسيًا لمنطقة البقاع وعضوًا في المكتب السياسي.
ومع اجتياح “إسرائيل” للبنان في يونيو/حزيران 1982 نشبت خلافات قوية بين نصر الله والقيادات السياسية في الحركة حول سبل مواجهة الاحتلال، وهو ما دفعه للانسحاب والانضمام إلى ذلك الكيان الذي شكله الحرس الثوري الإيراني في العام ذاته لمحاربة قوات الاحتلال الإسرائيلي.
تولى القيادي الشاب مسؤولية منطقة البقاع في الحزب الجديد، وكانت توكل إليه مهمة تعبئة المقاومين وشحن معنوياتهم نفسيًا، لما كان يتمتع به من قدرات خطابية وإقناعية مشهود بها، هذا بجانب مهام تشكيل الخلايا العسكرية الفرعية.
وبعد 3 سنوات فقط تولى مهمة نائب مسؤول الحزب في بيروت التي انتقل إليها عام 1985، ثم واصل صعوده السريع حتى عُين في مجلس شورى الحزب ثم كمسؤول عن عملياته في العاصمة، كذلك المسؤول التنفيذي العام المكلف بتطبيق قرارات مجلس الشورى، وصولًا إلى العام 1992 الذي يعد العلامة الفارقة في مسيرة نصر الله، حيث انتخابه أمينًا عامًا لحزب الله.
زعامة مبكرة ونقلة نوعية للحزب
في 16 فبراير/شباط 1992، استهدفت مروحية إسرائيلية سيارة أمين عام حزب الله عباس الموسوي (معلم نصر الله وأستاذه) عقب كلمة ألقاها في إحياء الذكرة الثامنة لمقتل الشيخ راغب، ما أسفر عن اغتياله وزوجته وولدهما، لينتخب مجلس شورى الحزب – بالإجماع – حسن نصر الله أمينًا عامًا له، رغم صغر سنه (35 عامًا).
واستطاع نصر الله إحداث نقلة كبيرة للحزب من مجرد كيان غير معترف به ومصنف كمنظمة إرهابية، إلى كيان له ثقل إقليمي وحضور مؤثر ويتشابك مع العديد من القضايا والملفات الإقليمية، حتى تحول مع مرور الوقت إلى ما يشبه “الجيش غير النظامي”، مستفيدًا من الدعم المفتوح من طهران التي تعاملت معه على أنه ذراعها القوية القادرة على خدمة مصالحها في المنطقة.
ومع البدايات الأولى لتولى أمانة حزب الله نجح نصر الله في تعزيز شعبيته – التي تجاوزت الحزب نفسه – من خلال المقاومة المسلحة والعمليات العسكرية النوعية ضد الكيان المحتل، ما أجبره في النهاية على الانسحاب من جنوب لبنان عام 2000، وذلك بعد احتلال استمر قرابة 22 عامًا، كما كان له دوره المؤثر في صفقات تبادل الأسرى مع “إسرائيل”، ليسوا لبنانيين فحسب، بل من جنسيات سورية وليبية وفلسطينية ومغربية، وهو ما زاد من جماهيريته عربيًا.
ثم جاء عام 2006 حين دحر الاحتلال وكبده خسائر فادحة ودفعه للانسحاب نهائيًا من الجنوب، وهو الانتصار الذي حول نصر الله إلى زعيم شعبي عربي وإسلامي، تُرفع صوره ويُهتف باسمه في شوارع البلدان العربية والإسلامية، إذ ارتبط اسمه بمقاومة الكيان المحتل ومناهضة الأمريكان في الشرق الأوسط.
السياسة من داخل العباءة الإيرانية
أدخل نصر الله، الحزب، في اشتباكات عدة مع أطياف سياسية متباينة في الداخل اللبناني، كان لها أثرها على حضوره داخليًا وخارجيًا، أبرزها عام 2008 حين اتهم الحكومة اللبنانية، الموالية للولايات المتحدة وقتها، بإعلان الحرب بسبب سعيها لحظر شبكة الاتصالات الداخلية لأعضاء حزبه، وتوعد بما وصفه “قطع يد” كل من يحاول القيام بذلك، ما أسفر لاحقًا عن مواجهات عنيفة مع مقاتلين سنه ودروز في 7 مايو/أيار من نفس العام، وسيطرة الحزب على مناطق شاسعة من العاصمة بيروت.
تعرض الحزب حينها لانتقادات حادة وهجوم شديد من الشارع اللبناني، ما دفع نصر الله للعمل على احتواء هذا التصعيد من خلال طرح وثيقة سياسية جديدة في نوفمبر/تشرين الثاني 2009 حاول من خلالها تقديم الحزب في صورة سياسية مغايرة ورسم خطوط سياسته الجديدة إزاء بعض القضايا الداخلية والخارجية.
الوثيقة خلت تمامًا من الحديث عن خصوم أو أعداء للحزب في الداخل اللبناني، مؤكدة على أن لبنان وطن للجميع، وربطت بقاء سلاح الحزب بوجود التهديد الإسرائيلي، وشددت على ضرورة توحيد المقاومة الشعبية والجيش الوطني، وهو ما اعتبره البعض حينها تحولًا نوعيًا في منهجية الحزب وفكره السياسي.
إلا أن الوثيقة التي حاولت التقليل من مخاوف اللبنانيين بشأن الطائفية والتي ربطت تطبيق الديمقراطية بإلغائها، جددت التزام الحزب بتبعيته العقائدية تجاه ولاية الفقيه في إيران، حتى وإن اقتصر ذلك على الجانب العقدي دون السياسي، وهو ما زاد من حالة الارتياب الشعبي تجاه الحزب وولاءاته وانتماءاته، ودفعت البعض لاعتباره “وكيل إيران” في لبنان.
دعم نظام الأسد.. الخطأ الذي لم يغتفر
في أبريل/نيسان 2013 أعلن حسن نصر الله رسميًا ودون سابق إنذار مشاركة حزبه إلى جانب قوات النظام السوري بقيادة بشار الأسد، في قمع المحتجين من المدنيين المطالبين بتغيير النظام، قبل أن تتكشف لاحقًا مشاركة الحزب في قمع الثورة السورية قبل هذا التاريخ بكثير.
اللافت هنا والمثير للتناقض أن نصر الله الذي دعم الربيع العربي 2011 وانحاز لإرادة الشعوب الراغبة في التخلص من أنظمتها السلطوية، في مصر وتونس وليبيا والبحرين، تعامل بشكل مختلف تمامًا مع المشهد السوري، وبعدما برر دخوله للأراضي السورية من أجل حماية المقامات الدينية أو الحدود اللبنانية، إذ به يقاتل إلى جانب الجيش السوري في دمشق وحلب ودير الزور وإدلب والقلمون وغيرها من الأماكن في سوريا.
واعتبر مراقبون ما حدث في سوريا اختبارًا حساسًا لنصر الله وحزبه، إذ سقط فيه سقوطًا مدويًا، بعدما كشف عن وجه طائفي لقواته، وهو ما تجلى في مشاهد كثيرة في المدن السورية التي سقطت بأيدي عناصر الحزب الذين لم يتوانوا عن ترديد ورفع شعارات طائفية واضحة وعلنية.
وأسفر هذا الموقف الكاشف للحزب وزعيمه، وما يحمله من دلائل ورسائل خاصة بالولاء السياسي والأيديولوجي، عن تراجع كبير في شعبيتهما لبنانيًا وعربيًا وإسلاميًا، ليفقد نصر الله زخمه الجماهيري الإقليمي الذي اكتسبه منذ عام 2006، حتى جاء طوفان الأقصى ليمنحه فرصة جديدة لاستعادة ما فقده منذ 11 عامًا.
طوفان الأقصى.. فرصة التصحيح
حاول نصر الله توظيف المشهد في غزة لتحقيق أكبر قدر من المكاسب، على رأسها استعادة شعبية الحزب ككيان مقاوم ضد الاحتلال، وبالفعل استطاع أن يحول الحزب إلى جبهة إسناد قوية للمقاومة في غزة، ساعدت بشكل كبير في تخفيف الضغط نسبيًا عن القطاع.
ومنذ اليوم التالي لعملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 أعلن الحزب انخراطه رسميًا في المعركة من خلال قصف مزارع شبعا، وهي الرسالة التي قرأها البعض في سياق التضامن مع المقاومة، تعزز الأمر مع توالي التصريحات الصادرة عن نصر الله والتي أكد فيها استمرار حزبه كجبهة إسناد مهما كانت الضغوط.
وبالفعل أصبح حزب الله الجبهة الإسنادية الأقوى والأكثر تأثيرًا للمقاومة في غزة، ورغم الضربات التي تلقاها الحزب باغتيال العديد من كبار قادته، فإن ذلك لم يثن الحزب عن المضي قدمًا في مساره الداعم للمقاومة من خلال استنزاف جيش الاحتلال عبر العمليات النوعية التي قام بها في العمق الإسرائيلي والتي وصلت إلى مستويات لم تصلها منذ حرب 2006.
وقد أثار الحضور العسكري لنصر الله وحزبه حفيظة الإسرائيليين وحكومة بنيامين نتنياهو التي يبدو أنها قررت – بدعم حليفها الأمريكي والأوروبي – فرض قواعد اشتباك جديدة على الجبهة الشمالية التي باتت تمثل صداعًا مزمنًا لجنرالات الاحتلال ونخبته السياسية، وذلك عبر استهداف كبار القادة والتي كان من بينها أمين عام الحزب الذي تم استهدافه وعدد من القيادات في عملية الجمعة 27 سبتمبر/أيلول 2024، وهي الضربة الأصعب للحزب منذ اغتيال زعيمه الأول، موسوي، عام 1992.
هاشم صفي الدين الأقرب.. من يخلف نصر الله؟
لا يتوقع أن يستغرق حزب الله وقتًا طويلًا لاختيار أمين عام له خلفًا لنصر الله الذي تولى زعامة الحزب في ذات اليوم الذي اغتيل فيه الأمين السابق، عباس موسوي، في 16 فبراير/شباط 1992، فيما تذهب الكثير من التوقعات إلى احتمالية أن يقع الاختيار على رئيس المجلس التنفيذي للحزب، هاشم صفي الدين.
ويعد صفي الدين المولود عام 1964 أحد القادة البارزين للحزب، ويعتبره مراقبون الرجل الثاني بداخله، حيث يهيمن على المجلس التنفيذي الذي يصفه البعض بـ”حكومة الحزب الداخلية” وهو تلميذ القائد الأمني السابق عماد مغنية، وتربطه علاقات قوية بالعمائم الإيرانية، حيث أشارت بعض المصادر إلى صلة مصاهرة بينه وبين قائد فيلق القدس السابق، قاسم سليماني.
ويوصف صفي الدين بأنه “ظل نصر الله” إذ كان مقربًا منه بشكل كبير، وإن تراجع حضوره الإعلامي، كما أوكل إليه مهام إدارة مؤسسات الحزب وأمواله واستثماراته في الداخل والخارج، وتذهب بعض التقديرات إلى إعداده بشكل ممنهج لخلافة نصر الله منذ أن قدم من قم إلى بيروت عام 1994.
ومن هنا لا يشكل طرح اسم هاشم صفي الدين لخلافة نصر الله مفاجأة للمراقبين، داخل لبنان وخارجه، فهو الأقرب بحكم المعطيات الراهنة، إن لم يكن لمجلس شورى الحزب رأي آخر، بل حتى في الداخل الإسرائيلي، ففي عام 2023 توقع الجنرال الإسرائيلي موشيه إلعاد أن يتم اختياره أمينًا عامًا جديدًا في حال حدوث أي طارئ لحسن نصر الله.
وفي الأخير، لا ينكر أحد أن اغتيال نصر الله ضربة نوعية لحزب الله الذي ارتبط باسم زعيمه لأكثر من 30 عامًا، وما يرجح أن يكون له من تداعيات كبيرة على جدار الحزب ومعنويات أنصاره، لكن من المتوقع أن يتدارك الحزب سريعًا هذه الصدمة، بمساعدة طهران، وأن يلملم أوراقه المبعثرة، ويحاول التماسك بشكل يضمن له البقاء في ظل التحديات الهائلة التي يواجهها والتي قد تطيح بمستقبله إن لم يبتلع الضربة بشكل عاجل.