يشهد جيل الألفية الحاليّ تحولات عصرية فريدة، وأبرزها التغيرات التكنولوجية الحديثة وتأثيرها على نهج الحياة المهنية والأكاديمية، وهما مساران يسيران جنبًا إلى جنب، فلا بد أن تنسجم الخبرات التعليمية مع متطلبات السوق وسياسات الاقتصاد، ودون تحقيق ذلك يصبح من الصعب إنتاج أفراد قادرين على قيادة المستقبل بمرونة ومهارة.
ولذلك يُثمِن الخبراء الدور التكنولوجي في البيئات التعليمية، ويعملون على إدماج أكثر التقنيات تطورًا في الفصول الدراسية، حرصًا منهم على ألا تنمو القدرات المعرفية بشكل تقليدي ومنفصل عن العالم الخارجي الذي يعتمد – إلى حد كبير – على منظومة مبنية على آليات الذكاء الاصطناعي والتعلم الذاتي والواقع الافتراضي.
وما يقصد بذلك ليس فقط توفير الحواسيب التي تعمل باللمس للطلاب أو تسهيل التعليم الإلكتروني، بل تسعى هذه الخطة إلى توسيع مفهوم التعليم الافتراضي، حيث يتم تغيير الفصول الدراسية من شكلها التقليدي وما فيها من ألواح ومقاعد خشبية إلى غرف تفاعلية تخلق بيئات كاملة الملامح تجعل الطالب قادرًا على مشاهدة الماضي وتخيل المستقبل والتفاعل معه وكأنه حدث مباشر.
قصة التعليم الافتراضي كاملة
يمكّن الواقع الافتراضي الطلاب من التعرف على مكونات الطبيعة
لسنوات عديدة انتقد خبراء التربية أساليب التعليم التقليدية لأسباب كثيرة، ومنها أن النظام التعليمي يفرض قيودًا فكرية على الطفل ويعيق نمو مهاراته الفطرية والسلوكية من خلال لوائح الضوابط والقواعد والواجبات والأوامر التي تسردها للطفل منذ أول يوم دراسي له، يضاف إلى ذلك تعظيم النظام المدرسي للدرجات العلمية مقابل ما يتعلمه ويعرفه الطفل حقًا، وأخيرًا دور المدرسة ومتطلباتها في خلق جو من الاضطرابات النفسية الناتجة عن سلطوية المدرسين أو تنمر الطلاب أو ضغط الامتحانات الدورية.
لا تنتهي القائمة عند هذا الحد، فإن السهولة والمرونة التي وفرتها شبكة الإنترنت للوصول إلى المعلومات لم يعد أمرًا مستحيلًا أو معقدًا، فقد أصبحت المعلومة ملكًا للجميع في أي مكان وزمان، ما جعل سياسة التلقين والتحفيظ في عصر المعلومة حدثًا منفرًا، لا سيما أن المهارات الناعمة والإبداعية أصبحت مطلبًا أساسيًا في القرن الـ21.
ونظرًا لذلك، حاولت بعض المؤسسات التعليمية التوجه إلى حلول أكثر توافقًا مع التغييرات العصرية، وكان من أهمها دمج التعليم بالطبيعة والتكنولوجيا من خلال تقنية الواقع الافتراضي الذي يسمح للمستخدم بإنشاء عالم مشابه للعالم الحقيقي الذي يعيش فيه، وذلك من خلال تحويل رسوم الحاسوب ثلاثية الأبعاد إلى بيئات افتراضية يمكنها أن تجذب ذهن المستخدم وتحافظ على وجودها في ذاكرته لفترة طويلة.
تمكّن هذه التقنية الطلاب من التجول في غابات إفريقيا الشاسعة والتعرف على نباتاتها وحيواناتها البرية، ويمكنهم الغوص في أجسادهم ليتعرفوا على الفيروسات التي تهاجمهم عند المرض، كما بإمكانهم أن يتسلقوا قمة إيفرست ليروا العالم من أعلى
حيث تضمن هذه التقنية حق المشاركة في هذا العالم الافتراضي، إذ يمكن التفاعل مع المحيط الافتراضي والغوص في تفاصيله والإحساس بالأشخاص والأماكن والأجسام الموجودة بزاوية 360 درجة، على سبيل المثال، قد يتجول الطلاب في غابات إفريقيا الشاسعة والتعرف على نباتاتها وحيواناتها البرية، ويمكنهم الغوص في أجسادهم ليتعرفوا على الفيروسات التي تهاجمهم عند المرض، كما بإمكانهم أن يتسلقوا قمة إيفرست ليروا العالم من أعلى.
ويعلق على ذلك جلين جونهاوس محاضر في كلية الفنون والتصميم التابعة لجامعة ولاية جورجيا، قائلًا: “في بعض الأحيان لا يمكن اكتساب نوع المعرفة التي أريد تقديمها للطلاب إلا من خلال تجربة مساحة أو مبنى ثلاثي الأبعاد”، مضيفًا “الأشياء التي نتحدث عنها هي أماكن في العالم الحقيقي، لذا أحاول إنشاء نماذج ثلاثية الأبعاد تسمح للطلاب بتجربتها بطريقة جسدية حسية، وبالتالي عندما يقدمون لي أبحاثًا كتبوها استنادًا إلى نماذج تعلم افتراضية، فلن يتمكن الأشخاص الآخرون الذين يقرؤونها من معرفة ما إذا كان كتاب الأبحاث قد زاروا الكنيسة الفعلية أم الكنيسة الافتراضية”.
ويضيف إلى ذلك إيريك فيرنيت مدير تقنيات التصور والتحليلات لمعهد بيرفاسيف للتكنولوجيا في جامعة إنديانا، قائلًا: “الواقع الافتراضي في التعلم والتدريب يقدم إحساسًا بالأحجام الواقعية لا يمكن الوصول له من مجرد النظر إلى شاشات الكمبيوتر”، ويضيف: “يمكنك أن تتخيل شكل الرسومات ذات مقاييس الرسم أو الرسومات ثلاثية الأبعاد، لكنك تحتاج إلى المشي عبر المساحات في الواقع الافتراضي لتصل للخبرة والإحساس بالرسم واقعيًا، فتشعر بالدهشة أن أحد الأبواب في الرسم صغير للغاية، أو أن شيء ما أكبر بكثير مما تخيلته”.
التعليم ثلاثي الأبعاد يشبه ألعاب الفيديو بتصاميمها وألوانها وسرعتها، وهو ما يحفز ملكات التعلم وينمي الفضول لدى الطالب منذ الصغر، لا سيما أنه قادر على الوصول إلى ملايين المعلومات والعوالم التي تتيح له فرصة السؤال والنقد
ولا شك أن هذه التجارب الرقمية لا تخلو من عاملي الإثارة والمتعة، لأن التعليم ثلاثي الأبعاد يشبه ألعاب الفيديو بتصاميمها وألوانها وسرعتها وواقعيتها أيضًا، وهو ما يحفز ملكات التعلم وينمي الفضول لدى الطالب منذ الصغر، لا سيما أنه قادر على الوصول إلى ملايين المعلومات والبيانات والعوالم التي تتيح له فرصة السؤال والنقد والتحليل والافتراض من خلال التجربة الرقمية، وهي أدوات مهمة في الوقت الذي أصبح فيه العالم مخزنًا للأفكار المتناقضة والأخبار المزيفة والتوجهات المسيسة.
تفاعل أحد الطلاب مع كواكب المجموعة الشمسية
إضافة إلى ذلك، يدعم هذا الأسلوب الاحتياجات الفردية ويزيل الغبار عن الاهتمامات الشخصية للطالب، وتحديدًا في المواضيع المعقدة أو الغنية، ما يساعدهم على تحديد نقاط القوة والضعف لديهم ليستكشفوا في النهاية مساراتهم المهنية ويحولوها إلى أهداف واضحة، وهذا على العكس من الفصول الدراسية العادية التي يصعب فيها خلق تجربة فردية لكل طالب ما لم يكن التعليم تفاعليًا ومستقلاً، فالتكنولوجيا تسمح للطالب بالذهاب في الاتجاه الذي يتوافق مع ميوله واختياراته.
ويؤكد ذلك دراسة أجراها باحثون في جامعة هارفرد، تعني بمعرفة كيفية تأثير التكنولوجيا على التعلم ومساعدة الطالب على ربط المفاهيم العلمية الأكاديمية بالتجارب الملموسة في العالم الحقيقي باستخدام برنامج تجريبي باسم “إيكو موبايل”، لتظهر النتيجة أن البرنامج ساعد في ظهور البصمة الشخصية لكل تلميذ، إذ يربط البرنامج التلاميذ بالطبيعة بدرجات مختلفة عن الأشكال الأخرى، فيجعلهم يشعرون بشكل ما بالمسؤولية عن عملهم، ويجعل من دراسة العلوم عملية إبداعية، فهم يستمتعون بالدراسة ويدركون أن البيئة في الواقع هي مجال تحليلي، وهو ما دفع التلاميذ لطرح أسئلة أكثر عمقًا وذكاءً.
يمكن للشخص أن يتذكر 20% فقط من المعلومات التي يسمعها و30% من المعلومات التي رآها، ولكن إذا حصلوا على هذه المعلومات من خلال تجربة شخصية، فإنهم يتذكرون حتى 90% منها، وهذا ما توفره تقنية الواقع الافتراضي
فمن المتعارف عليه أنه يمكن للشخص أن يتذكر 20% فقط من المعلومات التي يسمعها و30% من المعلومات التي رآها، ولكن إذا حصلوا على هذه المعلومات من خلال تجربة شخصية فإنهم يتذكرون حتى 90% منها، وهذا ما توفره تقنية الواقع الافتراضي التي تسمح للطلاب بالتفاعل مع الأنشطة الدراسية بشكل كامل، إذ يشير لذلك كتاب “لماذا يعتبر الواقع الافتراضي أمرًا هامًا؟” بقوله إن التأثيرات الطبيعية التي تصاحب الواقع الافتراضي تزيد من عمق المحتوى العلمي عن طريق إشراك الحواس جميعها في عملية التعلم، ما يجعلها حافزًا مثاليًا للفضول والتعلم الحقيقي.
جدير بالذكر أن البعض يطلق على هذه التقنية “آلة التعاطف” لقدرتها على دمج الطلاب في التجارب الافتراضية بشكل أقرب للحقيقة، وتحديدًا ما يتعلق بالقضايا والأزمات العالمية مثل الحروب والمجاعات والفقر، فمن خلال استثارة مشاعرهم يمكن دفعهم إلى التفكير في حلول جدية والمشاركة في الحد من تفاقمها، ما ينمي في المقابل لديهم حس المسؤولية وتزيد إدراكهم بما حوله.
يطلق على هذه التقنية “آلة التعاطف” لقدرتها على دمج الطلاب في التجارب الافتراضية بشكل أقرب للحقيقة، وتحديدًا ما يتعلق بالقضايا والأزمات العالمية مثل الحروب والمجاعات والفقر، فمن خلال استثارة مشاعرهم يمكن دفعهم إلى التفكير في حلول جدية
حاليًّا تعمل عدة مؤسسات ومراكز تعليمية دولية على تطبيق هذه التقنية في مناهجها الدراسية وتحديدًا في المواد التاريخية والجغرافية والعلمية وما يخص الهندسة المعمارية، لكنها لا تزال مقتصرة على شرائح معينة وصفوف معينة، ومع ذلك فإن إحصاءات الميزانيات المخصصة لتطوير هذا المجال تشير إلى مستقبل باهر وافتراضي بشكل شامل، إذ أنفقت الولايات المتحدة الأمريكية نحو 17.8 مليار دولار أمريكي في 2018، وتعتبر شركة “جوجل” أكبر الشركات التي تسعى لتطوير هذه التكنولوجيا في الفصول الدراسية.
في المقابل برز اسم الصين في هذا المجال أيضًا، فبحسب إحصاءات وزارة الصناعة والتكنولوجيا الصينية، فقد نما سوق الواقع الافتراضي بنسبة 164% في عام 2017 بقيمة بلغت 2.5 مليار دولار أمريكي بهدف استخدام التقنية في قطاعات مختلفة مثل الطب والسياحة والتعليم.
أما فيما يخص العالم العربي، فقد أشار تقرير أعدته شركة الأبحاث “فروست آند سوليفان” بعنوان “الواقع المعزز: الشرق الأوسط منصة الانطلاق” أن تقنيات الواقع الافتراضي ستنتشر بشكل واسع في دول الخليج بحلول عام 2025، ما يعزز فرصة الطلاب العرب في مواكبة هذه التغيرات، مع العلم أن جامعة عفت في المملكة العربية السعودية وجامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية وجامعة قطر بدأت بتجربة هذه التقنية بالفعل.