كتب الله للدين الإسلامي الحنيف أن ينتشر انتشارًا واسعًا وسريعًا في عدد من الأقطار والقارات القريبة والبعيدة عن مهده “مكّة المكرّمة، بفضل جهاد دعاته الأولين الصادقين ونضال هداته السابقين، الذين بذلوا أجسدهم وراحتهم لبسط نفوذ الدين الجديد، وإعلاء شأنه، ورفع ألوية تعليماته. في هذا التقرير سنتعرف سنويًا عن رحلة الإسلام في جنوب القارة الإفريقية، وكيفية دخول الإسلام منطقة جنوب الصحراء دون حرب أو أي استعمال لسيف.
الهجرة إلى الحبشة
مثّلت القارة الإفريقية، أولى القارات ترحيبًا بالإسلام، وهي أول قارة وطئتها أقدام المهاجرين الأخيار هربًا من بطش مشركي قريش الذين أخذوا في إيذاء الرسول محمد صلّ الله عليه وسلم، وإيذاء من آمن به من المستضعفين إيذاء شديدًا يدل على مبلغ تعصبهم وقسوتهم.
يعلم الكثيرون، كيف دخل عقبة بن نافع إفريقيا، من مصر مارًا بمنطقة برقة بليبيا ووصوله إلى منطقة فزان، واجتيازها إلى منطقة كوار شمال منطقة كانن بورنو الحالية في التشاد ومكوثه هناك ستّة أشهر بغية دخول الصحراء، وعدوله عن ذلك نظرًا لصعوبة المياه في بحيرة التشاد ووعورة الطرق في ذلك الوقت، وذهابه إلى تونس، لكن القليل من يعلم أن المحاولات تواصلت عن طريق فئة أخرى سبقت عقبة إلى هناك ليست من المحاربين بالسيف.
دخل تجار من المسلمين الذين وصلوا إلى أسواق “كانو” شمال نيجريا، وإلى “كاثينا” المجاورة عن طريق درب الأربعين عبر السودان القديم، ومنطقتي سنار (السودان) والحبشة، فساهموا في انتشار الإسلام بحسن مظهرهم وحسن سلوكهم مع الناس وأمانتهم
هؤلاء السابقون الأولون من الصحابة الذين وصلوا الحبشة في وقت مبكرة، تركوا وراءهم إسلاما وأمة من المسلمين لها شأن كبير في تلك الربوع، فقد كانت للهجرة إلى الحبشة أثر كبير في الفتوحات التي تمت في القارة الإفريقية، ذلك أن الكثير من سكان وسط إفريقيا هم مهاجرون، وفقا لعدد من كتب التاريخ.
الدعاة والتجار سبيل لنشر الإسلام
إذا كان الإسلام في شمال إفريقيا قد انتشر عبر فتوحات قادها الصحابة الأخيار، فإنه انتشره في جنوب القارة كان من خلال أودية جديدة، وطرقا حديثة ابتكرها المسلمون لمواصلة مسيرة الهدي المحمدي في ربوع القارة الإفريقية، فكل مسلم هناك بمثابة سفير وداعية للدين الإسلامي.
سلك الدعاة إلى الإسلام في القارة الإفريقية طرق كثيرة، لكن هدفها كان واحد وهو اعلاء راية الإسلام في تلك الربوع، ورغم ضعف المصادر التي تتحدّث عن هذا الأمر فإن المتوفر منها يؤكّد أن الإسلام وصل هناك دون فتوحات.
وصل الإسلام هناك، من خلال مجموعة من الزهاد والعباد وأهل النسك والصلاح، الذين خيّروا التنقل من منطقة إلى أخرى على البقاء في مكانهم جامدين، تنقلوا وهم حاملين معهم الزاد القليل والإيمان الكبير بتعاليم دينهم، فباشروا بهدي الناس ونشر الإسلام بالكلمة وحسن الخلق.
جاء هؤلاء الدعاة حاملين معهم تعاليم الدين الإسلامي، الذي كان بمثابة المنقذ لشعوب القارة الإفريقية من جاهلية الوثنية التي كانوا متردِّين فيها، ومن التقاليد البالية التي قيَّدوا أنفسهم بها، ومنحهم طيب العيش الكريم وراحة البال.
لم تقتصر الفتوحات الإسلامية على الحروب
تبعهم بعد ذلك التجار من المسلمين الذين وصلوا إلى أسواق “كانو” شمال نيجريا، وإلى “كاثينا” المجاورة عن طريق درب الأربعين عبر السودان القديم، ومنطقتي سنار (السودان) والحبشة، فساهموا في انتشار الإسلام بحسن مظهرهم وحسن سلوكهم مع الناس وأمانتهم. وقد اهتم التجار المسلمون بالطرق والأمن وحددوا المكاييل والموازين والمقاييس، وأشاعوا حولهم جوا من الثقة فوجدوا ترحابا أينما حلّ، وأصبحت بيتهم منارة للفكر الإسلامي بما يحمله من مدنية وحضارة.
تنقل هؤلاء التجار من المسلمين عبر القوافل، من الصحراء في شمال القارة، وصولًا إلى جنوبها، فكانت هذه القوافل التجارية جسرًا انتقلت عبره الثقافة والحضارة الإسلامية إلى جنوب الصحراء، التي تسمى حاليًا منطقة الساحل والصحراء.
لم يسلك التجار ذلك الطريق فقط، بل سلكوا طرقا أخرى من بينها الطريق الممتدّ إلى قلب إفريقيا عن طريق الصحراء الكبرى، أي عن طريق المغرب العربي من “سيدي الماسا” إلى “أودغشت” إلى مناطق غانا القديمة ثم إلى السنغال ومالي ثم إلى بورنو وممالك الهوسا.
في تلك الفترة، كان بعض التجّار المسلمين يجمعون بين التجارة والعلم، فكانوا ينشؤون حلقات تعليم القرآن، يفقهون السكان المحليين ويشرحون لهم تعاليم الدين الإسلامي القويم وثوابته السمحة ومبادئه التربوية التي تجعل من المجتمع المسلم له القيمة الفضلى بين المجتمعات.
من القبائل التي لعبت دورًا هامًا في التجارة عبر الصحراء، قبائل صنهاجة ولمتونة وجدالة، فكان لهم دور هام في نشر الإسلام في غرب إفريقيا وأنشأوا مراكز تجارية مثل أودغشت
وتكونت الأحياء الخاصة بهم فأقاموا فيها المساجد والمدارس لتعليم القرأن الكريم، فكان التاجر يقوم بدوره الدعوى بجانب نشاطه التجاري، وكانوا يستقدمون العلماء والفقهاء لتعليم سكان هذه المناطق أمور الدين، وأكثروا من بناء المساجد والمدارس والزوايا مع زيادة عدد المسلمين، وتم إرسال أبنائهم للتعليم في القاهرة والقيروان وبغداد وفاس.
أكّدت هذه القوافل التجارية، أن كل فرد هو داعية لدينه، وأن كل مسلم عليه أن يأخذ على عاتقه نشر خاتم الأديان من حوله، دون الحاجة لتنظيم ذلك أو جنودا حاملين للسيف، وهو ما زاد من عدد معتنقي هذا الدين ودعاته هناك.
ومثّلت حركة القبائل من أجل المراعي أو اندفاعها نحو الجنوب أمام ضغط من الشمال، أحد أبرز عوامل انتشار الإسلام، فهذا الأمر يجعل منها على تماسٍّ مع قبائل أخرى، فينتشر بينها الإسلام؛ لذا فإن انتقال الإسلام نحو الجنوب باتجاه خليج غانا كان بسبب حركة القبائل.
من القبائل التي لعبت دورًا هامًا في التجارة عبر الصحراء، قبائل صنهاجة ولمتونة وجدالة، فكان لهم دور هام في نشر الإسلام في غرب إفريقيا وأنشأوا مراكز تجارية مثل “أودغشت” التي صارت مصدر إشعاع ديني وثقافي، إذ تأثر السكان بالتجار وأصبحوا دعاة للإسلام في مناطقهم.
البعد الصوفي يطغى على مسلمي إفريقيا
غلب على المسلمين الأوائل في القارة الإفريقية في أعمالهم وفي دعوتهم وفي كل تصرفاتهم البعد الصوفي، من زهد في الدنيا ونسك، عملاً ببعض آيات القرآن، فالزهد في الدنيا عندهم، دعوة أساسية تواجه الإنسان في كل مكان وزمان.
اعتمد هؤلاء في بداية نشر الدعوة، على إنشاء المساجد والزوايا التي صارت خلايا للذكر والعبادة، وفتح المدارس، وشراء الرقيق وتعليمهم مبادئ الدين الإسلامي، ثم عتقهم وإرسالهم كدُعاة لنشر الدعوة في مناطق مختلفة، ومن الطرق الصوفية التي كان لها الأثر الكبير في نشر الدعوة، الطريقة القادرية، والتيجانية، والسنوسية.
أسس الدعاة الأولون عديد المساجد والزوايا في مناطق عدة من جنوب غرب إفريقيا
اعتمد الجماعة على الاخلاق ونكران الذات وتفانيهم في الدعوة إلى الله، والإخلاص، والصدق مع النفس، والصدق مع الله ومع الناس، مهّد لانتشار الإسلام في تلك الربوع دون حرب، دون قتال، دون سيف، على خلاف باقي المناطق.
نرى هنا أن منطقة إفريقيا جنوب الصحراء من المناطق القلائل التي حظي الدين الإسلامي الحنيف فيها بشيوع مبادئه السمحة، وذيوع تعاليمه الخالية من الجمود والجحود، بطرق ووسائل تختلف في كثير من الأحيان عن الطرق والوسائل التي استعملها الدعاة المسلمون الأولون.
بفضل هؤلاء التجار والدعاة والصحابة الأولين، أصبحت إفريقيا قارة الإسلام، فأكثر من 50 % من سكانها مسلمين، وما يلاحظ أيضا أنه لا توجد دولة إفريقية واحدة بها أغلبية مسيحية، كما لا يعد الدين المسيحي هو الدين الرسمي في أي دولة من دول القارة السمراء على سبيل المثال، رغم امساك بعض الأقليات المسيحية بالسلطة في بعض الدول.