لعب الطعام أدوارًا كثيرة ومتنوعة على مرّ التاريخ، بدءًا من تشكيل الحضارات وتنظيم المجتمعات ومرورًا بأثره على التفاعل بينها في فترات الحرب والسلم والاستعمار. ولو نظرنا نظرةً عميقةً وسريعة إلى الماضي، لوجدنا الكثير من المواقف التاريخية التي أثر فيها الطعام على الحضارات وسيرورة التاريخ. وبكلماتٍ أخرى، نستطيع القول أنّ الطعام كان دومًا وسيلةً للربط بين الحضارات المختلفة من جهة، أو لإنشاء بعض الحضارات الجديدة من جهة أخرى. إذ يقترح علماء الأنثروبولوجيا أنّ الحضارات والدول والإمبراطوريات جميعها لم تكن لتصل لما وصلت إليه بدون الإمدادات الغذائية التي توافرت لديها في سابق الزمان. فالتقدّم المدَنيّ والحضاريّ لم يكن هيّنًا أو ممكنًا في الأماكن التي عانت من شحّ الطعام أو اكتفت بالأساليب البدائية والتقليدية في جمعه وطهوه وإنتاجه.
لكن تصبح الأمور مثيرةً للاهتمام حين ينتقل الطعام إلى ما هو أبعد من مجرّد قوتٍ يوميّ ووسيلة عيش. خذ التوابل على سبيل المثال، والتي يمكن وصفها بأنها غيّرت من قوانين اللعبة الحضارية في العالم كلّه. فنظرًا لأنها كانت غالبًا ما تأتي من أراضٍ أخرى بعيدة، فقد تشكّلت حولها الأساطير والقصص الخيالية حتى في عصور ما قبل الميلاد. ومع الوقت وازدياد القصص والأساطير حول أصولها، لم يكن من المستغرب أنْ بدأت أوروبا رحلاتها لاحقًا في استكشاف كوكب الأرض بحثًا عن الأصول الأصلية للتوابل، الأمر الذي أدّى إلى اكتشاف أراضٍ جديدة وتشكيل شبكات تجارةٍ دولية واسعة بين الدول.
يقترح علماء الأنثروبولوجيا أنّ الحضارات والدول والإمبراطوريات جميعها لم تكن لتصل لما وصلت إليه بدون الإمدادات الغذائية التي توافرت لديها في سابق الزمان
ولسوء الحظ، ساهمت التوابل بفتحها الطريق للحركات التجارية في ظهور الحركات الاستعمارية والاستعباد وتجارة العبيد، إضافةً إلى تفشّي الأوبئة والأمراض الخطيرة وانتشارها بين الشعوب، تمامًا كما حدث بظهور وباء “الطاعون” أو “الموت الأسود” الذي اجتاح أوروبا في القرن الرابع عشر، وتسبّب في موت ما لا يقل عن ثلث سكّان القارة.
الطعام كسلاح حرب
حين نفكّر بمقوّمات جيشٍ ما لينتصر في حربه، فأول ما قد يخطر على بالنا هو أسلحته أو قائده أو عدده وعتاده، لكن إنْ فكّرنا بشكلٍ أعمق فسنجد أيضًا أنّ الطعام جزءٌ لا يتجزأ من تلك المقوّمات، بل ربما لا يختلف في أهمّيته عن أيّ سلاحٍ آخر. فما من جيشٍ يستطيع الانتصار دون أنْ يمتلك الوقود الغذائيّ اللازم الذي يمكّنه من التحرّك والاستمرار.
فهم نابليون بونابرت دور الطعام في قيام الدول وتحقيق انتصارات الجيش إلى حدٍ كبير، وآمن بأنّ أفضل وقتٍ للهجوم يكون بعد الحصاد بحيث يكون الجيش قادرًا على تخزين والاستيلاء على ما يكفيه
يروي الصحفيّ ” توم ستانداج” في كتابه “تاريخ البشرية الصالح للأكل“، أنه بالنظر إلى تاريخ النزاع البشريّ في العصر الحديث فسنجد الكثير من المعارك أو الحملات التي فشلت نتيجة عدم امتلاك ما يكفي من الطعام. ويضرب بذلك مثال حرب الاستقلال الأمريكية، حيث أنّ الامبراطورية الأكثر قوةً في العالم آنذاك، البريطانية، عجزت عن مدّ جيوشها وإرساليّاتها بالقدر الكافي من الغذاء نظرًا للحواجز المائية مثل المحيط الأطلسي الذي وقف مانعًا لوجستيًا قويًا في وجه الإمدادات الغذائية. وبالتالي، أستغلّ الأمريكيون الأمر لصالحهم ونالوا استقلالهم.
أما نابليون بونابرت، المعروف عنه بنجاحاته العسكرية الكبيرة، فقد فهم دور الطعام في قيام الدول وتحقيق انتصارات الجيش إلى حدٍ كبير، وبالتالي آمن بأنّ أفضل وقتٍ للهجوم يكون بعد الحصاد بحيث يكون الجيش قادرًا على تخزين والاستيلاء على ما يكفيه. وهو ذات الأمر الذي استدعاه لإيقاف هجومه على روسيا نظرًا لبرودة الجوّ هناك وانعدام قدرة جيشه في الحصول على الإمدادات الغذائية، لا سيّما وأنّ الروس كانوا قد جرّدوا أريافهم من أيّ طعامٍ قد يكون فوق حاجتهم.
الطعام المعلّب ساعد في انتصار نابليون
قد لا يعرف الكثيرون منّا أنّ الطعام المعلّب اكتُشف قبل سنواتٍ من قيام “لويس باستور” باكتشاف مبدأ “البسترة” وحفظ الأطعمة. إذ تروي كتب التاريخ أنّ فرنسا أعلنت عام 1795 عن جائزةٍ قيّمة لمن يستطيع تطوير طريقةٍ مناسبة لحفظ الأطعمة بحيث يستطيع الجيس استخدامها أثناء حروبه وصولاته.
وبعد تجارب كثيرة، توصّل “نيكولاس آبيرت” إلى طريقة يستطيع من خلالها طهي الطعام بطريقةٍ عادية ومن ثمّ تعبئته في زجاجات زجاجية سميكة محكمة الإغلاق قبل وضعها في الماء المغلي وغليها لبعض الوقت، ما يؤدي إلى حفظ الطعام وخصائصه الحسّية. لم يكن الأمر مفهومًا كيف أو لماذا حتى قام “لويس باستور” بشرح مبدأ “البسترة” في ستينيات القرن التاسع عشر.
توصّل “نيكولاس آبيرت” إلى فكرة الطعام المعلّب لخدمة الجيش الفرنسي في حروبه تحت قيادة نابليون بونابرت
سريعًا، بدأ الجيش والبحرية الفرنسية باستخدام الزجاجات المعلّبة تلك، فنابليون بالنهاية كان مؤمنًا بأنّ النظام الغذائي الجيد هو حجر أساس لانتصار الجيوش والدول. وفي عام 1810، مُنح “آبيرت” 12 ألف فرنك تكريمًا لاكتشافه. وقد استغلّ المبلغ لتطوير مصنعه ونشر كتابه “فن حفظ الحيوانات والخضراوات لسنوات عديدة” الذي تناول فيه طريقته تلك في حفظ الطعام. لكنْ ما كان سببًا في صعود نجمه كان سببًا في نهايته. فقد تدمّر مصنعه بالكامل بعد أنْ دمّر البروسيّون مصنعه عام 1814.
بريطانيا التي صنعتها حقول السكّر والشاي
تعود القصة إلى عام 1662، عندما وافق تشارلز الثاني على الزواج من الأميرة “كاثرين أوف براغانزا“، ابنة جون الرابع ملك البرتغال، فمهدت هذه الزيجة لكاثرين الطريق لتصبح ملكة إنجلترا وأسكتلندا وأيرلندا. ما يهمّنا هنا أنّ “كاثرين” عندما انتقلت إلى إنجلترا، حملت معها أوراق الشاي ضمن ممتلكاتها الشخصية، فحوّلت الشاي إلى مشروبٍ يوميّ بعد أنْ كان يُعرف عنه استخدامه العلاجيّ فقط. ومنذ ذلك الحين انتشر الشاي كمشروب يتجمع الناس لاحتسائه، ولم يعد علاجًا فقط.
في البداية، كانت أسعار الشاي باهظة للغاية نظرًا لأنها كانت تأتي من الصين وتُفرض عليها ضرائب كبيرة، ما جعل منه مشروبًا خاصًّا بطبقة النبلاء والأغنياء. وفي الوقت ذاته، كان السكّر أيضًا عملةً نادرةً وباهظة الثمن تُستهلك فقط من قبل الطبقات العليا والنخبوية. إلّا أنّه حظيَ بترويجٍ سيء لا سيّما بعد أن شنّ جمعٌ من الأطباء حملةً سلبية ضدّه بصفته مسبّبًا للأمراض والتسوّس.
خادم هنديّ يقدّم الشاي لأميرة بريطانية في أوائل القرن العشرين
نتيجةً لذلك، فقد السكّر مكانته المفضّلة بين الأغنياء منذ مطلع العام 1700. ومع توسّع الحركات الاستعمارية والإمبريالية البريطانية في الهند والصين وتفشّي العبودية بقوة، سيطرت المملكة على مزارع السكّر في منطقة الكاريبي، ما جعل من السكّر متاحًا في أيدي جميع طبقات المجتمع نظرًا لانخفاض الضرائب المفروضة عليه وبالتالي انخفاض سعره.
شيئًا فشيئًا، سعت الحكومة البريطانية إلى تحسين اقتصادها من خلال استغلال كلٍّ من السكّر والشاي. فخرجت دعوات تشيد بالآثار الإيجابية للسكّر بعد ردود الفعل السلبية التي التحقت به، والعديد من الأطباء والكتّاب أشاعوا أنّ “أفضل طريقة للحصول على طعم السكر دون المخاطرة بصحة الشخص هي دمج القليل منه بكأس الشاي”.
لاحقًا ومع بداية القرن الثامن عشر، حلّ الشاي المحلول بالسكّر مكان البيرة وعصير التفاح بعد أنْ كانا المشروبات المفضّلة لفترةٍ طويلة بين أفراد الطبقات العاملة نظرًا لاحتوائها على السعرات الحرارية الجيدة. ومع بدء الثورة الصناعية، لم يكن بإمكان العمّال الاستمرار بالعمل بشربهم للبيرة والمشروبات الكحولية، فكان الشاي المحلّى بالسكّر هو البديل الذي أعطى العمّال الطاقة الكافية للعمل طوال اليوم وإمدادهم بما يكفي من الدفء في الأيام الباردة.
شكّل الشاي والسكّر أكثر من عُشر إجماليّ الدخل الضريبيّ في إنجلتزا آنذاك. وكانت الرسوم السنوية على وارداتهما كافية لمدّ جميع السفن في البحرية البريطانية بالثورة الكافية التي سمحت لها بالتوسّع والاستعمار اللذين جعلا من بريطانيا الإمبراطورية والقوة العظمى على مدى قرنين تقريبًا.
الشاي بديلًا للقهوة: محاولة أتاتورك للنهوض بالاقتصاد التركيّ الحديث
قد تستغرب فعليًا أنّ الشاي لم يصبح مشروبًا مفضَلًا عند الأتراك إلا مع حلول القرن العشرين، أي بعد سقوط الدولة العثمانية تحديدًا، إذ أصبحت القهوة أكثر كلفةً لاستيرادها نظرًا للظروف التي كانت تمرّ بها الدولة. الأمر الذي دعا زعيم الجمهورية الحديثة مصطفى كمال أتاتورك إلى تشجيع شعبه للتحوّل من شرب القهوة إلى شرب الشاي، المعروف عن جودته وسهولة زراعته في تركيا.
مع قيام الدولة التركية، ظهرت حركة اجتماعية بدعوة من أتاتورك لدعم الشاي كمنتجٍ محليّ بديلًا عن القهوة بهدف دعم الاقتصاد المحلّي للدولة
فتاريخيًا، عُرفت تركيا، أو لنقل الدولة العثمانية، على مدى عقودٍ كثيرة، باهتمامها بالقهوة واشتهارها فيها، حتى أنّ أحد أنواع القهوة بات يُعرف عالميًا بالقهوة التركية لتميّزها وخصوصيتها، إذ كانت القهوة في زمن العثمانيين هي السائدة والمسيطرة على الجو مع كميات استهلاك تكاد تكون شبه منعدمة للشاي. وبعد قيام الدولة الحديثة ونشوء المشاكل الاقتصادية، كان من الصعب على الدولة الاستمرار باستيراد القهوة. فظهرت حركة اجتماعية بدعوة من أتاتورك لدعم الشاي كمنتجٍ محليّ بديلًا عن القهوة.
ومن هنا نشأ الإدمان المحلي على المشروب الأحمر بدلًا من القهوة، رغم أنّ الأخيرة عادت إلى الواجهة فيما بعد لكنها بقيت في المرتبة الثانية، إذ يقدّر استهلاك الفرد التركيّ من الشاي ما يعادل الألف كوبٍ خلال العام الواحد. وكانت منطقة شرق البحر الأسود، وتحديدًا المناطق المحيطة بمدينة ريزا وطرابزون هي المناسبة لزراعة الشاي؛ نظرًا لخصوبة التربة ووفرة الأمطار، وتشكّل هذه المنطقة اليوم سادس أكبر منتج للشاي في العالم أجمع.