ترجمة وتحرير: نون بوست
بعد ظهر يوم 23 تموز/يوليو؛ بدأت قذائف المدفعية تنهمر فجأة من جميع الاتجاهات في بني سهيلا شرق خان يونس، وخرجت عائلة النجار بسرعة من منزلها في حالة من الذعر، في محاولة يائسة للفرار من القصف العشوائي، ولكن بمجرد أن هربوا من خط النار المباشر، أدركوا أن أحدهم مفقود.
كان إياد البالغ من العمر 37 سنة يعاني منذ فترة طويلة من إعاقة إدراكية ومحدودية في الحركة، وبينما كانت العائلة تفر من منزلها، يتذكر شقيقه محمد قائلًا: “ظن كل واحد منا أن شخصًا آخر أخذ إياد معه. كان الوضع مزريًا: في البداية كان هناك قصف عشوائي، ثم بدأت الدبابات في اجتياح المنطقة”، وظل إياد طوال هذا الوقت محاصرًا داخل المنزل.
وبعد أن عجزت عائلة إياد عن العودة إلى منزلهم المحاصر؛ انتظروا في مكان قريب لمدة ساعة تقريبًا لمعرفة ما إذا كان قد استطاع اللحاق بهم بطريقة ما، رغم أنه كان شبه عاجز عن الحركة. قال محمد لـ972+: “كان لا يزال لدينا أمل في ظهوره. لكن القصف اقترب أكثر، واضطررنا للانتقال إلى مكان أكثر أمانًا”.
وبعد قضاء أسبوع في خيمة بالقرب من مستشفى ناصر، تمكنت العائلة أخيرًا من العودة إلى المنزل عندما انسحبت القوات الإسرائيلية من المنطقة، ولكنهم عندما وصلوا وجدوا جثة إياد متحللة في الحديقة ومثخنة بالجراح نتيجة طلقات الرصاص.
صُدم محمد بالعثور عليه هناك، نظرًا لصعوبة خروج إياد من غرفة المعيشة؛ حيث شاهدته العائلة لآخر مرة، قال محمد: “كنا مقتنعين بأنه تم جره إلى الحديقة وإعدامه هناك”.
وأضاف: “أي شخص يرى أخي إياد سيدرك أنه كان يعاني من إعاقة، وأنه لم يكن يشكل أي تهديد لأحد. ومع ذلك فقد تم إعدامه داخل منزله. لقد كان بإمكان الجنود أن يتركوه حياً ولم يكن ليفعل لهم أي شيء”. ورفض الجيش الإسرائيلي الرد على استفسارات +972 بشأن ملابسات مقتل إياد.
منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، يواجه الفلسطينيون في جميع أنحاء قطاع غزة قصفًا إسرائيليًا متواصلًا وجولات متعددة من التهجير القسري والمرض والمجاعة وتحديات أخرى لا حصر لها. إلا أن المعاناة التي يعيشها نحو 130,000 معاق فلسطيني في القطاع تضاعفت أكثر بسبب ظروفهم.
فوفقًا للأمم المتحدة، أمر الجيش الإسرائيلي بإخلاء أكثر من 80 بالمائة من المساحة الإجمالية لقطاع غزة. إن إجبارك على ترك منزلك في أي لحظة هو أمر صعب على أي شخص، ولكن الأشخاص ذوي الإعاقة أبلغوا عن صعوبات هائلة في الفرار، وفي ظل تدمير الغالبية العظمى من المستشفيات والعيادات والمراكز الطبية أو توقفها عن العمل، فإن الفلسطينيين من ذوي الإعاقة غالبًا ما لا يستطيعون الوصول إلى الخدمات الطبية أو التأهيلية اللازمة للتعامل مع حالاتهم.
وقال ظريف الغرة، رئيس شبكة الأشخاص ذوي الإعاقة التي تمثل جميع المؤسسات والمجموعات العاملة مع الأشخاص ذوي الإعاقة في غزة، لـ +972: “لقد تفاقم شعورهم بعدم القدرة على الاستمرار في الحياة أو التأقلم مع الوضع الحالي، مما زاد من شعورهم بالدونية. ولم يتمكن الكثيرون من التغلب على ظروفهم”. وبالنسبة لأولئك الذين نجوا من الموت، وكذلك بالنسبة لعائلات القتلى “فلكل واحد منهم قصة يرويها عما عاشوه”.
“لم نستطع إنقاذه، لا من الجنود ولا من الكلب”
تطالب عائلة النجار بإجراء تحقيق دولي لتحديد سبب إعدام إياد وظروف أيامه الأخيرة، أما عائلة بحر من منطقة الشجاعية، شرق مدينة غزة، فإنها تعرف بالضبط ما حدث لمحمد، البالغ من العمر 24 سنة والمصاب بمتلازمة داون والتوحد.
فعندما عاودت إسرائيل اجتياح الشجاعية في 27 حزيران/ يونيو، أصرت العائلة على البقاء في منزلها رغم القصف المكثف. وقالت نبيلة بحر، والدة محمد لـ972+: “كنا منهكين من التنقل لأكثر من 15 مرة. كنا نكافح في كل مرة لإقناع محمد بالمغادرة: كان يبكي كثيرًا، ويظل يسأل عن كرسيه المتحرك والمنزل. لذلك، قررتُ عدم المغادرة خلال الاجتياح الأخير، على أمل أن يرحمنا الجيش إذا علموا بحالته”.
ومع اشتداد القصف حول منزل عائلة بحر، اضطروا للاختباء في أجزاء مختلفة من المنزل، وأوضحت نبيلة: “غالبًا ما كنا نلجأ إلى الحمامات لأنها كانت المكان الأكثر أمانًا عندما يكون إطلاق النار كثيفًا، ولم يترك محمد كرسيه المتحرك، حتى عندما كنا نختبئ”.
وبعد حصار دام سبعة أيام، اقتحم الجيش منزل آل بحر؛ تروي نبيلة: “كانوا يصرخون ويصوبون بنادقهم نحونا، وكانت كلابهم تنبح في وجوهنا. أمرونا بالتجمع في غرفة، وبينما كنا نتحرك، ضربونا بأعقاب بنادقهم. لقد كان موقفًا صعبًا للغاية”.
ظل محمد يرفض ترك كرسيه المتحرك، وقالت نبيلة: “لم يفهم أوامر الجنود، وكان مرعوبًا وظل يقول “أنا خائف” مرارًا وتكرارًا. وفجأة، أطلق الجنود أحد الكلاب على محمد، الذي توسل إلى الكلب بينما كان الكلب يطبق بفكه عليه ”خلاص يا حبيبي”. ولكن، كما بينت نبيلة: “لم يرحم الكلب محمدًا وترك جروحًا بليغة في ذراعه وكتفه”.
لم يسمح الجنود لأي شخص بإسعاف محمد، وأجبروه على الدخول إلى غرفة منفصلة، ووفقًا لنبيلة، فقد وعدوه بأنه سيكون بأمان وأنه سيتم إحضار طبيب لمداواة جراحه، ثم أمروا بقية أفراد العائلة بالمغادرة تحت تهديد السلاح، تاركين محمد مع الجنود.
مر أسبوع، كان وكأنه سبع سنوات بالنسبة لنبيلة التي لم تستطع النوم أو تناول الطعام، فقالت: “كنت مسؤولة تمامًا عن محمد: لم يكن يعرف كيف يأكل أو يشرب أو يغير ملابسه، وطوال الأسبوع، كنت أبكي وأتساءل عما حدث لابني، وكان أشقاؤه يخرجون كل يوم إلى أبعد نقطة يمكنهم الوصول إليها قبل المنطقة المحاصرة، على أمل أن يتمكنوا من العودة إلى منزلنا”.
وأخيرًا سمعت العائلة بانسحاب الجيش وهرعت إلى المنزل، وكشفت نبيلة: “عثر ابني الأكبر، جبريل، على جثة محمد ملقاة على الأرض في نفس الغرفة التي سحبه إليها الجنود، وكانت الدماء تحيط به. لقد استخدموا قطعة قماش لتضميد جراحه البليغة، لكنهم لم يحاولوا معالجة عضات الكلب بشكل صحيح، لقد تركوه ينزف حتى الموت وحده في المنزل”.
لم ينكر متحدث باسم الجيش الإسرائيلي هذه الرواية للأحداث في تصريح لموقع +972 بشأن الحادث، لكنه ادعى أنه “داخل أحد المباني، رصد أحد الكلاب البوليسية إرهابيين وعض أحد الأفراد”.
ووفقًا لبيان المتحدث، قدمت القوات التي كانت في المكان “العلاج الطبي الأولي” لمحمد، لكنها تعرضت بعد ذلك لإطلاق نار من حماس وتركت المنزل من أجل الحصول على علاج للجنود المصابين، وذكر البيان “في هذه المرحلة، من المحتمل أن يكون هذا الفرد قد بقي بمفرده في المبنى”.
ووفقًا لمها الحسيني، مديرة الإستراتيجية في المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، فإن “الجيش الإسرائيلي استخدم الكلاب بشكل ممنهج للاعتداء على المدنيين الفلسطينيين ومهاجمتهم وإساءة معاملتهم”، خاصة في مناطق مثل الشجاعية؛ حيث أمر الجيش السكان بالفرار، وأضافت “لقد تم استخدام الكلاب لتفتيش هذه المناطق ومهاجمة السكان كشكل من أشكال العقاب والانتقام لعدم امتثالهم للأوامر”.
إن أكثر ما يزعج الحسيني هو أن الجيش تعمد إطلاق الكلاب المهاجمة ضد الفئات الأكثر ضعفًا من الفلسطينيين، وقالت لـ972+: “لقد وثقنا حالات لنساء وأشخاص من ذوي الإعاقة تعرضوا لعدة هجمات من الكلاب داخل منازلهم، وأفاد شهود العيان والضحايا أن الجنود الإسرائيليين وقفوا يشاهدون أثناء الهجمات، وفي بعض الحالات، كانوا يضحكون ويسخرون من الفلسطينيين”.
بالنسبة لنبيلة، كان كل ما تبقى الآن هو تلك الذكرى المرعبة للهجوم، وصورة ابنها القتيل: “لن أنسى هذا المشهد أبدًا، لقد رأيت الكلب يهاجم محمد ويمزق ذراعه وكتفه، ولم نستطع إنقاذه، لا من الجنود ولا من الكلب”.
“إعاقتي منعتني من الخروج من تحت الأنقاض”
وُلدت نور إرشى جودة بتشوه في ساقها نتيجة استنشاق والدتها للغاز المسيل للدموع الذي أطلقه الجيش الإسرائيلي أثناء حملها خلال الانتفاضة الثانية، مما جعل نور حبيسة الكرسي المتحرك، وعلى الرغم من هذه الإعاقة، شقت نور طريقًا لنفسها، وسعت من خلال فيديوهاتها على فيسبوك وتيك توك إلى إزالة وصمة الإعاقة أمام مئات الآلاف من متابعيها.
وأصبح كل ذلك مهددًا في 22 تشرين الأول/أكتوبر من السنة الماضية، عندما استُهدف منزل عمها المجاور لمنزلها في مدينة دير البلح وسط قطاع غزة بصاروخ إسرائيلي، وتضرر منزل نور، وقُتل أكثر من 45 من أقاربها.
تروي نور: “كنت في غرفتي التي تطل على منزل عمي أستعد للبث المباشر على تطبيق تيك توك. كنت أخطط للحديث عما كان يحدث في قطاع غزة – المجازر والوضع المستمر – ماذا أيضًا؟ ثم وقع الانفجار، وانهالت عليّ أكوام من الأنقاض”.
بقيت نور تحت الأنقاض لمدة ثلاث ساعات حتى تمكن عمال الدفاع المدني وعائلتها من إنقاذها، تقول وهي تتذكر عندما كانت عالقة: “شعرت بألم في كتفي وساقيّ، كنت أصرخ، ثم فجأة شعرت بالنعاس. منعتني إعاقتي من إخراج نفسي، رغم أنني عادةً ما أتحرك بسهولة واستطيع القيام بجميع المهام المنزلية. في تلك اللحظة، كنت ضعيفة”.
خرجت نور على قيد الحياة، لكن العديد من ذوي الإعاقة في غزة الذين تعرضوا لهجمات مماثلة – خاصةً أولئك الذين يعانون من إعاقات ذهنية – لم يحالفهم الحظ. قال محمود بصل، المتحدث باسم الدفاع المدني في غزة لـ972+ إن “أصعب الحالات التي نواجهها أثناء عمليات الإنقاذ هي عندما يكون الناس غير مدركين لما يحدث حولهم. نحاول التواصل معهم، لكنهم قد لا يفهمون ما نقوله”.
وأكد أن العديد من المعاقين إدراكيًا من سكان غزة لقوا حتفهم أثناء عمليات الإنقاذ لمجرد أنهم “لم يعرفوا كيف يتصرفون أثناء القصف، أو كيف يتبعون تعليمات الدفاع المدني. وبالمثل، فقد آخرون حياتهم لأنهم لم يتمكنوا من التحرك أو تحرير أنفسهم من تحت الأنقاض بسبب إعاقات جسدية أو شلل”.
وفي الغارة التي استهدفت منزل عمها، أصيبت نور بكسور في ساقيها وكتفها الأيمن؛ مما جعلها تشعر لأول مرة بالعجز الحقيقي. لقد فقدت عمتها وعمها، وهما من أكثر الأشخاص الداعمين لها في حياتها، كما دُمرت غرفتها المجهزة خصيصًا لتلائم حالتها البدنية والتي كانت تصور فيها مقاطع الفيديو الخاصة بها، إلى جانب كرسيها المتحرك والمطبخ الذي اكتشفت فيه شغفها للطبخ والخبز، وهو الشغف الذي أطلق شهرتها الأولى.
واليوم، تقيم نور في منزل شقيقتها، وهو منزل غير مجهز لحالتها، وتحاول التأقلم واستئناف تصوير الفيديوهات، ولكن كل ما تفكر فيه الآن هو كيف ستتمكن من الفرار في حال تم استهدافهم مرة أخرى أو أمروا بإخلاء المنزل.
وقالت: “كل ليلة، أضع خططًا [في حال احتجنا] للهرب. ولكن هل ستنجح هذه الخطط؟ لا أعلم، كل هذا يعتمد على طبيعة الهجوم. أعلم أن عائلتي لن تتركني خلفها، ومع ذلك ما زلت أفكر في الأمر كثيرًا”.
“نحن لا نسمع القصف، نحن نشعر به فقط”
عندما تقوم القوات الإسرائيلية بقصف المناطق السكنية في غزة، غالبًا ما تدّعي أنها تقوم بإرسال إنذار مسبقًا للمدنيين وفقًا للقانون الإنساني الدولي. ومع ذلك، فإن هذه التحذيرات، إن أتت أصلاً، غالبًا ما لا تترك وقتًا كافيًا لمعظم الفلسطينيين للفرار – وخاصة أولئك الذين يعانون من إعاقات عقلية أو جسدية. وقال ظريف الغرة: “سواء كانت التحذيرات تأتي من خلال المكالمات الهاتفية أو المنشورات الورقية التي يتم إلقاؤها من الطائرات أو حتى الطائرات المسيرة، فإن هذه الرسائل لا تصل بشكل فعال إلى الأشخاص ذوي الإعاقة، إلا إذا كان لديهم من يساعدهم”.
ويمتد هذا التجاهل للفلسطينيين ذوي الإعاقة إلى أوامر الإخلاء التي يصدرها الجيش الإسرائيلي. وأشار الغرة إلى أن “الإعاقة منعت الكثيرين من الانتقال إلى جنوب قطاع غزة. فهم لا يستطيعون في كثير من الأحيان التنقل دون مساعدة ومعدات متخصصة، خاصة تحت ظروف الحرب والبنية التحتية المدمرة والطرق الوعرة والمسافات الطويلة – وهي تحديات صعبة حتى بالنسبة لغير ذوي الإعاقة”.
ويعاني شادي بركات، البالغ من العمر 28 سنة من مدينة غزة والذي نزح إلى المواصي، من إعاقة سمعية. وقال مستخدمًا لغة الإشارة لـ972+: ”في اللحظات الحرجة، نجد أنفسنا [الصم في غزة] محاصرين وغير قادرين على فهم ما يحدث في المنطقة، مما يضعنا تحت ضغط نفسي”.
وأضاف: “نحن نشاهد ما يحدث باستمرار، لكننا لا نسمع مصدر القصف، بل نشعر به فقط. لذلك نتبع من حولنا ونهرب عندما يهربون، مما يخلق حالة من الفوضى يصعب فهمها. وهذا يزيد من معاناتنا ويعمق شعورنا بالعزلة والخوف”.
ويتناقض هذا الواقع القاسي بشكل صارخ مع اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، والتي تدعو إلى اتخاذ “جميع التدابير اللازمة لضمان حماية وسلامة الأشخاص ذوي الإعاقة في حالات الخطر، بما في ذلك حالات النزاع المسلح”.
والواقع أن إسرائيل لم تفشل فقط في حماية الفئات الأكثر ضعفًا بين المدنيين الفلسطينيين، بل دمرت العديد من المرافق التي كانت توفر خدمات إعادة التأهيل والخدمات الطبية الأساسية. ووفقًا لمركز الميزان لحقوق الإنسان في غزة، تشمل هذه المرافق مستشفى الشيخ حمد للتأهيل والأطراف الصناعية، ومستشفى الوفاء للتأهيل الطبي والجراحة التخصصية، ومركز الأجهزة المساعدة التابع لجمعية الإغاثة الطبية، ومقر الاتحاد العام الفلسطيني للأشخاص ذوي الإعاقة، ومدينة الأمل لبناء القدرات التي تديرها جمعية الهلال الأحمر.
وأشار الغرة أيضًا إلى أن تدمير البنية التحتية للرعاية الصحية لا يمنع فقط ذوي الحالات المرضية من الحصول على العلاج، بل أسفر أيضًا إلى ظهور عدد جديد تمامًا من الفلسطينيين ذوي الإعاقة في غزة. وقال لـ972+: “تقدر الإحصاءات أن أكثر من 10,000 شخص من بين الجرحى أصيبوا بإعاقات جديدة، كان معظمهم لم يكونوا ليصابوا بإعاقات دائمة لو كان هناك نظام رعاية صحية فعال لعلاج إصاباتهم”.
بسمة أمل
وفي ظل غياب العلاج المناسب، تُرك معظم ذوي الإعاقة في قطاع غزة، مثلهم مثل باقي سكان القطاع، يحاولون البقاء على قيد الحياة في ملاجئ مكتظة أو مخيمات خيام؛ حيث يفتقرون إلى أبسط مقومات الحياة الكريمة. ولكن في تموز/ يوليو 2024، بادر عدد من الفلسطينيين بإنشاء مخيم “بسمة أمل” في دير البلح، وهو مخيم خاص يستوعب الأشخاص ذوي الإعاقة الجسدية بمختلف أشكالها، ويوفر لهم الخدمات الأساسية التي تتناسب مع احتياجاتهم.
وقال حمزة الفليت، أحد المنظمين، لـ +972: “يستضيف المخيم أشخاصًا من ذوي الإعاقة على اختلاف أنواعها. وكانت الفكرة قد جاءت من عدة أفراد وتشرف عليها ثلاث مؤسسات محلية هي: جمعية التنمية الزراعية الفلسطينية، وجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، وجمعية أطفالنا للصم”.
ويتابع الفليت: “يسعى المخيم إلى توفير المستلزمات الضرورية للنازحين من ذوي الإعاقة، بالإضافة إلى تدابير تضمن راحتهم، في ظل الدمار الذي لحق بمعظم المستشفيات والعيادات والمراكز الطبية. وعلى الرغم من أن النزوح المتكرر يسبب الإنهاك لجميع الفلسطينيين، إلا أنه يشكل تحديًا خاصًا للأشخاص ذوي الإعاقة بسبب حركتهم المحدودة، بالإضافة إلى الأثر النفسي الكارثي الذي يخلفه التهجير القسري المستمر”.
ولجأت حتى الآن حوالي مائة عائلة فلسطينية إلى بسمة أمل، حيث يعيشون في خيام على مساحة صغيرة من الأرض تبلغ مساحتها حوالي سبعة دونمات (حوالي 1.7 فدان). ويدير المعلمون الذين يعانون من إعاقة برامج تعليمية ويقدمون الدعم النفسي للأطفال المقيمين هناك.
وتقيم سامية أبو ناموس، وهي أم تبلغ من العمر 54 سنة من خزاعة، شرق خان يونس، حاليًا في المخيم مع أبنائها الثلاثة الذين يعانون جميعًا من إعاقات جسدية وسمعية: عبد الله (23 سنة) ونادر (21 سنة) وأسامة (18 سنة)، ويتم الاعتناء باحتياجاتهم، ويتعلم ثلاثتهم النجارة.
وبعد نزوحها المتكرر وبحثها عن مأوى في مخيمات مختلفة، شعرت سامية بالارتياح لأنها وجدت أخيرًا مكانًا مناسبًا يمكن فيه رعاية أبنائها. وأوضحت قائلة: “كانت الحياة في كل مخيم من مخيمات النزوح صعبة، وحتى المدارس لم تكن مناسبة للأشخاص ذوي الإعاقة ولم تقدم خدمات تراعي ظروفهم”.
وأضافت سامية: “لقد وفرت لنا بسمة أمل خيمة وفرش وبطانيات، وقاموا بإصلاح الأجهزة المساعدة التي تضررت أثناء نزوحنا. وهم يوفرون أيضًا الطعام والمياه النظيفة والأدوية والرعاية الجسدية والنفسية، وهناك مراحيض تناسب إعاقة ابني، ولكن لا يزال الوضع صعبًا مقارنة بالمنزل”.
“اختفى ولم نعثر على أي أثر له”
في الواقع؛ في خضم وحشية حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل، يمكن لمبادرات مثل بسمة أمل أن تخفف مؤقتًا من معاناة الفلسطينيين ذوي الإعاقة وانزعاجهم. ولكن بالنسبة للكثيرين، وخاصة أولئك الذين نزحوا مرارًا وتكرارًا في جميع أنحاء غزة، لا شيء يمكن أن يكون بديلاً عن الراحة والأمان في العيش في منزلهم.
قبل 7 تشرين الأول/ أكتوبر؛ كان ماهر كحيل البالغ من العمر 62 سنة يعيش مع شقيقته ميسون في مدينة غزة إلى جانب أشقائه وعائلاتهم. وكان يعاني من العديد من المشاكل الصحية والنفسية التي كانت تتطلب مراقبة وأدوية منتظمة، ولكنه كان يجد متعة في الاعتناء بقطته وحديقته.
وفي بداية الحرب؛ أُجبر ماهر على الفرار من شمال غزة مع أشقائه، ولجأ إلى شقيقتهم مها في رفح. وقالت مها لـ972+: “نزح أشقائي مع زوجاتهم وأطفالهم إلى منزلي في تل السلطان غرب المدينة، وأحضروا ماهر معهم. إنهم مسؤولون عنه مع شقيقتي ميسون التي غادرت غزة لتواصل عملها كصحفية من مصر”.
وفي رفح، لم يغادر ماهر المنزل؛ حيث كان الجميع حريصًا على أن يكون الباب مغلقًا، في حين أعرب مرارًا وتكرارًا عن رغبته في العودة إلى منزله في مدينة غزة. وأوضحت مها: “لقد ساعدتنا الأبواب في الحفاظ على سلامة شقيقي، وكانت الحياة أسهل في منزلي في رفح مع توفر الماء والكهرباء”.
ولكن عندما اجتاحت إسرائيل رفح في أيار/ مايو، فرت العائلة من منزل مها قبل أن تصل الدبابات الإسرائيلية إليه، وانتقلت إلى منزل أحد أقاربها في منطقة المواصي غرب خان يونس. وأشارت مها إلى أنه نظرًا لضيق المكان، “تم نصب خيمة لأشقائي وأبنائهم ليناموا فيها، بمن فيهم ماهر. وقد تقاسموا مسؤولية رعايته فيما بينهم، بينما توليت أنا مسؤولية طعامه وأدويته بما أنني طبيبة”.
وفي 4 آذار/ آذار، استيقظت مها مبكرًا لتحضير فطور ماهر وأدويته، لكنه لم يكن في الخيمة. وقالت مها: “صرت كالمجنونة أركض حول الخيمة ومحيطها وفي كل اتجاه وأنا أنادي عليه وأنا أحمل الطعام في يد والدواء في اليد الأخرى. لقد اختفى ولم نستطع العثور عليه”.
إن قلب مها يعتصر ألمًا وحزنًا، وعائلتها بأكملها حزينة على اختفائه، وقالت: “إنه مثل الطفل، فقد كان يريد العودة إلى منزلنا وحيّنا في مدينة غزة، وطلب مني مرارًا وتكرارًا أن أعيده”. كانت مها تواسيه وتعده بأن “وقت العودة إلى المنزل قد اقترب بمجرد انتهاء القصف”.
ولم تدخر عائلة ماهر أي جهد في سعيها للعثور عليه؛ إذ بحثوا عنه في جميع المستشفيات ومراكز الشرطة، واستفسروا لدى الهلال الأحمر، وحاولوا بشتى الوسائل إبلاغ المجتمع المحلي بفقدانه. وقالت مها: “نقضي طوال اليوم ونحن نبحث بين الأحياء والأموات، ونسأل في كل حي وفي كل منزل لا يزال قائمًا، ولكن حتى الآن لم نعثر على أي دليل على مكان وجوده”.
الوضع صعب للغاية بالنسبة لميسون شقيقة مها، التي لا تزال في مصر وهي حزينة على فقدان شقيقها الذي كان يشاركها منزلها. وأوضحت مها قائلةً: “إن قلب أختي يعتصر ألمًا على أخي. إنها تتصل 100 مرة في اليوم، وتسأل عما إذا كان هناك أي أخبار عنه”.
وأضافت مها أنه حتى لو علموا أن شقيقها قد قُتل، فإن ذلك سيكون أسهل من الاستمرار في العيش في حالة من عدم اليقين، وتابعت: “آمل فقط أن تنتهي هذه الحرب، وأن نجد أخي، وينتهي هذا الكابوس الذي كنا نعيشه”.
المصدر: +972