قبل قرابة عام لم يكن العالم يدرك أنه على أعتاب واقع ستسوده المجازر، ولم يكن الموت حدثًا عاديًا وظاهرة يومية معيشة. فلم تجد “إسرائيل” خيارات صعبة أمامها وهي التي اعتادت قتل الفلسطينيين. كان 7 أكتوبر/تشرين الأول ذريعة مناسبة لها لتتبنى خطاب الضحية لغايات تشريع الإبادة، ولم تتوان الولايات المتحدة الأمريكية عن تسيير بوارجها الحربية لحليفتها دون أدنى اعتبار لحياة المدنيين الفلسطينيين.
وأصبحت أسلحة الولايات المتحدة الأمريكية الأكثر استخدامًا في يد “إسرائيل”، بعد أن اتجهت بعض دول الاتحاد الأوروبي لتعليق تصدير الأسلحة كألمانيا، فيما علقت بريطانيا تصدير بعض الأسلحة، خوفًا من تورطهما في انتهاك القانون الدولي والإنساني.
وبرهن القتل المكثف بالأسلحة الأمريكية وغيرها بصورة واضحة على انتهاك “إسرائيل” للقانون الدولي، فيما لم تصدر المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية مذكرات اعتقال تقضي باعتقال المتورطين في جرائم الحرب من حكومة اليمين المتطرف الإسرائيلية حتى الآن، رغم توافر ما يكفي من الأدلة، ما يدلل على تواطؤ المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية كأكبر دولة عظمى داعمة لـ”إسرائيل” في حرب الإبادة.
وبالتالي فإن الدعم الأمريكي المطلق للاحتلال الإسرائيلي في الأسلحة انعكس على مشهدية الموت في استهدافات الاحتلال الإسرائيلي للمدنيين بكل الأماكن، حتى أصبحت المجزرة حدثًا يمكن وقوعه في المستشفى والمدرسة والشارع والمنازل وفي خيام النازحين، في ظل غياب أي قانون يحمي المدنيين العزل، وخروج القانون الدولي عن العمل فيما يتعلق بردع “إسرائيل”.
وطرحت الكثافة في القتل التي أفرزها الدعم الأمريكي المفتوح والسادية الإسرائيلية صورًا للموت في إطار الإبادة الجماعية وصل حد تبخر الأجساد وتحولها إلى أشلاء، إذ أصبح تعداد الشهداء يتجاوز العشرات في اليوم الواحد.
يتتبع هذا التقرير عواقب وضع الأسلحة الأمريكية تحت سلطة الكيان الإسرائيلي وانعكاس ذلك على صورة الموت في واقع الحرب الراهنة، ومبادرات التواطؤ الأمريكي للدفع باستمرارية الإبادة الجماعية.
فيتو وأسلحة قاتلة
عقب 7 أكتوبر/تشرين الأول دعمت الولايات المتحدة تصوير الفلسطينيين كخطر على الإسرائيليين، ولم تعبأ بمشاهد القتل الجماعي والمجازر وإنما دفعت بالمزيد من الأسلحة وسمحت باستمرار القتل.
وكان حق النقض “الفيتو” الذي استخدمته أكثر من مرة في مجلس الأمن لإحباط أي قرار يهدف إلى وقف إطلاق النار في غزة، الباب الذي شرَّعت من خلاله استمرار الحرب وتجريب أسلحتها التي سلطتها “إسرائيل” بشراسة على المدنيين في القطاع الذي تبلغ مساحته 360 كيلومترًا مربعًا.
ووفقًا لآخر التقارير الصادرة عن المكتب الإعلامي الحكومي في غزة مطلع سبتمبر/أيلول، فإن جيش الاحتلال الإسرائيلي ألقى 83 طنًا من المتفجرات على القطاع، ما يعود بنا لما صرح به وزير التراث الإسرائيلي المتطرف عميحاي إلياهو في بداية حرب الإبادة بضرورة إلقاء قنبلة نووية على القطاع، ومسحه من الوجود، هذا فضلًا عن تصريحه بضرورة “إيجاد طرق مؤلمة أكثر من الموت” لإذلال الفلسطينيين وتهجيرهم.
باتت هذه التصريحات تلتقي مع الجرائم الإسرائيلية المنعكسة على الواقع فيما يتعلق بتدمير بيوت الفلسطينيين وقتلهم وتعذيبهم وتعريتهم، ونشر ذلك على وسائل التواصل الاجتماعي تعبيرًا عن الشعور بالتلذذ في الإجرام، ما أصبح يلقي الضوء على السادية الإسرائيلية المدعومة أمريكيًا بالأسلحة في تأييد واضح لإشباع غريزة قتل وإهانة الفلسطينيين.
ودعمت الولايات المتحدة مشهدية القتل الجماعي للفلسطينيين بتزويد “إسرائيل” بالأسلحة المدمرة، إذ يعد حجم الأسلحة التي اشترتها “إسرائيل” منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول “الأعلى على الإطلاق” وبلغت 11 مليار دولار، وتشمل تزويد “إسرائيل” بعدة أسلحة منها: سرب من طائرات F-35، ومحركات دبابات، ومركبات مدرعة، ومركبات قتالية، كما سبق وأفاد مسؤول أمريكي بأن تدمير قطاع غزة اعتمد على قنابل متطوّرة أمريكية الصنع من طراز “GBU-39″، وطلبت “إسرائيل” أسلحة صغيرة وذخائر ومدافع مورتر وقذائف دبابات عيار 122 ملم، بالإضافة إلى صواريخ “تامير” وقنابل “جدام” ذات التدمير الواسع، وغيرها الكثير من أنواع المتفجرات والأسلحة.
ألقت إسرائيل قنابل على المدنيين صممت للمساحات الواسعة، واستخدمت تكتيكات قتالية تعتمد على الذكاء الاصطناعي أدت بدورها إلى التشنيع في قتل المدنيين، فضلًا عن قدرتها التدميرية المخيفة للأماكن، فيما قالت الولايات المتحدة إنها لم تر أدلة كافية على انتهاك “إسرائيل” لاستخدام الأسلحة، وهو ما زاد من نفوذ الأخيرة بإعطائها الحصانة والسلطة في القتل واعتبارها فوق القانون.
أشلاء متبخرة ومقابر جماعية
حمل الموت في واقع الفلسطينيين منذ الاحتلال الإسرائيلي معنى الشهادة في سبيل الدفاع عن النفس والأرض، فيما اتخذت الحروب التي شنتها “إسرائيل” مسبقًا على المدنيين الفلسطينيين شكلًا مختلفًا عن هذه الحرب الراهنة، ذلك أن وتيرة القتل كانت عادةً ما تكون أقل في إطار زمني محدد، إذ تعد حرب “العصف المأكول” عام 2014 هي الأطول قبل هذه الحرب، والتي استمرت 51 يومًا.
ودفاعًا عن الأرض حمل الموت معنى مقدسًا ولم يكن حدثًا عاديًا، إذ تحمل مراسم تشييع جثمان الشهداء عادةً رسالة للاحتلال الإسرائيلي مفادها استمرار المقاومة، وأن الجسد في حالة الموت يصبح رسالة لاستمرار مقاومة المحتل، وهو ما دفع الاحتلال إلى احتجاز جثامين الشهداء متى أمكنه ذلك.
فيما جاء العدوان الإسرائيلي الحاليّ على القطاع ليقضي على قدسية الموت وتدنيس قدسية الشهادة، وذلك بالتنكيل بالشهداء وتجريف المقابر ونصب المقابر الجماعية وقتل الفلسطينيين بشكل متعمد وجماعي، بهدف تصفية الفلسطينيين والنيل من عزيمتهم ودفعهم إلى التهجير وتحقيق المخططات الصهيونية الرامية إلى السيطرة على باقي جغرافيا فلسطين.
يدرك الكيان الإسرائيلي أن تبديد قيمة الموت والتشنيع في القتل واستهداف المدنيين سيحقق له أهدافًا ترتبط بقتل عزيمة من تبقى على قيد الحياة، ولأن للولايات المتحدة الأمريكية وجهًا آخر للاستعمار في المنطقة دفعت بأسلحتها إلى “إسرائيل” وهي تدرك النتائج المترتبة على استخدامها ضد الفلسطينيين.
نتيجة هذه السياسة المشتركة لكل من الولايات المتحدة الأمريكية و”إسرائيل”، فقد قامت الأسلحة الأمريكية بتغيير مشهدية الموت بالفعل، حتى أصبح القتل الجماعي على صورة مجازر يروي قتامة المشهد، وانتقل الموت من الشكل الفردي والمحدود إلى الجماعي الذي يصعب حصره، ما أصبح متمثلًا في المقابر الجماعية، حتى إن الدفن داخل المستشفيات والمدارس بات خيارًا للغزيين في ظل تحول كل شبر من الأرض إلى مقابر.
ما يثبت أن الأمريكيين والإسرائيليين جعلا غزة معقلًا لتجربة أسلحة الدمار الشامل الخاصة بهما والمحرمة دوليًا، إذ ثبت بعد النظر لطبيعة الجثث التي تخرج من تحت الأنقاض أن “إسرائيل” في حربها على القطاع تستخدم 4 أنواع من الذخائر المحرمة دوليًا وهي: ذخائر الفسفور والذخائر الانشطارية والفراغية (الحرارية) واليورانيوم المنضب، وهو ما لا تكتفي بتصنيعه في مصانعها وإنما تزودها به الولايات المتحدة الأمريكية.
وسبق وأن أثار تبخر جثث الشهداء تساؤلات عن استخدام “إسرائيل” للقنابل الفراغية (الحرارية) التي تعد الأكثر خطورة بعد القنابل النووية، فبحسب الناطق باسم الدفاع المدني بغزة الرائد، محمود بصل، فإن المقابر الجماعية التي اكتشفت في مجمع ناصر الطبي دللت على أن بعض الجثث تبخرت وتحولت إلى رماد، وهو ما لم يستبعد فعلًا أن “إسرائيل” استخدمت هذا النوع من القنابل ضد المدنيين، ما استدعى المطالبة بفتح تحقيق دولي، لأن استخدام مثل هذه القنابل ضد المدنيين جريمة حرب لا جدال فيها.
وبلغ عدد الشهداء في قطاع غزة قرابة 41 ألفًا و455 شهيدًا، و95 ألفًا و878 مصابًا، وهناك عائلات بأكملها مسحت من السجل المدني وربما لم تجد من يبلغ عنها، بالإضافة إلى أن هناك العديد من المفقودين تحت الأنقاض والذين قتلتهم “إسرائيل” بعدم سماحها بدخول المعدات الثقيلة لإزاحة الركام وإنقاذهم.
لم تتوقف هذه السادية في القتل واستخدام الأسلحة المستوردة من الولايات المتحدة عند قطاع غزة، وإنما ذات السياسة بوتيرة أخف شملت اجتياح الضفة وقتل ما يقارب 706 فلسطينيين منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، ومؤخرًا تصاعدت غارات الاحتلال على جنوب لبنان بشكل مكثف، ما أسفر عن 500 شهيد في يوم واحد وأكثر من ألف إصابة.
وانتقل مشهد المجازر بصورة مشابهة لقطاع غزة إلى واقع اللبنانيين في الجنوب، ما أدى إلى مسح عائلات بأكملها من السجل المدني أيضًا، كعائلة الدكتورة فرح كجك، التي ارتقت مع زوجها وأولادهما ووالديها وشقيقتها في قصف الاحتلال الإسرائيلي يوم 23 سبتمبر/أيلول الحاليّ.