ترجمة وتحرير: نون بوست
قبل فترة من توليه منصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، ثار دونالد ترامب ضد ما وصفه بتلاعب الصين بعملتها خدمةً لمصالحها الاقتصادية، حتى وإن لم يكن الأمر صحيحا آنذاك. أما في الوقت الراهن، وبفضل تصعيد الحرب التجارية التي شنّها ترامب، تبدو الصين مدفوعة برغبتها في السماح لقيمة عملتها بالتراجع أكثر، وهو الأمر الذي حذر الرئيس الأمريكي وإدارته بكين من القيام به.
تجدر الإشارة إلى أن الصين أعربت عن استجابتها حتى الآن للحرب التجارية التي تقودها إدارة ترامب ضدها، ولا سيما التعريفات الجمركية المفروضة على الواردات الصينية التي تبلغ قيمتها 250 مليار دولار، فضلا عن التعريفات الجمركية التي فرضتها الحكومة الصينية بدورها على السلع الأمريكية، وخاصة على المنتجات الزراعية.
في المقابل، لم يعد بإمكان الصين الاستمرار في حرب الردود المتبادلة، حيث أن قيمة وارداتها من الولايات المتحدة تُعتبر أقل بكثير من صادراتها لهذا البلد. وقد ذلك دفع بكين للبحث عن طرق أخرى للرد على واشنطن، على غرار فرض قيود جديدة على الشركات الأمريكية وتقويض أهداف السياسة الخارجية الأمريكية.
من جهة أخرى، لا زالت الصين تحمل في جعبتها أسلحة اقتصادية قوية، وإن كان استخدامها محفوفا بالمخاطر. وخلال الربيع والصيف الماضيين، وجدت بكين حلا للتخفيف من تأثير الرسوم الجمركية الأمريكية المجحفة، من خلال السماح لعملتها بالتراجع بحوالي 9 بالمائة مقابل الدولار، وهو أدنى مستوى بلغته العملة الصينية خلال عدة سنوات. وقد أثر ذلك على صادراتها التي أصبحت أرخص بكثير، مما ساهم في تعويض تأثير ارتفاع الرسوم الأمريكية.
يحاول موظفو البنك المركزي الصيني ضخ المزيد من الأموال في النظام المصرفي، وهم يسعون في الأساس إلى انتهاج سياسة نقدية “أكثر مرونة” تهدف إلى دعم النمو الذي يؤدي بدوره إلى تراجع قيمة العملة
الجدير بالذكر أن التراجع الكبير في قيمة الرنمينبي الصيني، الذي يُعرف أيضا باسم اليوان، بهذه السرعة كان قرارا واعيا، لأن بكين لا تزال تسيطر إلى حد كبير على قيمة عملتها ويمكنها التدخل في أي وقت لوقف انهيار قيمتها. ويراهن بعض الخبراء التجاريين الصينيين على أن قادة الصين قد طفح بهم الكيل لدرجة أنه بإمكانهم أن يعيدوا الكرة قريباً وتتراجع العملة مرة أخرى.
في هذا الصدد، صرّح روبن بروكس قائلا: “لقد كانت هذه إشارة لواشنطن مفادها بأننا نحن (الصينيون) لا نوافق على ما تقومون به، وفي حال واصلتم فرض التعريفات، فإن عملتنا ستتراجع بشكل كبير، وبالتالي، ستُشنّ عليكم حرب نقدية على رأس الحرب التجارية”. تجدر الإشارة إلى أن بروكس هو كبير الاقتصاديين في معهد التمويل الدولي الذي يتمثل في منظمة عالمية متخصصة في المجال المالي.
كانت الخطوة السابقة لإضعاف الرنمينبي قراراً سهلاً من عدة نواحي، حيث اكتسبت العملة قيمة ثابتة خلال السنة الفارطة، مما أتاح لها بعض المجال للتراجع دون أن تتسبب في أضرار جسيمة. لكن في الوقت الراهن، هناك جملة من العوامل التي تدفع بالعملة الصينية إلى التراجع. وفي الوقت التي تزيد فيه الولايات المتحدة من قيمة الفائدة، فإنها تجعل قيمة الفائدة الصينية جذابة بشكل أقل، مما يؤدي إلى تراجع قيمة الرنمينبي.
علاوة على ذلك، يحاول موظفو البنك المركزي الصيني ضخ المزيد من الأموال في النظام المصرفي، وهم يسعون في الأساس إلى انتهاج سياسة نقدية “أكثر مرونة” تهدف إلى دعم النمو الذي يؤدي بدوره إلى تراجع قيمة العملة. ومع الرفع في التعريفات الجمركية من قبل الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، هناك مخاوف من أن الصين قد تسمح لعملتها بالتراجع مرة أخرى كما فعلت خلال الصيف الماضي، وهو الأمر الذي من شأنه أن يزيد من احتدام التوتر في العلاقات الثنائية بين البلدين.
في أواخر أيلول/سبتمبر الماضي، فرضت الولايات المتحدة رسوماً جمركية مرتفعة بنسبة 10 بالمائة على سلع صينية، تُقدّر قيمتها 200 مليار دولار، ومن المقرر أن ترتفع قيمة التعريفات إلى 25 بالمائة في شهر كانون الثاني/يناير القادم. كما هدد ترامب بفرض تعريفات إضافية على المنتجات الصينية بقيمة 267 مليار دولار، إضافة إلى كل ما تقوم البلاد بشحنه نحو الولايات المتحدة الأمريكية.
سيكون خفض قيمة العملة الصينية أكثر بمثابة لعبة محفوفة بالمخاطر بالنسبة للصين، التي تدخلت مؤخرا لتحقيق استقرار نسبي في عملتها في أواخر الصيف
حيال هذا الشأن، كشف روبن بروكس أن هذه الإجراءات الأمريكية التي تهدف بالأساس للتصعيد، وخاصة احتمال ارتفاع التعريفات الجمركية إلى 25 بالمائة خلال السنة المقبلة، ستعطي لبارونات التجارة في الصين فرصة لعقد محادثات واجتماعات. وأضاف بروكس قائلا إن “التوقع بزيادة قيمة التعريفات الجمركية التي ستصل نسبتها إلى 25 بالمائة، سيجعل من البارونات ينددون بهذا الارتفاع المشط بشكل علني”.
على الرغم من اختبار الثقة الذي خضع له ترامب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة الأسبوع الماضي، صرّح وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، قائلا: “نحن نفوز على جميع الأصعدة. فبكين لا تظهر أي إشارة على التراجع”. وأضاف وانغ يي خلال اجتماع الجمعية العامة في نيويورك أنه “لن يتم ابتزاز الصين، ولن ترضخ لأي ضغوطات”.
سيكون خفض قيمة العملة الصينية أكثر بمثابة لعبة محفوفة بالمخاطر بالنسبة للصين، التي تدخلت مؤخرا لتحقيق استقرار نسبي في عملتها في أواخر الصيف، حيث بلغت قيمة الرنمينبي الواحد 7 دولارات. وفي حال قررت بكين المضي في طريق السماح لعملتها بالهبوط أكثر من ذي قبل، فلن يكون سهلا تخمين متى وأين سيتوقف هذا الانهيار، الأمر الذي قد يثير مخاوف المدخرين الصينيين وأسواق الأسهم المحلية ويقوض إحساس القيادة الصينية بالسيطرة.
من جهته، قال براد سيتسر، المسؤول الاقتصادي السابق في إدارة أوباما الذي يعمل الآن لصالح مجلس العلاقات الخارجية: “يتمثل التحدي الذي يواجه الصين الآن في أن أي انخفاض جديد في سعر العملة الصينية سيُنظر إليه على أنه تصعيد علني في الحرب التجارية ضد الولايات المتحدة، وليس واضحا أين ستقودنا هذه الأزمة”. وأضاف سيتسر أن “الصينيين أصبحوا مقيدين أكثر مما كانوا عليه قبل بضعة أشهر، لأنهم يقفون أمام اتخاذ قرار أكثر أهمية. وسيكون من المهم أن تسجل الرسوم الجمركية للولايات المتحدة الأمريكية ارتفاعا بنسبة 25 بالمائة على معظم المبادلات التجارية مع الصين”.
قال روبين بروكس إنه “بالنظر إلى أهمية ارتفاع أسعار الأسهم بالنسبة لإدارة ترامب، فإن اتخاذ مثل هذا الإجراء قد يمثل خطوة ستحظى باهتمام كبير من قبل الإدارة الأمريكية”
أما بالنسبة للصين، فإن سماحها بانخفاض قيمة عملتها يمكن أن يساعدها في تحقيق أهداف عدة. فاستنادا إلى نسبة انخفاض عملتها، تستطيع الصين تعويض ارتفاع الرسوم الجمركية الأمريكية التي قد تواجهها مستقبلا، مما سيجعل الصادرات الصينية تنافسية بقدر ما كانت عليه قبل بدء الحرب التجارية. وقد يمثل ذلك رد اعتبار مهم، إذ أن الضرر الناجم عن ارتفاع الرسوم الجمركية الأمريكية سيبدأ في الانخفاض من خلال الاعتماد على الاقتصاد الصيني.
لكن، هناك سبب آخر قد يجعل انخفاض قيمة عملة الرنمينبي يجذب صناع القرار في بكين، وهو أن هذا الانخفاض قد يثير مخاوف أسواق الأسهم العالمية، بما في ذلك في الولايات المتحدة. فقد تسبب خفض الصين لقيمة الرنمينبي في صيف سنة 2015 في تراجع مؤشرات أسواق الأسهم حول العالم. وفي هذا الصدد، قال روبين بروكس إنه “بالنظر إلى أهمية ارتفاع أسعار الأسهم بالنسبة لإدارة ترامب، فإن اتخاذ مثل هذا الإجراء قد يمثل خطوة ستحظى باهتمام كبير من قبل الإدارة الأمريكية”.
كما أضاف بروكس أنه “إذا ساد التوتر على التجارة مع بكين، فإننا سنحتاج إلى إضعاف العملة لتعويض ارتفاع الرسوم الجمركية. ويمكننا أيضا أن نضعف عزيمة الرئيس الأمريكي في حال استطعنا زعزعة استقرار سوق الأسهم”. من جهة أخرى، قد يتسبب هذا القرار في العديد من المشاكل، حيث عانت الصين، أثناء انخفاض قيمة عملتها في سنة 2015 و2016، من هروب رؤوس الأموال، إذ سعى المستثمرون الصينيون إلى التخلص من أصولهم بعملة الرنمينبي. بعد هذه الحادثة، وضعت بكين بعض القيود للحد من هروب رؤوس الأموال. لكن، لا يزال السماح بتدني قيمة الرنمينبي أكثر نذير هروب جديد لرؤوس الأموال.
يبقى السؤال الأهم هنا: هل يخشى صناع القرار في الصين من تأثير الحرب التجارية على الاقتصاد، أم أنهم يخافون من هجرة جديدة لرؤوس الأموال بعد انخفاض قيمة عملتهم المحلية؟ في هذا الصدد، قال سيستر: “نحن لا ندرك بعد مدى تأثير قرار سنة 2015 على الصينيين حتى نتأكد من أنهم لن يعتمدوا أسلوب تخفيض العملة كأداة ضغط، أو ما إذا كانوا قد توصلوا إلى سياسات جديدة للحد من هروب رؤوس الأموال وإدارة الأزمة التي ربما يخلفها التخفيض في قيمة العملة”.
مع توفر الأسباب التي تنبئ بانخفاض قيمة الرنمينبي، فإن الطريقة الوحيدة التي قد تساعد بكين على تجنب تخفيض قيمة عملتها أكثر هي دعم عملتها باستمرار
عموما، لن يؤثر التخفيض في قيمة العملة الصينية على الصين فقط، بل من المرجح أن يتسبب في انخفاض عملات الأسواق الناشئة، الأمر الذي من شأنه أن يضعها في وضعية يصعب فيها تحمل أعباء ديونها. علاوة على ذلك، سيزيد هذا القرار من غضب اليابان والاتحاد الأوروبي، اللذان يسعيان للانضمام إلى إدارة ترامب لتوجيه رد موحد تجاه الممارسات التجارية للصين.
مع توفر الأسباب التي تنبئ بانخفاض قيمة الرنمينبي، فإن الطريقة الوحيدة التي قد تساعد بكين على تجنب تخفيض قيمة عملتها أكثر هي دعم عملتها باستمرار، كما فعلت في سنة 2015 و2016، حيث أنفقت أكثر من تريليون دولار في احتياطيات العملات الأجنبية. وقد يجعل هذا الأمر المسؤولين الأمريكيين في واشنطن سعداء، لكنه قد يظهر وجهاً غريباً للإدارة الأمريكية، التي لطالما وجهت بلاغاً شديد اللهجة حول ضرورة أن تتوقف بكين عن التلاعب بعملتها.
المصدر: فورين بوليسي