بينما تتصارع معظم دول العالم مع شكل الحجاب، سواء تلك التي ترفضه كليًّا أو غيرها التي تحاول أنْ تختزله في شكلٍ واحدٍ وترفض ما دونه، أصبح اللباس الإسلامي في العديد من الأماكن صناعةً مؤسساتية مبتكرة ومستقلّة تخلق يومًا بعد يوم خياراتٍ لا تعدُّ ولا تُحصى في عالم الأزياء.
لسنواتٍ عديدة، كانت فكرة الحجاب بسيطةً للغاية؛ قطعة ملابس متواضعة بأكمام طويلة وتنحدر للكاحل مع شكلٍ من أشكال غطاء الرأس. إضافةً إلى بعض المجتمعات الصغيرة مالت النساء المحجّبات فيها إلى ارتداء السراويل الطويلة الفضفاضة مصحوبةً أيضًا بأكمام طويلة وتنحدر قليلًا للأسفل مغطيةً الأرداف، إلى جانب غطاء الرأس.
شيئًا فشيئًا، أخذ شكل اللباس الإسلامي الأنثويّ بالتحوّل والتغير حتى أصبح في نهاية المطاف صناعةً إسلامية تنافسية ومربحة تنظّم لها المؤتمرات وعروض الأزياء العالمية وتصوّر لها الإعلانات والحملات التسويقية بوجوه وأجساد عارضاتٍ لسنَ محجّباتٍ بالأساس، أو قد يكن. لكنّ الأهمّ من ذلك كلّه، أنّها لا تقتصر على فئةٍ محدّدة وإنما تتنوّع أشكالها وتتعدد حتى تستطيع جميع الفئات الاجتماعية بمختلف الأوضاع الاقتصادية أن تجد فيها ما تريده.
تحوّلات كبيرة وأرقام صاعدة
في عام 2010، قدّرت صحيفة “ملّت” التركية أن قيمة سوق الملابس الإسلامية العالمية تبلغ نحو 2.9 مليار دولار. فيما أشار تقرير الاقتصاد الإسلامي العالمي لعام 2014-2015 إلى أن إنفاق المستهلكين المسلمين على الملابس والأحذية قد ارتفع إلى 266 مليار دولار في عام 2013. وهذا يمثل نموًا بنسبة 11.9 في المائة من الإنفاق العالمي في فترة ثلاث سنوات. ويتوقع التقرير أن يصل هذا السوق إلى 488 مليار دولار بحلول عام 2019.
حجم الإنفاق الاستهلاكي الإسلامي في قطاع الملابس سيزيد إلى 322 مليار دولار في عام 2018، بعدما كان 224 مليار دولار في عام 2012.
ورجوعًا إلى تقرير الإنفاق الاستهلاكي الإسلامي في قطاع الملابس/الأزياء فإنّ حجم الإنفاق سيزيد إلى 322 مليار دولار في عام 2018، بعدما كان 224 مليار دولار في عام 2012. وتمثّل هذه الأرقام سوق الملابس الإسلامية في جميع أنحاء العالم. أما البلدان الأعلى استهلاكًا في نطاق الملابس الإسلامية فجاءت تركيّا أولًا بقيمة 25 مليار دولار، تليها إيران بمبلغ 21 مليار دولار، وإندونيسيا بقيمة 17 مليار دولار، ومصر بقيمة 16 مليار دولار، والمملكة العربية السعودية 15 مليار دولار، وباكستان 14 مليار دولار.
إسطنبول: ثورة أزياء إسلامية
يكفي أنْ تتجوّل في شوارع إسطنبول لبضع ساعاتٍ، خاصة في الأماكن الأكثر التزامًا اجتماعيًا أو دينيًا، حتى تلاحظ التسارع الهائل في نموّ صناعة الأزياء الإسلامية في المدينة. فالخيارات هُنا متنوّعة، وفكرة أنّ للحجابِ شكلًا واحدًا لم تعد مسيطرة أبدًا. فجزء كبيرة من الفتيات المحجّبات أصبحن يتابعن الموضة العالمية ويواكبن أحدث تطوّراتها لدرجة أنّ عددًا كبيرًا منهنّ لا يكاد يكرّر الزيّ مرتين وأخريات لا يترددن بدفع مبالغ طائلة لشراء ثيابهنّ التي تنافس في أسعارها الماركات العالمية المشهورة.
التحوّلات هذه جميعها تجعلنا نطرح سؤالًا كبيرًا في الأسباب التي حوّلت الحجاب من علامةً للحشمة والزهد والتقصّد في شراء الملابس والاقتصاد في صرف الأموال، إلى سلعةٍ عالميةٍ تتراوح أسعارها كثيرًا، لكنّها في حدّ ذاتها تخضع تمامًا لمقاييس الموضة العالمية وتحاول مواكبتها والمشي جنبًا إلى جنب في موكبها.
التعديلات الدستورية التي اقتضت بالسماح للحجاب في المؤسسات الحكومية والجامعية بتركيا فتحت المجال للاقتصاديين ذي التوجّه الإسلاميّ بالدخول في عالم الأزياء الإسلامية المحلية لمنافسة تلك الغربية التي اعتاد عليها المجتمع لسنين طويلة.
ولو تتبّعنا تاريخ الحجاب في تركيا، لوجدنا أنّ النظام العِلماني المتشدّد قام بإجراءاتٍ حقيقية لمنع الحجاب ووصمه بوصمة التخلف والرجعية، حتى أعلنت المحكمة الدستورية عام 1997 أنّ ارتداء الحجاب في الأماكن التعليمية يخالف المادة الثانية من الدستور الذي يقدّس السمة العلمانية للجمهورية التركية. نتيجةً لذلك، نحت تركيا لسنواتٍ عديدة منحىً غربيًا شاملًا في عالم الأزياء الغربية التي فُرضت حكوميًا أو عسكريًا على الأفراد نظرًا لمنع البديل الإسلاميّ. أمّا التغيّر الحقيقيّ الحاصل فكان بعدما تولّى “رجب طيّب أردوغان” الحكومة عام 2003، وقيامه عام 2008 بتعديلاتٍ دستورية تقتضي بالسماح للحجاب في المؤسسات الحكومية والجامعية، ما فتح المجال للاقتصاديين ذي التوجّه الإسلاميّ بالدخول في عالم الأزياء الإسلامية المحلية لمنافسة تلك الغربية التي اعتاد عليها المجتمع لسنين طويلة.
ما بين الهوية الفردية والهوية الإسلامية
يبقى السؤال لدينا إذن يدور حول الأسباب التي أدت إلى هذا النموّ السريع والتغيّر الحاصل في مدّةٍ لا تتعدّى العشر سنوات ربّما. نقطة مهمّة يمكننا الاستناد إليها، إذ بات العديد من جيل الألفية المسلمين يعتقدون أنّ إيماهم أو تديّنهم لا يجب أن يكون موضعًا للمساءلة والنقاش حين يتعلّق الأمر بالموضة والجَمال. وبالتالي، نشأت العديد من الأفكار الداعية لكسر الصورة النمطية عن الحجاب وتحدّيها كوسيلة للتعبير عن هويّتهم الفردية من جهة، والإسلامية من جهةٍ أخرى.
مع خفوت أوج الإسلام السياسيّ وحركاته، أخذ الحجاب أشكالًا مختلفة كثيرة، وانتقل من شكله الهويّاتيّ الإسلاميّ الحرَكيّ إلى شكلٍ أكثر فردانيةً مبنيّ على أسس الرأسمالية الحديثة ومبادئ التسويق وحبّ الظهور
ومن هنا، ظهر العديد من الأشكال المتنوعة للحجاب لتستوعب الهوية الفردية المختلفة عند كلّ فردٍ أو كلّ مجتمع. ولو عدنا إلى الوراء قليلًا، أيْ إلى ما قبل ثلاثين أو عشرين عامًا، لوجدنا أنّ الحجاب ارتبط ارتباطًا وثيقًا بالإسلام السياسيّ والحركات الإسلامية التي ظهرت للسطح واستمرّت لاحقًا. حتى أنّه أصبح لكلّ حركةٍ شكلًا معيّنًا من الحجاب تُعرف به وتعرّف نفسها من خلاله.
لاحقًا، ومع خفوت أوج الإسلام السياسيّ وحركاته، أخذ الحجاب أشكالًا مختلفة كثيرة، وانتقل من شكله الهويّاتيّ الإسلاميّ الحرَكيّ إلى شكلٍ أكثر فردانيةً مبنيّ على أسس الرأسمالية الحديثة ومبادئ التسويق وحبّ الظهور، فظهر الحجاب الأنيق والحجاب الرياضيّ والحجاب العمَليّ وغيرها الكثير من الأشكال التي لم تكن من قبل فجاءت لتواكب هذه الفترة التي تتسّم بالبحث عن هويّة فردانية متميّزة وخاصة لا تخضع لأيديولوجية أو أفكار قديمة.
هوية إسلامية معاصرة أم تقليدٌ للغرب؟
يجادل الباحث الاجتماعي السويسري “باتريك هايني” في كتابه “إسلام السوق“، والذي يناقش فيه العلاقة بين أنماط معيّنة من التديّن الإسلامي والأسس الفلسفية للسوق مثل النزعة الفردية والانفتاح والتخلّي عن السرديات الأيديولوجية الكبرى، أنّ الحجاب الإسلاميّ المعاصر لا يزال محكومًا بقوانين الأزياء التي يصدّرها ويعتمدها الغرب من ألوان وأطرزة وقوانين تتعلق بكلّ موسم. ويؤكّد “هايني” أنّ الحجاب في سياقه الاستهلاكيّ منصهرٌ بقيم السوق العالمية ومعاييرها ومحكوم بمبدأ موضة الأزياء والماركات التجارية.
الحجاب في سياقه الاستهلاكيّ منصهرٌ بقيم السوق العالمية ومعاييرها ومحكوم بمبدأ موضة الأزياء والماركات التجارية
للفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسيّ “جيل ليبوفيتسكي” تحليلًا اجتماعيًا مميّزًا عن ظهور الموضة وتصاعد أفقها في جميع طبقات المجتمع، بحيث أصبحت لجميع الطبقات بغض النظر عن وضعها الاقتصادي والمادي. إذ يرى ” ليبوفيتسكي” أنّ التنافس بين الطبقات ونزعة المظهرية هو ما أدّى إلى نشوء وتشكّل ظاهرة الموضة “الشاذة”. فكلما ابتكرت طبقة النبلاء أو الطبقة العليا في أي مرحلة تاريخية زيًا ما، سعت الطبقات الأقل منها لتقليده واستنزاله إلى طبقتها، وهو السلوك النابع من رغبة لاشعورية في الانتماء للطبقة الأعلى.
وبما أنّ الطبقات الأقل لا تستطيع في جميع الأحوال الاحتفاظ بتفاصيل وتكاليف الأزياء الباهظة بما لا يتناسب مع ميزانياتها وإمكانياتها المادية، فتجد نفسها تلجأ لتقليدٍ شبيه لكنّه مشوّه بعض الشيء، مما يدفع بالطبقة الأعلى للتخلي عن الزي وابتكار آخر جديد تتميز به، وهكذا يستمرّ التنافس ليبقى محصورًا في دائرة مغلقة.
أصبح الزيّ الإسلامي لا يرتبط بالهوية الإسلامية ولا حتى بالذوق الفرديّ أو الاجتماعيّ بقدر ما يتأثر بما يستهلكه الآخرون في العالم.
لكنّ الأهم من ذلك أنّ ليبوفيتسكي يرى أنّ ظاهرة الموضة بكلّ أشكالها ليست إلا تشويهًا للمقدّس ولقيم المجتمع وتقاليده التي اعتاد عليها فجاءت الموضة لتنسخها وتحوّلها تحت سياسات دور الأزياء والماركات العالمية ومزاجات المصمّمين. ولهذا، ربما نستطيع من خلال نظرية ” ليبوفيتسكي” هذه، الوصول إلى تفسيرٍ حقيقيّ للنهج الذي يتّبعه الحجاب الإسلاميّ في تبعيّته للموضة الغربية. فعوضًا عن حُكم قوى الرأسمالية والاستهلاكية، إلا أنّ ثمة نزعة تنتشر بين أوساط المسلمين بآخر صيحات الموضة العالمية والغربية، فتصبح ملابس المحجّبات نسخًا “مؤسلمة” لملابس غير المحجّبات.
حليمة عدن– أول عارضة أزياء محجّبة في أحد عروض الأزياء في مدينة ميلانو الإيطالية
وبالتالي، أصبح الزيّ الإسلامي لا يرتبط بالهوية الإسلامية ولا حتى بالذوق الفرديّ أو الاجتماعيّ بقدر ما يتأثر بما يستهلكه الآخرون في العالم. أي أنّ التداخل بين أذواق المستهلكين هو ما يحدّد ذوق المستهلك. وبكلماتٍ أخرى، أصبح الاستهلاك للزيّ الإسلاميّ قيمة اجتماعية؛ فالمحجّبة لا تستهلك ما تريده فحسب، وإنما تستهلك ما تجد جيرانها وزملاءها من غير المحجّبات يستهلكونه. ورجوعًا إلى دولةٍ مثل تركيا على سبيل المثال، حيث تتنوّع طبقات المجتمع وتتنوع أزياؤه، نرى أنّ ثمّة منافسة إسلامية، على قدر استقلاليّتها وسعيها للتفرّد، إلا أنها تبقى محكومة بقواعد الاستهلاك المحليّ من جهة والعالميّ من جهةٍ أخرى.
وليس خطأً إنْ قلنا أنّ الزيّ الإسلامي أو الحجاب قد أًصبح موضعًا للاستعراض الفرديّ، إذ يحاول كلُّ فردٍ من خلاله عرض ما لديه أمام من حوله مستثمرًا ذاته وشخصيته وأناه بطريقةٍ تكاد تتحول إلى النرجسية، وهو ما أسماه “ليبوفيتسكي” بمصطلح “الفردانية الجمالية”، أي أنّ الموضة تسمح باستقلال الأفراد فيما يتعلّق بمظاهرهم مقابل العديد من القيود الاجتماعية الأخرى، إذ أنّ هناك مساحةً لظهور الذوق الشخصي في عالمٍ تحكمه دور صناعة الأزياء ومصمّميها ومستثمريها. ولا أدلّ على ذلك من حسابات انستجرام ومواقع التواصل الاجتماعيّ الأخرى التي تعجّ بحسابات “الفاشونيستا” المحجّبات بشكلٍ متزايدٍ يومًا بعد يوم.