مدينة غزة القديمة، كونها تعد من أقدم مدن العالم، وضاربة في عمق التاريخ والحضارة، فلا بد من الاستدلال بعدة شواهد تؤرخ هذه المدينة وتشير إلى قدمها على مستوى العالم.
فكل شارع من شوارع هذه المدينة يروي حكايات وقصص لتعاقب الأمم وصراعها على احتلال الأرض الفلسطينية عبر بوابة غزة على مدى التاريخ، التي تتميز بموقعها الجغرافي، كونها حلقة وصل بين 3 قارات آسيا وإفريقيا وكذلك أوروبا عبر المنفذ البحري، الأمر الذي جعلها محطة لأطماع الغزاة عبر التاريخ.
في وسط مدينة غزة، يوجد موقعان أثريان يجاوران بعضهما لم يشهد العالم بناء يسبق مباني هاتين المنطقتين، التي تؤرخ لوجود تجمعات بشرية بهذه المدينة قبل آلاف السنوات، ولكل موقع منهما حكاية تختلف عن الأخرى تروي نشأة أولى الحضارات في العالم.
مواقع تل السّكن الأثري وسط غزة
بُني تل السكن على مساحة قدرها 90 دونمًا، واكتشفت هذه المنطقة خلال أعمال حفريات لسلطة الأراضي الفلسطينية في مدينة الزهراء وسط قطاع غزة، من أجل بناء أول جامعة وكلية بعد أول حكم ذاتي للفلسطينيين على أرضهم في نهاية التسعينيات من القرن الماضي، إلا أن اكتشافهم لموقع تل السكن الذي بُني تحت الأرض بتصاميم هندسية رائعة منذ آلاف السنوات جعلها تستنكف بناءها في هذا المكان.
جاءت تسمية تل السكن بهذا الاسم نظرًا لأنه بُني من كثبان رملية محروقة من الطين المحروق المسماة بـ”الصلصال”، حيث تُسمى بقايا الحروق في بلاد الشام بـ”السكن”
أما موقع تل العجول الموجود على مساحة قدرها 30 فدانًا ويبعد عن موقع تل السكن بكيلومترين، كان عاصمة لأقدم الإمبراطوريات على الأرض، ولا سيما موقعه المميز الذي يطل على وادي غزة الذي يدر عليهم ينابيع من المياه العذبة، وتربته من أكثر أنواع التربة خصوبة في فلسطين، بما يخص منطقة وادي غزة ومحيطها.
إلى ذلك، جاء تسمية تل السكن بهذا الاسم نظرًا لأنه بُني من كثبان رملية محروقة من الطين المحروق المسماة بـ”الصلصال”، حيث تُسمى بقايا الحروق في بلاد الشام بـ”السكن”. أما تل العجول فيُقال بأن تسميته جاءت من وجود عجلًا ذهبي اللون طوله 7 أمتار وارتفاعه 6 أمتار عام 1931 خلال الاحتلال البريطاني لفلسطين، وله قرنان صغيران بحجم كف اليد، وقد رجح المؤرخون الإسلاميون أنه يعود لزمن السامري في عهد سيدنا موسى الذي جعل بني إسرائيل يعبدون عجلًا بعد غياب موسى عنهم لمدة 40 يومًا، بينما أكد مؤرخون آخرون أن ما وُجد هو أحد الآلهة التي كان يعبدها الكنعانيون، ونُقلت إلى أحد المتاحف بمدينة إسطنبول في تركيا.
شواهد على عمق التاريخ
يقول مؤرخ التاريخ الفلسطيني الدكتور غسان وشاح في حوار مع “نون بوست”، إن تل السكن مدينة كنعانية بامتياز وعمرها يتراوح لأكثر من 5500 عام، وقد بُنيت قبل الأهرامات بـ1200 عام، 3500 قبل الميلاد، وحتى الآن يعد هذا الموقع البناء المعماري الأقدم في العالم.
تل العجول وسط غزة
ويضيف وشاح إلى أن موقع تل العجول الذي أنشأه الكنعانيون أيضًا بجانب ضفاف مياه وادي غزة المعروفة بأن مياهها الأكثر عذوبة في فلسطين، وكان موقع تل العجول في زمانهم معبدًا، إضافة إلى مكان يختص بالمزروعات التي تغذي مملكتهم في تل السكن، بالإضافة إلى كل المدن الكنعانية الأخرى في عدة مناطق من فلسطين. وأوضح وشاح بأن موقع تل السكن كان حلقة وصل بين أرض فلسطين وأرض مصر، مرورًا إلى زمان النبي يوسف قبل أن ينتقل لمصر ويصبح ملكها.
مضيفًا: “بعد سيطرة الهكسوس على بلاد الشام وفلسطين 1700 قبل الميلاد، اتخذوا من موقع تل السكن مسرحًا للعمليات العسكرية في حروبهم ضد الفراعنة، بينما بقي تل العجول ملجأ ومعبدًا لهم، واتخذوا منها عاصمة لمملكتهم”.
تناوبت الأمم المختلفة على احتلال الأرض الفلسطينية عبر بوابة غزة وبشكل خاص من موقعي تل السكن وتل العجول
وبحسب ما أفاد المؤرخ الفلسطيني الدكتور سليم المبيض في حوار مع لـ”نون بوست”، فأن الهكسوس أول من طوروا أنفسهم في مجال القدرات العسكرية، فهم أول من أدخلوا العربات التي يجرها حيوان لمصر، وهم أول من حارب المصريين بالرماح والأقواس والسهام، وقد وُجدت عدة أدوات عسكرية مما تم ذكره في موقع تل السكن خلال أعمال الحفريات التي استمرت من عام 1998 حتى أواخر 2017.
شواهد على صراع الأمم وتعاقبها على احتلال فلسطين عبر التاريخ
يقول المؤرخان، إن الأمم المختلفة على احتلال الأرض الفلسطينية بعدها عبر بوابة غزة وبشكل خاص من موقعي تل السكن وتل العجول، فبعد أن احتلها الهكسوس تم طردهم مرة أخرى من مصر وفلسطين بعدما استعاد الفراعنة مقراتهم المحتلة، وصولًا لموقعي تل السكن وتل العجول، اللذين كانا ميدانًا لراحة المقاتلين حينها، منذ 1500 سنة قبل الميلاد.
وفي القرن الـ3 ميلادي، سيطرت الإمبراطورية الرومانية فيما بعد على هذه المنطقة، وقام القساوسة الفلسطينيون الأصل بتحويل هذه المنطقة لمقر تعليمي لهم وتوسيع نطاقها وصولًا لمخيم النصيرات وسط قطاع غزة، تحت إمارة القسيس الفلسطيني “هيلاريون”، وهو أول راهب فلسطيني وأول من أسس الكنائس في قطاع غزة، وما زالت كنيسته الأولى التي بُنيت قبل 1800 عام في منطقة قريبة من تل السكن شاهدة على تاريخ المسيحيين في فلسطين.
عام 362 قام الإمبراطور الروماني جوليان الذي ارتد عن دينه المسيحي، بالسيطرة على قطاع غزة وحاصر محيط موقع تل السكن وتل العجول لإغلاق الطرق المؤدية لكنيسة القديس “هيلاريون” الذي دُفن فيها بعد وفاته بقبرص، حيث نقل القساوسة جثمانه من قبرص ليدفن في وطنه وبيته الذي ترعرع فيه وحولها لمعبد للمسيحيين.
سيطر العثمانيون على فلسطين، واستمر حكمهم لأكثر من 500 عام، ودارت في موقعي تل السكن وتل العجول عدة معارك بين العثمانيين وقوات الحلفاء، في أعقاب الحرب العالمية الأولى
وفي القرن الـ6 دارت معركة في هذه المنطقة بين المسلمين بقيادة صلاح الدين الأيوبي، والصليبيين بقيادة ريتشارد قلب الأسد، ثم عاد الصليبيون للسيطرة مجددًا على فلسطين، وتم طردهم مجددًا من المصريين في معركة سميت بـ”غزة الكبرى” عام 1244، وكان موقع تل العجول مركز تحصن قوات الصليبيين ومركز قواتهم وما زالت جثامينهم تحتضنها هذه الأرض حتى الآن.
ثم سيطر العثمانيون بعد ذلك على فلسطين، واستمر حكمهم لأكثر من 500 عام، ودارت في موقعي تل السكن وتل العجول عدة معارك بين العثمانيين وقوات الحلفاء، في أعقاب الحرب العالمية الأولى.
وبعد الانتداب البريطاني على فلسطين حاول الإنجليز وضع نقطة عسكرية لهم في وادي غزة يفصل غزة لقسمين، وخلال أعمال حفريات لهم في منطقة تل العجول عام 1931، اكتشفوا تمثالًا اختلف المؤرخون بحقيقته، وقام الثوار العرب حينها بالهجوم على الموقع ومصادرة التمثال ليتم تهريبه لتركيا، لكيلا يدعي اليهود فيما بعد بأن وجود تمثال كهذا يؤرخ أحقيتهم بفلسطين، كما يوضح المؤرخ وشاح.
وبحسب ما أوضح المؤرخ وشاح، وقف عالم الآثار البريطاني إسلندر بتري في موضع استخراج التمثال الكبير وقال “نحن الآن نقف على موطن الهكسوس الأول في بلاد العرب”، وهو الأثر الوحيد حتى الآن للهكسوس.
وبعد النكبة الفلسطينية وحرب 1948 سيطرت مصر على قطاع غزة، وتجددت المواجهات مرة أخرى في 1953، وكان المصريون قد أنشأوا نقطة عسكرية لهم على تل العجول، وارتكبت قوات الاحتلال الاسرائيلي بحقهم مذبحة راح ضحيتها 36 جنديًا مصريًا، ومنذ ذلك الوقت أُنشأ مفترق طرق على هذه المنطقة سُمي بمفترق الشهداء قريب من وادي غزة، وتجددت المعركة مرة أخرى بهذه المنطقة وانتهت بخروج المصريين من قطاع غزة على إثر حرب 1967.
أواخر 2017 قامت حركة حماس التي تسيطر على قطاع غزة منذ عام 2007 بأعمال تجريف لمنطقة تل السكن بهدف إقامة مشاريع حزبية لها، الذي قوبل باستنكار شعبي وفصائلي على المستوى المحلي والوطني
وقسمت “إسرائيل” بعد ذلك قطاع غزة لنصفين فصلت شمالها عن جنوبها من خلال إقامتها لأكبر مستوطنة في تاريخها بالقرب من منطقة تل العجول ومنطقة تل السكن، عرفت باسم مستوطنة “نتساريم” استمرت لمدة 35 عامًا، حتى جاءت السلطة الفلسطينية عام 1994، وأقامت مشاريعها بهذه المنطقة، وخلال أعمال البناء والتجريف عُثر على منطقة تل السكن مدفونة تحت الأرض بـ6 أمتار بصورة تُظهر فن الحضارة المعمارية للكنعانيين.
وخلال أواخر 2017، قامت آليات تابعة لجهات حكومية بأعمال تجريف لمنطقة تل السكن بهدف إقامة مشاريع سكنية، الأمر الذي قوبل باستنكار شعبي وفصائلي على المستوى المحلي والوطني، واستنكار أممي أيضًا، حيث أرسلت فرنسا بعثة دبلوماسية للتنقيب عن آثار تل السكن، مما أعاد قضيتها إلى السطح من جديد.
إلى ذلك، يقول السيد فضل العطل المكلف بالتنقيب عن آثار غزة من وزارة الآثار الفرنسية بأنهم وجدوا آثارًا قديمة في تل السكن تعود لـ3500 عام، من أواني فخارية ومنتجات حربية كانت تستخدم في الحروب، وكذلك أكوام من حجارة الحصى المتراكمة التي كانت تستخدم في الرماية، مشيرًا إلى أن ما تم التنقيب عنه حتى الآن جزء صغير لا يزيد على 20% من مساحة تل السكن، حيث يحتوي المكان على كنوز تراثية إذا ما تم السماح للجهات المعنية بالتنقيب عنه.