على مدى السنوات القليلة الماضية، أصبح العديد من الآباء ممّن ينتمون لجيل الألفية يبحثون عن خياراتٍ بديلة لتعليم أطفالهم بعيدًا عن الأساليب التقليدية التي تتمحور جميعها حول المدارس والمؤسسات التعليمية الأخرى. ومن هنا، ظهرت العديد من النظريات والأبحاث التي تدعم التعليم المنزلي والتعليم على الطريق “Roadschooling”.
إذ تقوم العديد من العائلات بمواصلة تعليم أطفالها أثناء قضائهم لإجازةٍ ما، في حين أنّ عائلاتٍ أخرى تأخذ الأمر إلى حدٍ أقصى وتسافر حول العالم برفقة أطفالها لتعليمهم من خلال السفر والترحال والتجارب التي قد يمرّون بها. فانطلاقًا من رغبتهم في قضاء وقتٍ أطول مع أطفالهم، يميل العديد من الآباء للهرب من ضغوطات العمل ورتابة الحياة اليومية عن طريق السفر واكتشاف أنماط جديدة للحياة والاحتكاك بالثقافات المختلفة والمتنوعة حول العالم على حساب استقرارهم من جهة، ومدارس أطفالهم من جهةٍ أخرى.
يقدّم السفر فرصةً كبيرة لتعرّض طفلك للأصوات والإيقاعات والأنماط المختلفة من حوله
ولعلّ هذا الميل جاء كنتيجةٍ أو جنبًا إلى جنب مع إيمان هؤلاء الآباء بالتعليم المنزليّ وتفضيله على المدارس وأساليب التعليم التقليدية. فعندما يتعلّق الأمر بهذا الشكل من التعليم، هناك مجموعة متنوعة من الأسباب التي تجعل بعض الآباء يفضّلون إخراج أطفالهم من المدارس التقليدية والتركيز على الأشكال البديلة؛ مثل أنّ احتياجات أطفالهم الخاصة لا تتم معالجتها والتعامل معها في الأنظمة الكبيرة، أو أنهم لا يرغبون بأن يخضع أطفالهم لقولبة وتأطير المدارس، أو مدّهم بالعديد من المهارات الحياتية التي تعجز المدارس العادية عن مدّهم بها.
في الواقع، قد يكون السفر واحدًا من أهمّ النشاطات التعليمية والتثقيفية بطرقٍ عديدة لا حصر لها. كما أنّ الذهاب برحلاتٍ عائلية برفقة الأطفال هو بلا شكّ أحد أهم أنشطة الأبوّة والأمومة التي يمكن القيام بها على الإطلاق، لا سيّما إنْ عرف الوالدان استغلالها جيّدًا والخروج منها بأكبر فائدةٍ من الممكن أنْ تعود عليهما وعلى أطفالهما.
علميًا.. كيف يدعم السفر قدرات طفلك؟
يمكن أنْ نفهمَ دور السفر وتأثيره على الأطفال من خلال اللجوء إلى فهم كلٍّ من “نظام البحث seeking system” و”نظام اللعب playing system” في الدماغ واللذين يلعبان دورًا كبيرًا في طريقة تفكيرنا وبحثنا وتعاملنا مع الأمور في الحياة. فأنتَ حينما تقدّم لطفلك تجربةً جديدة أو تأخذه في رحلةٍ ما، فأنتَ تدعم حافز الاستكشاف عنده تمامًا كما تدعم قدرته على اللعب.
حينما تقدّم لطفلك تجربةً جديدة أو تأخذه في رحلةٍ ما، فأنتَ تدعم حافز الاستكشاف عنده تمامًا كما تدعم قدرته على اللعب.
من وجهة نظر تطوّرية، فكلا النظامين كانا دومًا ضرورةً للبقاء والاستمرار على قيد الحياة. فقبل التغيير السريع الحاصل في نمط حياتنا المعاصر، عمل النظامان كمحفّز للبحث عن الطعام والمأوى والحماية من جهة، وللبحث عن الفهم والانخراط في التجارب التي يقدّمها لنا العالم من جهةٍ ثانية.
لكن في الوقت الحاضر، من الممكن أنْ نستيقظ كلّ يومٍ دون أنْ نفعلَ شيئًا لأجل البقاء أو التفكير بضرورة فهم الحياة والانخراط فيها للاستمرار. ولو نظرنا إلى ما يمكن لطفلٍ فعله في يومنا هذا، لوجدنا أنّ معظم نشاطاته وتجاربه تتراوح ما بين الطعام والتلفاز واللعب والأجهزة الذكية. لذلك، سعت العديد من الأبحاث لدراسة نمط الحياة العصريّ هذا على عقولنا البشريّة.
يؤدي السفر إلى تشجيع وتنشيط مهارات الاستكشاف ويقدّم تحدياتٍ جديدة تعمل على تنشيط نظام البحث في الدماغ
تخبرنا تلك الأبحاث أنّ الدماغ يعمل على إطلاق العديد من المواد الكيميائية بما في ذلك المواد الأفيونية والأوكسيتوسين والدوبامين خلال أنظمة الاستكشاف والتعلّم التي يقوم بها، والتي بدورها تؤدي إلى إلى تنشيط وتنسيق وظائف العديد من مناطق الدماغ العليا التي ترتبط بالتخطيط والبصيرة والنظر بالعواقب وتحفيز الاستكشاف.
يعمل الدماغ على إطلاق العديد من المواد الكيميائية بما في ذلك المواد الأفيونية والأوكسيتوسين والدوبامين خلال أنظمة الاستكشاف والتعلّم التي يقوم بها
تخيل الآن طفلًا صغيرًا في بيئة مليئة بالأشياء الجديدة، أو غابة ملأى بالأشجار التي يمكن تسلّقها، أو رحلة تخييم لم يقم بها من قبل. إنّ التعرّض لمثل هذه التجارب بشكلٍ منتظم يؤدي إلى تشجيع وتنشيط مهارات الاستكشاف ويقدّم تحدياتٍ جديدة تعمل بدورها على تنشيط نظام البحث. وكلما ازداد تعرّض الدماغ لهذه التجارب، أصبحت قدراته أكثر مرونةً وفعاليةً. وقد أظهرت العديد من البحوث القائمة على الدماغ والسلوكيات مدى فائدة البيئات الغنية في تنمية الطفل ونموّه.
كما أنّ تجارب الأطفال في سنٍّ مبكّرة سيكون لها تأثير دائم على كيفية تعاملهم مع الحياة في مرحلة البلوغ. وما هو مذهلٌ بالنظامين هذين أنهما يشبهان العضلات، كلما استخدمها الشخص أكثر أصبحا جزءًا أصيلًا من شخصيته. والطفل الذي يخلو من التفاعلات الغنية التي تثير فضوله وتلهم رغبته في فهم العالم، يصل لمرحلةٍ يصبح نظام البحث لديه خاملًا ويفتقر إلى الحافز.
أما الطفل الذي عايش بيئات ثريّة كانت مليئة بالتحديات والتجارب المتنوعة والمختلفة اجتماعيًا وثقافيًا وعاطفيًا ومعرفيًا، سيكون أمامه فرصة أكبر في مرحلة الرشد والبلوغ على ترجمة هذا كلّه إلى القدرة على التعامل مع الأفكار ببصيرةٍ ونفاذ لاستكشافها وفهمها ومن ثمّ استخدامها بما يفيده ويغذّي حياته.
ما الذي يقدّمه السفر لطفلك؟
يعدّ السفر فرصةً مهمّة لتعليم الأطفال عن الاختلافات الموجودة في العالم من حولهم والتعامل معها بأريحية وسلاسة دون خوفٍ أو توتّر. فحين يحتكّ الطفل بالثقافات والأنواع المختلفة من الناس ويسمع العديد من اللغات واللهجات الأخرى، يصبح مدركًا لمدى اختلاف العالم وتنوّعه، الأمر الذي يغذّي دماغه ويمدّه بقدرةٍ أكبر على تقبّل الاختلاف واستيعاب وجهات النظر المختلفة والمتناقضة ويوسّع مداركه بالتعامل معها.
يتيح السفر للأطفال الاحتكاك مع المواقف المتغيرة ما يتطلّب منهم تعلّم التكيف والتعامل بمرونةٍ عالية معها
كما يقدّم السفر فرصةً كبيرة لتعرّض طفلك للأصوات والإيقاعات والأنماط المختلفة من حوله. وحتى إنْ كانت مدة سفره لا تكفي لأنْ يكتسب لغةً أخرى، والتي تستغرق عادةً ستة أشهر أو أكثر، فإنّ دماغه سيصبح أكثر حساسيةً لهذه الفروق الدقيقة التي من الممكن أنْ تسهّل عليه تعلّمه للغة لاحقًا.
لكن، وعلى الرغم من فوائد السفر التي ذكرناها وغيرها مما لم نذكر، يبقى سؤال “هل من الحكمة إخراج الأطفال من المدرسة للسفر ورؤية العالم؟” يلحّ على الكثير من الآباء. ففي حين أنّ هناك من يرى أنّ الحياة هي أكبر معلّم للطفل وأنّ المدرسة ليست سوى وسيلة لقولبتهم وتأطيرهم، ثمّة مَن يرى أنّ هذا النهج محفوف بالمخاوف واحتمالات الفشل، لا سيّما وأنه يخضع لمزاجية الآباء وقراراتهم التي قد تصبّ بالنهاية في صالح أنانيّتهم ورغباتهم دون الاكتراث برغبات الطفل وخياراته.