ينهار اليمن فيُمعن الرجل القوي في أبو ظبي محمد بن زايد في الإنكار، يستقبل بعضًا ممن أقعدتهم حربه هناك، وثمة قتلى يعودون إلى مطار أبو ظبي في توابيت تحرص سلطاته على عدم بث صورهم، بل على صور تُظهر الرجل قويًا متماسكًا، وهو يقلد بعض ضباطه أوسمة الشجاعة.
لا توجد كوليرا في بلاده، بل في اليمن الذي أصبح مهددًا بموجة ثالثة محتملة من هذا الوباء، وهو كما يقول مسؤولون أمميون نتيجة حرب يشنها الرجل وحليفه في الرياض، وقد طالت أكثر مما يجب، ويخسر فيها الجميع، وإن بدرجات متفاوتة، أما الخسارة الكبرى ففي اليمن حيث يتآكل كيان الدولة وتنهار مؤسساتها وتتراجع بشكل مريع قيمة العملة اليمينة، ما يعني تحول اليمن في نهاية المطاف إلى منطقة كوارث.
من يقف وراء انهيار العملة اليمنية؟ ولماذا؟
هذا السؤال فجرته تغريدات وزير في حكومة اليمن الشرعية الذي غرد بها ملمحًا إلى تحمل أبو ظبي مسؤولية إضعاف اقتصاد بلاده، وسط موجة غضب شعبي انفجرت في عدد من محافظات اليمن ضد الارتفاع المستمر لأسعار السلع الأساسية جراء تواصل تراجع الريال اليمني أما العملات الأجنبية ووصوله درك غير مسبوق.
الرئيس والحكومة هما المكونان السياديان اللذان بقيا من اليمن الواحد قبل الإنهيار والتشظي الذي تسعى له أطراف عدة على الأرض، حينما صمدت الحكومة في معركة يناير ثم أزمة سقطرى،تم دفع العُملة للانهيار والهدف إسقاط الحكومة ثم ابتزاز الرئيس لتشكيل حكومة تضفي على التشظي والانهيار صبغة رسمية
— Saleh Algabwani (@SAlgabwani) October 1, 2018
تلميح أشبه بتصريح وجهه وزير النقل اليمني صالح الجبواني، وقال في تغريدته: “انهيار العملة ليس نتيجة طبيعية لتفاعلات الاقتصاد وإنما هو أمر مقصود تقف وراءه جهة ما بهدف إسقاط الحكومة وابتزاز الرئيس”، لم يصرح الجبواني هذه المرة باسم تلك الجهة، لكنه قدم من القرائن ما هو أبلغ من التصريح في تحديد هويتها.
أولاً فيما يسميها معركة يناير، أي المحاولة الفاشلة لقوات الحزام الأمني والمجلس الانتقالي المدعوم جميعها إماراتيًا للسيطرة على مقار الحكومة اليمنية في عدن، وثانيًا خلال أزمة جزيرة سقطرى، حين حاولت قوات إماراتية الاستيلاء بالقوة على الأرخبيل اليمني، وفي كلتا الواقعتين تكرر اسم الإمارات، فأي مصلحة لها في إيذاء اقتصاد اليمن باستهداف عملة البلد؟
إذا كان اتهام الحوثيين تقليديًا في خطاب الحكومة اليمينة، فإن الإشارة إلى دور التحالف سلطت الدور بقوة على مفارقات تدخله المثير للجدل في اليمن
الهدف بحسب الوزير اليمني هو إسقاط الحكومة ثم ابتزاز الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي لتنصيب أخرى تُضفي صبغة رسمية على الانهيار والتشظي، وتلك كلمات خطيرة لا تنفصل عن تصريحات أخرى مناوئة لأبو ظبي، وجَّه فيها وزير النقل المقرب من الرئيس هادي إلى الحوثيين، وقبلهم ما وصفه بـ”الكيان الموازي” الذي فرضه التحالف السعودي الإماراتي للتنكيل بالريال اليمني.
لكن ما هو لافت أن يحمّل الجبواني في حديثه مسؤولية ذلك لطرفين، أحدهما تحالف الرياض أبو ظبي الذي تدخل عسكريًا تحت شعار عريض يقوم على ضرورة تخليص اليمن من الطرف الآخر، وهو الحوثيون، فإذا كان اتهام الحوثيين تقليديًا في خطاب الحكومة اليمينة، فإن الإشارة – على هذا المستوى – إلى دور التحالف سلطت الدور بقوة على مفارقات تدخله المثير للجدل في اليمن.
السبب في انهيار العملة سلطات الأمر الواقع النقلابية في صنعاء، والكيان الموازي للدولة المفروض بقوة السلاح الذي شكله طرف في التحالف ليحل محل الحكومة في عدن، من عجز عن إسقاط الحكومة بالسلاح يحاول إسقاطها بالدولار ليبدآ عصر المليشيات، الهجوم على الحكومة سهل للعاجزين عن رؤية الحقيقة
— Saleh Algabwani (@SAlgabwani) September 1, 2018
واللافت أكثر أن يسمي الوزير الأشياء بمسمياتها، أي تلك التي يحرص رئيس البلاد نفسه ورئيس حكومته على تجنب ذكرها صراحة، فثمة كيان موازٍ للدولة في عدن فرضه التحالف ليحل محل الحكومة الشرعية، يتحمل المسؤولية بنفس الدرجة التي يتحملها الحوثيون.
لكن لا يُعرف إن قالها الجبواني هذا من فرط تهور أم جرأة، وليس معروفًا ما إذا صدرت تعليقاته بإيعاز من الرئيس اليمني أو دونما تنسيق معه، وفي كل الأحوال تنتصر تلك التصريحات والسابق من مثيلاتها لحكومة اليمن الشرعية ذات الوضع الخاص في السعودية.
كيف تُفكك أبو ظبي دولة قائمة؟
ليس سؤالاً افتراضيًا هنا، بل وقائع تحدث، وفيها تُجوَّف السيادة، وتُستبدل المؤسسات الأمنية بأخرى، وهو ما حدث عبر استحداث أبو ظبي قوات الحزام الأمني وأشباهها في اليمن، ثم يُشكك في هوية البلاد ويُدمر اقتصادها، وهو ما يقول البعض إنه يحدث وبتسارع، فالريال اليمني ينهار، وتلك نتيجة طبيعية للحرب.
من مصلحة منظومة الإمارات إفقار البلاد وتفكيك نخبها القديمة بإظهارها عاجزة عن تقديم حلول عملية للمواطنين لتنتهي اللعبة بحل تريده أبو ظبي وفق مقاسها وشروطها
مؤخرًا تعدى الدولار حاجز الـ700 ريال يمني؛ أي أن قيمة طباعة الريال أصبحت أكبر بكثير من قيمته الفعلية، وهو ما يُترجم فقرًا في الشوارع وأمراضًا تفتك باليمنيين ونقصًا فادحًا في الخدمات، ما يعني إعادة البلاد إلى القرون الوسطى فعليًا لا رمزيًا، ومن مصلحة منظومة كهذه إفقار البلاد وتفكيك نخبها القديمة بإظهارها عاجزة عن تقديم حلول عملية للمواطنين لتنتهي اللعبة بحل تريده أبو ظبي وفق مقاسها وشروطها.
لكن لم لا تتدخل الرياض؟ يتساءل البعض مع استحضار ذلك التغيير المفاجئ في المسميات من “عاضفة الحزم” إلى “إعادة الأمل”، ويرى هؤلاء أن تضارب الأجندات بين الحليفين انتهي إلى تسيَّد أبو ظبي للمشهد، وللرجل المتنفذ هناك خطط لا يستقيم أن يكون اليمينون أقوياءً فيها، فهو يستقبل أحيانًا قيادات في الحكومة الشرعية، لكنه يقوم على الأرض بما يفككها.
تقف العملة اليمنية المتهاوية قيمتها بشكل حاد في سوق العملات على مشارف الانهيار
حتى الأموال التي قيل إن السعودية أودعتها في البنك المركزي لم تسهم في إنقاذ الريال، ما يفتح المجال لتأويلات يرى بعضها أن ثمة ما هو أكبر من الفساد ويحول دون تعافي الاقتصاد اليمني، ويذهب هؤلاء إلى أن اقتصادًا موازيًا يُستحدث، وهو يربط ما يُنفق بمن يدفع؛ أي بأبو ظبي التي تدفع رواتب القوات الأمنية الموازية التي أنشأتها، إضافة إلى تمويلها رجالات يُعتقد أنهم يُجهزون لقيادة اليمن لاحقًا.
ليست أزمة اقتصادية صرفة، فالبعدان السياسي والأمني نقرأها في سلوك التحالف السعودي الإماراتي، وحصاره البحري المستمر على بلد يستورد ثلاثة أرباع غذائه، فضلاً عن عدم تسليمه حكومة اليمن الشرعية موانئ تحت سيطرته لإعادة تشغيلها، ومنعه إعادة ضخ النفط والغاز وتسويقهما، كذلك منعه اليمنيين من الاستفادة من مواردهم الزراعية والسمكية.
تدخل السعودية مطلع العم الحاليّ فقط لتقديم وديعة متواضعة لم يُمكَّن البنك المركزي اليمني من استخدامها لدعم استقرار مقبول للريال اليمني
إحجام التحالف على مدى ثلاث سنوات عن دعم اقتصاد اليمن، ثم تدخل السعودية في مطلع العم الحاليّ فقط لتقديم وديعة متواضعة لم يُمكَّن البنك المركزي اليمني من استخدامها لدعم استقرار مقبول للريال اليمني، وكل تلك العوامل تعمق الشكوك في مسؤولية التحالف عن تداعي اقتصاد اليمن وانهيار عملته، وتدارُك الوضع – كما يرى خبراء – لن يتم في أجواء حرب ودسائس ولن يتأتى حتمًا من دون عودة الحكومة إلى الداخل اليمني وتمكينها من المال والموارد والسلطة.
تدهور العملة اليمنية عرضٌ لمرض
قصة تراجع الاقتصاد اليمني وهبوط العملة المحلية بدأت بعد انقلاب الحوثيين واستيلائهم على المنشآت المركزية في العاصمة صنعاء، ففي شهر سبتمبر من عام 2014 بدد الحوثيون حسب تصريحات أحمد بن دغر رئيس الوزراء اليمني ما يقرب من 5 مليارات دولار واستنزفوا احتياطي البنك المركزي في توسيع النفوذ وإشعال الحروب.
وقد كان متوقعًا أن يتهاوى سعر صرف الريال اليمني مقابل العملات الأجنبية بسبب حال البلاد التي تتوافر الحرب فيها للعام الرابع على التوالي، غير أن التراجع السريع للعملة المحلية مؤخرًا هو ما لم يتوقعه أحد، الريال اليمني أصبح مريضًا، بل مريضًا جدًا.
تقف العملة اليمنية المتهاوية قيمتها بشكل حاد في سوق العملات على مشارف الانهيار، وصار على المواطن اليمني الآن دفع أكثر من 700 ريال يمني لقاء دولار واحد، والحديث هنا عن تدني قياسي هو الخامس منذ اندلاع الحرب قبل أكثر من ثلاثة أعوام، حرب يقول موقع “ميديابار” الفرنسي أنها أعادت اليمن 100 عام إلى الوراء، فقد دمرت بنيته التحتية وعطلت خدماته وجلبت ويلات على اليمنيين، والآفاق لا تبعث بالضرورة على التفاؤل.
صار على المواطن اليمني الآن دفع أكثر من 700 ريال يمني لقاء دولار واحد، والحديث هنا عن تدني قياسي هو الخامس منذ اندلاع الحرب قبل أكثر من ثلاثة أعوام
تلك المحنة تستوي في مناطق سيطرة الحوثيين، وتلك الواقعة نظريًا تحت سلطة الحكومة اليمينة الشرعية، فانخفاض سعر العملة دفع الأسعار إلى الصعود، وقد يدفع البنك المركزي اليمين للتوقف مرة أخرى عن تغطية واردات وسلع أساسية، فالقمح والدواء الأرز والسكر تتأثر بها بشكل مباشر، فضلاً عن مادة الديزل الضرورية لمحطات الكهرباء، تتأثر بها بشكل مباشر.
وباستمرار تداعي عملة البلد تفاقمت أزمة المشتقات النفطية في عموم محافظاته، مما أثر على حياة الناس، أما ارتفاع أسعار السلع والخدمات الأساسية بشكل جنوني فينذر باتساع رقعة المهددين بالموت جوعًا، وينذر كذلك باتساع رقعة الاحتجاجات، فإلى الشارع حمل اليمنيون بجنوب البلاد سخطهم من التدهور السريع للعملة المحلية وتدني المستوى المعيشي، والقوا باللائمة على التحالف السعودي الإماراتي لخذلانه إياهم وتقاعسه عن دعم استقرار العملة وطالبوا برحيله، كما لاموا حكومتهم وطالبوا بإسقاطها.
وليس سرًا أن دائرة التململ آخذة في الاتساع يومًا بعد آخر؛ لتجسد مشاعر الاستياء المتزايد اشتداد الأزمة الاقتصادية وسياسات الحكومة اليمنية والتحالف السعودي الإماراتي على حد سواء، وثمة من يحمِّل حكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي المسؤولية الكاملة بسبب ما يرون أنه فساد غير مسبوق نشأ في ظلها، ولعلهم يشيرون إلى بذخ المسؤولين، وإلى مزاعم بتهريب العملة إلى مصارف خارج سلطة البنك المركزي، وقبلها إلى أخطاء في إدارة السياسة النقدية.
من يوقف تدهور الريال اليمني؟
لتعقيدات الحرب في اليمن وجوه كثيرة، فإلى جانب قتال على الجبهات لم تعد ثنائية الحوثيين والتحالف تكفي لاستيعاب أطرافه تقلباته، وإضافة إلى أوضاع إنسانية تحولت بشهادة الأمم المتحدة إلى “كارثة” قل نظيرها، تواصل العملة اليمنية قفزتها إلى الواجهة بتدهور غير مسبوق في أسعار صرفها بعد أن دفعت بها أطراف الحرب إلى مصير مجهول.
ارتفاع أسعار السلع والخدمات الأساسية بشكل جنوني ينذر باتساع رقعة المهددين بالموت جوعًا
ليس سرًا أن حكومة أبو ظبي تعمل في غفلة من الرياض أو تواطؤ منها على تقويض سلطتها في المحافظات التي أُخرجت من سلطة الحوثيين، وربما اتَّضح أمام نظر كل يمني الآن أن لقطبي التحالف أطماع في بلده لا تتناغم مع الأسباب المعلنة للتدخل العسكري هناك عام 2015.
لكن ما ليس واضحًا تمامًا هو إضعاف حكومة يمنية لا يزال التحالف في حاجة إليها على الأقل كغطاء لوجوده في اليمن، لذا يسأل متابعون للمشهد، هل أصبحت حكومة هادي عبئًا ينبغي التخف منه؟ وما البديل المطروح؟ وغيرهم يسأل: ألا يبالي الساعون لإقصاء هادي مفاقمة عذابات شعبه من جراء الحرب وتهاوي الاقتصاد؟
أي فشل قد يدفع سعر الدولار الواحد ليبلغ ألف ريال يمني في نهاية العام الحاليّ إذا لم تتخذ الحكومة خطوات حاسمة
أيًا كان مفتعل الأزمة فقد نجح في جر الريال اليمني إلى أدنى مستوياته أمام العملات الأجنبية منذ أعوام، ولذلك ثمن يدفعه اليمنيون الذين أخرجهم تردي الأوضاع الاقتصادية إلى شوارع محافظات يمينة عدة، أُخرج أغلبها من سيطرة الحوثي ولم يُخرج من أسر أجندات تروم التمدد والنفوذ والاستئثار بخيرات اليمن.
أدرك هؤلاء مسبقًا انحراف التحالف السعودي الإماراتي عن أهداف عاصفة حزمه، وفهموا الآن – كما يبدو – أن الأزمة الاقتصادية التي تخنقهم أشبه بعقاب جماعي ممن قوبلت سياساتهم برفض شعبي ورسمي، لكل ذلك لن يُنزِّه السلطات الشعبية بأي حال عن المساءلة الشعبية، فإن لم يكن لافتقارها لسياسات اقتصادية ناجعة، فلتغاضيها – كما تُتهم – عن الفساد.
وفي كل الأحوال، يرى خبراء أن وقف الحرب سيكون مدخلاً مهمًا لإعادة إنعاش سعر الريال والاقتصاد عمومًا، وبعسكه لا بد من العمل بقوة لاستئناف تصدير النفط، والسماح للبنك المركزي للعمل باستقلالية بعيدًا عن الصراع السياسي كما تقول وزارة التخطيط، فأي فشل في هذا السياق قد يدفع سعر الدولار الواحد ليبلغ ألف ريال يمني في نهاية العام الحاليّ إذا لم تتخذ خطوات حاسمة بحسب المتخصصين.