كان ذلك قبل أيام قليلة من عيد الميلاد، وكانت رحلة “بان إم 103” عبر المحيط الأطلسي من فرانكفورت إلى ديترويت على ارتفاع مذهل، كانت “Maid of the Seas” وهي طائرة ضخمة من طراز “بوينغ 747 – 121” التابعة لشركة “خطوط بان أميركان العالمية” الأمريكية مليئة بالطلاب الذين كانوا في طريقهم إلى أمريكا، وقد غادرت في الموعد المحدد من مطار هيثرو في لندن في تمام الساعة 6.25 مساءً، في طريقها إلى نيويورك، بداية رحلة طويلة طوال الليل إلى نيويورك وديترويت والعطلات.
عندما كانت الطائرة تقترب من سولواي فيرث (The Solway Firth) – الخيط الذي يشكل جزءًا من الحدود بين إنجلترا وإسكتلندا – في الدقيقة 38 من الرحلة، كان طاقم الطائرة قد بدأ في تقديم المشروبات، وفي ذلك الحين كان آلان توب مراقب حركة المرور الجوي في مطار بريستويك بمدينة غلاسكو الإسكتلندية يطرف بعينيه في حالة من التشتت، لقد اختفى الصندوق الأخضر الوحيد على الشاشة أمامه الذي يميز موقع “بان إم 103”.
عانى الليبيون من الحصار الاقتصادي والسياسي جراء “لوكربي”، فضلًا عن تعويضات دفعها نظام القذافي لأسر الضحايا بلغت 1.7 مليار جنيه إسترليني
مع قضاء 259 مسافرًا كانوا على متن الطائرة، و11 آخرين من سكان قرية لوكيربي الإسكتلندية، كانت نهاية طائرة “Maid of the Seas” التي استهدفتها قنبلة في 21 من ديسمبر/كانون الأول 1988، في أسوأ كارثة للطيران المدني في التاريخ البريطاني.
بعد 30 عامًا ما زلنا لا نعرف رسميًا من المسؤول عن القتل الجماعي في الجو فوق سوق بلدة إسكتلندية صغيرة تستعد لعيد الميلاد، لكن كتاب جديد حمل عنوان “لوكربي.. الحقيقة”، للمؤلف الأمريكي دوغلاس بويد فجر مفاجأة في قضية تفجير طائرة “بان أمريكان”، خميني إيران هو من أعطى الأوامر بإسقاط الطائرة، وليس قذافي ليبيا.
حُكم على عبد الباسط المقراحي رئيس الأمن في الخطوط الجوية العربية الليبية بالسجن مدى الحياة في عام 2001
ليبيا تدفع ثمن عدم الكفاءة والانتقام والتستر على أعلى المستويات
يحدث ذلك بعد ما أُغلق ملف القضية بإدانات طالت شخصيات ليبية طوال 3 عقود، منها قرابة 10 سنوات عانى خلالها الليبيون من الحصار الاقتصادي والسياسي جراء “لوكربي”، وحظر تام لحركة الطيران من ليبيا وإليها، فضلًا عن تعويضات دفعها نظام القذافي لأسر الضحايا بلغت 1.7 مليار جنيه إسترليني.
قبل 17 عامًا وتحديدًا في عام 2001، أُغلق ملف القضية بإدانة ضابط الاستخبارات الليبية، عبد الباسط المقرحي (47 عامًا) الذي حكم عليه بالسجن مدى الحياة، في محاكمة يصفها بويد بأنها “استثنائية عقدت في قاعدة عسكرية أمريكية غير مستخدمة قرب أوترخت في هولندا”، لكن لأسباب إنسانية وصحية أطلق سراحه عام 2009، وتوفي بعد ذلك بـ3 سنوات في ليبيا بعد تشخيصه بأنه مصاب بمرض البروستاتا.
اتهام المقرحي جاء بناءً على نسج من الأكاذيب تركزت على صاحب متجر مالطي يُدعى توني جوتشي
وبخوص اتهام المقرحي – بعد مرور 11 عامًا على الفظاعة – بالمسؤولية عن الهجوم، قال بويد إن اتهام المقرحي جاء بناءً على نسج من الأكاذيب تركزت على صاحب متجر مالطي يُدعى توني جوتشي، وقد زعم أنه رأى المقرحي يشتري ملابس مشابهة لتلك التي كانت في الحقيقة مع القنبلة، التي كانت لتتمزق عبر جسم الطائرة.
صحف بريطانية عدة تناولت قصة الكتاب الجديد، واعتبرت ما ورد فيه – في حال تم تأكيده – سيشكل “فضيحة” للقضية برمتها التي استخدمت لتجريم ليبيا آنذاك، وقالت صحيفة “ديلي ميل” البريطانية إن ما ذكره الكتاب يثير المزيد من التساؤلات بشأن صدقية الشاهد الرئيسي توني جوتشي، وفي وقت سابق ذكرت تقارير أن جوتشي تلقى أموالًا ليدلي بهذه الشهادة.
وبعد سنوات من التحقيق في كارثة لوكربي وخلفيتها، وجد بويد أن القليل من الأدلة ضد المقرحي يمكن أخذها بعين الاعتبار، وبدلًا من ذلك، ظهرت قصة مختلفة تمامًا عن مستنقع الأكاذيب، وهو ما كان يجب أن يكون واضحًا منذ البداية، إنها قصة عدم الكفاءة والانتقام والنفعية السياسية، ومن ثم تغطية من أعلى المستويات في لندن وواشنطن.
المفاجاة الأكبر أن “أبا إلياس” المشتبه به الرئيسي لا يزال على قيد الحياة، ويقيم في الولايات المتحدة، بموجب برنامج “حماية الشهود”
تمثلت هذه التغطية في مفاجأة قال فيها إن شخصًا يدعى “أبو إلياس” هو المشتبه به الرئيسي لاقتحامه متجرًا للأجهزة في هيثرو، واُتهم بزرع القنبلة، لاقتحامه مخزن الأمتعة قبل وقت قصير من إقلاع الرحلة 103، لكن المفاجاة الأكبر أنه لا يزال على قيد الحياة، ويقيم في الولايات المتحدة، بموجب برنامج “حماية الشهود”، وتم توظيفه من جانب سلطات التعليم المحلية في مدرسة بواشنطن، باسمه الجديد باسل بشناق تحت اسم باسل بوشناق.
وافق وزير الداخلية الإيراني السابق علي أكبر محتشميبور على التفجير وقام بتمويله
إيران التي مولت ونفذت
في الأيام والأشهر التي تلت الحادث، قام الآلاف من رجال الشرطة والأفراد العسكريين والمحققين المتخصصين من فرع التحقيق في الحوادث الجوية في بريطانيا بجولة في جنوب إسكتلندا، حيث عثروا على حطام على مساحة 1500 ميل مربع، شارك المحققون من هيئة الطيران الفيدرالية الأمريكية ومكتب التحقيقات الفيدرالي FBI”“.
يروي دوغلاس بويد تفاصيل التحقيقات التي جرت، وحضور ممثلي وكالة المخابرات المركزية ” “CIA لأسباب لم تكشف، وقد تم العثور على مواد متفحمة بعد عدة أسابيع من إرسال التفجير إلى مؤسسة الأبحاث التابعة لوزارة الدفاع البريطانية في بلدية “كنت”، حيث حدد المسؤول العلمي البارز توماس هايز وجود أجزاء من البلاستيك الأسود والمعدني وشبكات الأسلاك، لقد كانت أجزاء من مشغل كاسيت “توشيبا”، كان يحتوي على قنبلة وقطعة صغيرة من لوحة الدائرة التي يعتقد هايز أنها بقايا جهاز توقيت.
تلقت الجبهة الشعبية الدعم الإيراني بالأموال والأسلحة لتفجير الطائرة، كما عينت رجلًا يدعى “أبو إلياس” كمشتبه به رئيسي
بعد ثلاث سنوات، توصلت التحقيقات البريطانية الأمريكية المشتركة إلى أدلة تصب في اتجاه واحد واضح، وتؤكد مسؤولية الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين- القيادة العامة، بزعامة أحمد جبريل، عن تفجير الطائرة.
ونوهت صحيفة “ديلي ميل” البرطانية إلى أنه ألقى القبض على خلايا نائمة من المنظمة في سلسلة من الغارات في ألمانيا قبل بضعة أسابيع من حادث لوكربي، حيث تم ضبط قنابل مخبأة في مشغلات راديو كاسيت توشيبا إلى جانب ترسانة مخيفة من المتفجرات والأسلحة النارية والذخيرة.
بنى صانع القنابل الأردني مروان خريسات عبوة ناسفة مخبأة داخل مشغل كاسيت توشيبا
بعد وقت قصير من وقوع الكارثة، نشرت منظمة التحرير الفلسطينية التي حرصت على تعزيز مؤهلاتها كمنظمة سياسية بعيدًا عن أنشطة الجماعات الإرهابية، تقريرًا مؤلفًا من 80 صفحة يشير إلى أن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – أحد فصائل المنظمة التي أسسها أحمد جبريل سنة 1958 بشكل سري وأُعلن عسكريًا عام 1965 – قد تلقت الأموال والأسلحة لتفجير الطائرة، كما عينت الجبهة رجلًا يدعى “أبو إلياس” كمشتبه به رئيسي لاقتحامه متجر “Pan Am” للأجهزة في هيثرو وزرع القنبلة.
استعان جبريل بخبير المتفجرات الأردني مروان خريسات لتصميم قنبلة يمكن أن تمر عبر بوابات تفتيش أمتعة المطار، ويمكنها الانفجار فوق الماء
بعد سنوات تم إقناع العالم بقبول قصة مختلفة تمامًا، إذ في سبتمبر/أيلول 1989، بدا الدليل على الذنب الإيراني واضحًا إلى درجة أن وكالة المخابرات العسكرية الأمريكية أصدرت بيانًا عامًا قالت فيه إن تفجير رحلة “بان إم” كان مفهومًا ومرخصًا وممولًا من علي أكبر محتشميبور، وزير الداخلية السابق لإيران الذي التعاقد على تنفيذ العملية مع أحمد جبريل”.
وبحسب ما جاء في الكتاب، لم يكن التخطيط لإسقاط الطائرة في ليبيا وإنما في إيران، وكان ذلك قبل الحادث بخمسة شهور، بعد إسقاط سفينة بحرية أمريكية ” “USS Vincennes لطائرة إيرباص تابعة للخطوط الجوية الإيرانية منتصف 3 من يوليو 1988، ظنًا منها أنها طائرة مقاتلة معادية، وعلى الرغم من أن السفينة كانت تتسلل بطريقة غير شرعية في المياه الإيرانية، ومعرفة أن الطائرة مدنية، إلا أن كل من كانوا على متنها وعددهم 290 شخصًا سقطوا ضحايا.
كان أحمد جبريل مؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي نفذت التفجير
ووفقًا لأحد ضباط المخابرات الإيرانية السابقين، بحسب قوله لبويد، رد الزعيم الإيراني آية الله الخميني مطالبًا بـ”القصاص” ردًا على إسقاط الطائرة الإيرانية؛ الأمر الذي تطلب تدمير طائرة أمريكية للانتقام، وعندما وصلت أخبار القصاص إلى لبنان، اتصل قائد المجموعة أحمد جبريل بطهران وعرض أن ينفذها، وقد كان كان جبريل المولود في فلسطين ضابطًا سابقًا في الجيش السوري ومرتبطًا بالمخابرات السورية والسوفيتية.
بدوره، استعان جبريل بخبير المتفجرات الأردني مروان خريسات لتصميم قنبلة يمكن أن تمر عبر بوابات تفتيش أمتعة المطار، ويمكنها الانفجار فوق الماء، لتدمر الطائرة وتقتل كل من على متنها ولا تترك أي أثر خلفها.
كانت “الجبهة الشعبية” قد أثبتت بالفعل أن قنبلتها يمكن أن تنجح، فقد جربتها في تفجير رحلة طيران “سويس إير” في 21 من فبراير 1970
وكانت “الجبهة الشعبية” قد أثبتت بالفعل أن قنبلتها يمكن أن تنجح، فقد جربتها في تفجير رحلة طيران “سويس إير” في 21 من فبراير 1970، مما أسفر عن مقتل جميع الركاب البالغ عددهم 47، بالإضافة إلى طاقم الطائرة، وطائرة أخرى تابعة للخطوط النمساوية في نفس اليوم كان مقررًا لها الهبوط بأمان في مطار فرانكفورت.
إنها ليست أقل من فضيحة
كيف إذًا ألقى اللوم على ليبيا لتواجه مثل هذا الدليل الساحق، ولماذا؟ الجواب يكمن في غزو صدام حسين للكويت في أغسطس/آب 1990، ما دفع إلى قيام حرب الخليج الأولى التي كانت واشنطن ولندن بحاجة فيها إلى امتثال جيران العراق، وهم إيران وسوريا.
كان لا بد من العثور على مشتبه به جديد في قضية لوكربي، وفي يونيو 1991، كان ضباط “سي آي إيه” يرون أن نظرية إيران – الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين كانت زائفة، وبدلًا من ذلك، رأوا أوجه تشابه بين لوكربي والقبض على اثنين من الليبيين في السنغال يحملان 20 رطلًا من المتفجرات وأجهزة إطلاق كالتي ظهرت منها على ما يبدو شظايا لوكربي.
بعد الإعلان عن تقديم مكافأة كبيرة للحصول على معلومات عن مرتكبي حادث لوكربي، تطوع عبد المجيد غياكا فجأة – بعد التنسيق مع المخابرات – للإدلاء بشهادته
اكتسبت هذه النظرية رواجًا بسبب الدعم المالي للزعيم الليبي العقيد القذافي للإرهابيين، فضلًا عن أن ليبيا كانت منبوذة دوليًا في ظل عقوبات اقتصادية صارمة منذ مقتل المبرمج البريطاني إيفون فليتشر الذي قُتل بالرصاص في لندن عام 1984، ما دفع جهاز الاستخبارات إلى البحث عن كبش فداء معقول، فكل المطلوب هو الدليل.
في هذا التوقيت، جهز ضابط الأمن في شركة الطيران عبد الباسط المقراحي مشروع قانون لرفع العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الدول الغربية على نظام القذافي، وكان بالخارج في الأعمال التجارية يومي 20 و21 من ديسمبر، مرورًا بمطار لوقا المالطي في كلا اليومين.
بعد الإعلان عن تقديم مكافأة كبيرة للحصول على معلومات عن مرتكبي حادث لوكربي، تطوع عبد المجيد غياكا فجأة – بعد التنسيق مع المخابرات – للإدلاء بشهادته التي قال فيها إنه رأى المقراحي يجمع حقيبة “سامسونايت” بنية اللون من مستودع دوريات القادمين في مطار لوكا بمالطا في 20 من ديسمبر 1988، في صباح اليوم التالي، زعم أن الحقيبة تم تحميلها على متن رحلة إلى فرانكفورت، حيث سيتم نقلها إلى لندن على متن الرحلة 103.
ذهب معظم المشاركين في القصة إلى القبر دون قول الحقيقة، فقد توفي المقراحي في منزله مع عائلته في 20 من مايو/أيار 2012، تم تفجير الفلسطيني أحمد جبريل بواسطة قنبلة على جانب الطريق وضعتها مجموعة مرتبطة بالقاعدة في 26 من أغسطس/آب 2014، كما توفي صانع القنابل مروان خريسات في أكتوبر/تشرين الأول عام 2016، ولم يبق على قيد الحياة إلا “أبو إلياس” الشاهد الغامض الذي يُزعم أنه الشخص الأكثر احتمالًا لوضع حقيبة “سامسونايت” على متن “الرحلة 103”.
هذه التفاصيل أثارت حالة من الغضب بين الليبيين الذين قالوا إن بريطانيا والولايات المتحدة مطالبتان باعتذار رسمي لهم، ودفع تعويضات مادية لجبر الضرر والمهانة اللذين لحقا بالشعب الليبي طوال عقود جراء “هذه المكيدة”، فمن الذي سيعوض الليبيين عن سنوات الحصار التي عاشوها والأموال التي دفعتها دولتهم كتعويضات لأسر الضحايا؟