منذ نحو 8 سنوات شاهد العالم بأكمله من الشرق إلى الغرب هبوب الربيع العربي وانطلاق ثوراته تدريجيًا من دولة إلى أخرى تحت شعار “الشعب يريد إسقاط النظام”، في محاولة حاسمة من الشارع العربي لقلب الأنظمة السياسة على رأس حكامها والتخلص من ديكتاتوريتهم، ومن أجل تحقيق هذه التغيرات استعان الشباب العربي بمنصات التواصل الاجتماعي لتبادل المعلومات مع المتظاهرين الآخرين والتعبير عن مواقفهم السياسية وتنظيم الاحتجاجات الشعبية.
ومنذ ذلك الحين، برزت قوة المواقع الاجتماعية في تغيير المشهد السياسي في الساحة العالمية، لا سيما بعد الفضيحة السياسية الأخيرة التي كشفت الغطاء عن تأثير هذه الأدوات الرقمية سياسيًا على الرأي العام في الانتخابات الأمريكية الرئيسية في البلاد لعام 2016 واستفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ما دلل على خطورتها وقوتها في تشكيل الوعي العام وتوجيه السلوكيات عن طريق الرسائل المكررة والإعلانات بما يلائم الأهداف السياسية والعسكرية المواتية لأحزاب وجهات معينة، لكن هذه المرة، يبدو أن الأدوات الرقمية طورت من أساليب التأثير والتغيير.
العالم الافتراضي.. ساحة جديدة للحروب والمعارك
المثير للاهتمام أن قوة هذه الأدوات الرقمية لم تقف عند الحد الفكري أو المعنوي، فمنذ عامين نشر خبيران من خبراء الأمن القومي، بيتر وارين سينغر وإيمرسون تي بروكينغز، تقريرًا بعنوان “War Goes Viral” أشارا فيه إلى أن مواقع التواصل الاجتماعي لم تعد مجرد وسيلة اتصال وتواصل بين الناس، بل أداة لإعادة تشكيل مفهوم الحروب والنزاعات في دول العالم، يضاف إلى ذلك كتاب بعنوان “تسليح مواقع التواصل الاجتماعي” لنفس الكاتبين، يقدمان فيه نظرة أوسع عن دور المنصات الرقمية في نسج وتمزيق العلاقات الدبلوماسية بين الدول، وكيف تستخدم الحكومات والمنظمات الإرهابية الإنترنت لشن الحرب.
يقدم كتاب “تسليح مواقع التواصل الاجتماعي” نظرة واسعة عن دور المنصات الرقمية في نسج وتمزيق العلاقات الدبلوماسية بين الدول، وكيف تستخدم الحكومات والمنظمات الإرهابية الإنترنت لشن الحرب
ولتوضيح ذلك، يُذكِرُنا الكاتبان باختراع التلغراف الذي يعتبر واحدًا من أهم الاختراعات في التاريخ، فوفقًا للمؤرخة جوانا نيومان اعتقد كبار المفكرين في ذاك الوقت أن المعرفة التي نقلها التلغراف ستجعل الدول على دراية بالمصالح القومية لأعدائها الذين لم يأتوا بعد الآن، وعندما تم وضع أول كابل عبر المحيط الأطلسي بين أمريكا الشمالية وأوروبا عام 1858 عبر الرئيس الأمريكي الـ15 جيمس بوكانان للملكة البريطانية فيكتوريا عن امتنانه لهذه الخطوة على اعتبار أنها “سوف تحافظ على رابطة الصداقة والسلام الدائم بين الدول لقدرتها على نشر الدين والحضارة والحرية والقانون في جميع أنحاء العالم“.
لكن في غضون بضعة أيام، استخدمت بريطانيا نفس الكابل لإرسال الأوامر إلى جيوشها، ما يعني أن التلغراف أصبح أداة فاعلة وثمينة في الحروب، وهذا يشبه ما تحولت إليه منصات التواصل الاجتماعي التي لم تعد تكتفي بالتأثير على المعتقدات والتوجهات الفكرية للمستخدم، بل أصبحت تحفز المستخدم لأن يصبح جزء من النزاع العالمي وألا يكتفي فقط بالمشاهدة مثل متابعي التلفاز أو المذياع، فعلى سبيل المثال استغلت داعش شبكة الإنترنت من أجل الترويج لمبادئها، محاولةً استقطاب العديد من المقاتلين الأجانب في العالم الافتراضي لتجنيدهم ضمن صفوفها في الواقع، وهذا ما نجحت في تحقيقه بالفعل.
بعض منشورات مجندي داعش على مواقع التواصل الاجتماعي
ففي دراسة أجرتها مؤسسة كوبليام عام 2015، ذهل المحللون من حجم الجهد الذي تبذله داعش لتحقيق غاياتها عبر وسائل الاتصال، فقد وجدوا أنه في فترة شهر واحد فقط، أصدرت داعش ما يقرب من 1150 منشورًا دعائيًا لها – من مقالات وصور ومقاطع فيديو – على أكثر من 12 منصة اجتماعية، كما لاحظوا تقليد داعش لبعض حسابات المشاهير- مثل المغنية الأمريكية تيلور سويفت – من ناحية التقنيات المستخدمة للوصول إلى أكبر جمهور ممكن، وذلك ساعدها بالفعل لاحقًا على استقطاب نحو 30 ألف مقاتلًا أجنبيًا من 100 دولة إلى ساحات القتال في سوريا والعراق، منهم 6 آلاف شخص من أوروبا.
استنتج الباحثون بأن الشبكات الاجتماعية لا تساعد المستخدمين على التعاطف مع الأشخاص المختلفين عنهم، وإنما تؤسس لهم أرضية مناسبة لتعزيز أفكارهم المتحيزة والمتعصبة ضد الجماعات الأخرى
يمكن تفسير هذه السياسة الرقمية بما قاله أيمن الظواهري نائب أسامة بن لادن ذات مرة “إننا في معركة، وأكثر من نصف هذه المعركة تجري على ساحات وسائل الإعلام، نحن في معركة إعلامية في سباق لاستمالة قلوب وعقول الأمة”، وهي إشارة واضحة إلى دور المنصات الاجتماعية في استعطاف واجترار أعداد كثيرة من الضحايا في العالم الافتراضي إلى الحروب الفيزيائية أو الواقعية، أي أن داعش وغيرها من المنظمات الإرهابية لم تجعل متابعيها يتبنون أفكارها وأقوالها فقط، وإنما دفعتهم إلى المشاركة الفعلية معها في جرائمها، وهذا يبين النفوذ الرقمي في تحويل الأقوال والتغريدات والتعليقات والتوجهات الافتراضية إلى أفعال ملموسة في العالم الحقيقي.
بمعنى آخر، استطاعت داعش “تسليح” المنصات الرقمية لخدمتها في تأسيس علامتها التجارية واكتساب سمعة عالمية من خلال تحشيد رواد العالم الافتراضي الذين شجعتهم على تنفيذ هجمات إرهابية عديدة وشبيهة بممارساتها في أمريكا وفرنسا وأماكن أخرى في العالم، وذلك في الوقت الذي تكون فيه جالسة خلف الأجهزة الذكية في سوريا والعراق لتجييش المزيد من مستخدمي شبكة الإنترنت على أرض الواقع، وهو ما علق عليه جاريد كوهين، موظف سابق في وزارة الخارجية، حين قال عن داعش “أول جماعة إرهابية تحتفظ بالأرض المادية والرقمية”.
المعلومات.. سلاح القرن الـ21
يعد تويتر أكبر نافذة رقمية للمعلومات
في حوار خاص للخبير الأمني سينغر مع صحيفة “ذا أتلنتيك”، حول المسؤولية التي يتحملها المستخدم في تفاقم هذا الشكل الجديد من الصراعات، أجاب الخبير أنه “علينا أن نقرر ما يجب مشاركته، وما يجب أن نضغط عليه، فكل قرار يؤدي بنا إلى اتجاه مختلف”، بمعنى آخر، إن كل ما نشاركه أو نتداوله على صفحات الإنترنت يضمنا إلى فئة معينة وبالتالي يعزز ظاهرة أو سلوك ما، إذ يشير كل من الكاتبين في مقالهما إلى قدرة منصات التواصل الاجتماعي على إقناع الناس في الانضمام إلى فئة ما أو الإشراك في حدث ما.
على الصعيد الاجتماعي، يذكر المقال أن منصات الإعلام الافتراضية تشجع الأفكار الصامتة أو المشاعر النائمة -الإيجابية والسلبية- على الظهور إلى العلن، فقد وجد باحثون أن سلوك الناس الرقمي يهيمن عليه نزعة “الهموفيليا” وهو مصطلح في علم الاجتماع يصف ميل الشخص إلى تكوين علاقات وروابط مع الأشخاص المتشابهين معه بالقيم أو المعتقدات، وفي المقابل، يدفعه إلى الابتعاد عن الغرباء أو الأشخاص الذي ينتمون إلى خلفيات مختلفة عنه.
وبهذا، استنتج الباحثون بأن الشبكات الاجتماعية لا تساعد المستخدمين على التعاطف مع الأشخاص المختلفين عنهم، وإنما تؤسس لهم أرضية مناسبة لتعزيز أفكارهم المتحيزة والمتعصبة ضد الجماعات الأخرى، ولا داعي للذكر أن هذه التجمعات الرقمية تتحول تدريجيًا إلى دوائر فاعلة على أرض الواقع أي أنها تترجم هذه الأفكار إلى أفعال عنصرية، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال عشرات الفيديوهات التي انتشرت حول العنصرية ضد السود أو المهاجرين في أمريكا، وهي مقاطع انتشرت بشكل واسع دون الاعتماد على صحيفة أو وكالة إعلامية مشهورة، فكل ما احتاجه الأمر هو شخص بأفكار عنصرية وبيئة خصبة قابلة لامتصاص هذه السلوكيات وتبادلها مع جمهور مماثل، وهذا ما يفسر تفشي هذه الظاهرة بشكل منتظم على أرض الواقع.
ونظرًا لذلك أصبحت السوشيال ميديا سلاح العصر الحاليّ، فعلى الرغم من القوانين المسنة والبروتوكلات التي تطالب شركات التكنولوجيا بالسيطرة على المحتوى الرقمي على منصاتها، فإن هذا لا ينفي أن قواعد اللعبة السياسية تغيرت بالفعل، ومبادئ الحرب الجديدة في القرن الـ21 تهدد الحقيقة وتضخم النتائج والعواقب المادية، كما أنها بلا شك تزعزع القيم والأخلاقيات المجتمعية الأساسية على أرض الواقع من خلال نقرة واحدة على الجهاز الذكي.