لم يستفق اللبنانيون بعد من صدمة اغتيال الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، الذي سقط في غارات إسرائيلية عنيفة، مساء الجمعة الماضي، بعد استهداف اجتماع في المقر المركزي للحزب في حارة حريك بالضاحية الجنوبية في بيروت، وسط حالة ضبابية تخيم على الأجواء ترقبًا لما هو قادم.
المنطقة بأكملها تعيش أجواء مشحونة بالقلق، ترقبًا للتداعيات المحتملة لهذه العملية التي قد تكون الأشد تصعيدًا ليس فقط منذ اندلاع حرب غزة، بل ربما على مدار العقد الأخير، نظرًا لاستهدافها أحد الركائز الأساسية لمحور المقاومة بقيادة طهران.
على الرغم من رمزية الضربة، إلا أنها لم تردع حكومة بنيامين نتنياهو المتطرفة عن الاستمرار في التصعيد على الجبهة اللبنانية. بل سعت إلى استغلالها إلى أقصى حد ممكن، بهدف تحقيق أكبر قدر من المكاسب التي تثير شهية اليمين المتطرف في تل أبيب، مستفيدة من حالة الضعف التي بات يعاني منها حزب الله بعد فقدان العديد من قادته خلال أيام قليلة.
ويحبس الشعب اللبناني والمراقبون الإقليميون أنفاسهم ترقبًا لما يمكن لجنون نتنياهو أن يقوده في تلك الأثناء، وسط أحاديث متواترة في الداخل الإسرائيلي تطالب جيش الاحتلال بتوظيف المشهد الراهن للقيام بعملية برية عاجلة في لبنان، تستهدف فرض قواعد اشتباك جديدة، تنسف تلك التي دشنتها حرب يوليو/تمًوز 2006.
ويحبس الشعب اللبناني والمراقبون الإقليميون أنفاسهم بانتظار ما قد يُقدم عليه جنون نتنياهو في هذه اللحظات الحرجة، في ظل تزايد الأحاديث المتداولة داخل إسرائيل التي تطالب جيش الاحتلال باستغلال الوضع الحالي لتنفيذ عملية برية عاجلة في لبنان، يكون الهدف منها هو فرض قواعد اشتباك جديدة، تُلغي تلك التي تم إرساؤها بعد حرب يوليو/تموز 2006.
هل الأجواء ملائمة؟
حالة الارتباك التي يمر بها حزب الله حاليًا، بعد الهزة العنيفة التي تعرضت لها بنيته التنظيمية، قد تغري البعض داخل إسرائيل لزيادة الضغط عليه قبل أن يتمكن الحزب من استعادة توازنه ولملمة أوراقه من جديد، ومع ذلك، يعتبرها آخرون مغامرة محفوفة بالمخاطر، قد تصل إلى حد المقامرة.
المتحدث باسم جيش الاحتلال، بيتر ليرنر، لم يؤكد ولم ينف القيام بعملية برية، لكنه أشار إلى استعداد الجيش لعمليات محتملة، سيتم تنفيذها إذا لزم الأمر، لافتًا في تصريحات خلال مقابلة مع شبكة “سي إن إن” الأمريكية بأن “رئيس أركان الجيش الإسرائيلي هيرتسي هاليفي تحدث مع قوات الاحتياط في وقت سابق من هذا الأسبوع حول هذا الخيار”.
وأشار إلى أن “الهدف الأساسي للجيش الإسرائيلي فيما يتعلق بحزب الله هو استعادة الأمن والسلامة في شمال إسرائيل، حتى يتمكن 60 ألف إسرائيلي تم إجلاؤهم من المنطقة من العودة إلى ديارهم”.
وعلى الجانب الأخر، هناك من يرى أن القيام بعملية برية في الوقت الراهن، وبعد الضربات القاسية التي تلقاها الحزب، وغياب كبار القادة، قد يأت بنتائج عكسية تمامًا، خاصة وأن القدرات العسكرية للحزب لم تُدمر بالشكل الكامل، وأن لديه ترسانة عسكرية متقدمة ربما تقلب الطاولة حال استخدامها بشكل مكثف وبعيدًا عن المقاربات التقليدية التي قيدت عملياته في العمق الإسرائيلي.
تشير التقديرات العسكرية إلى امتلاك حزب الله أكثر من 150 ألف صاروخ وقذيفة، بما في ذلك صواريخ فجر-5 وزلزال-2 المصنوعة في إيران، يصل مدى بعضها إلى ما دون تل أبيب (400 صاروخ وقذيفة بعيدة المدى (180-700 كم) مئات صواريخ موجهة بدقة (70-250 كم)، 4.800 صاروخ متوسط المدى (40-180 كم)، 65.000 صاروخ قصير المدى (20-40 كم)، 140.000 هاون، بجانب قوة بشرية مقاتلة تتراوح بين 20 ألف و25 ألف مقاتل، بالإضافة إلى عشرات الآلاف في الاحتياط.
وحسب موقع الجيش الإسرائيلي فإن الحزب فقد منذ بداية الحرب في غزة قرابة 500 عنصر فقط من عناصره، بجانب 6800 صاروخ تم إطلاقهم على مدار الأشهر الـ 11 الماضية، فضلا عن تدمير بعض تلك القدرات، وعدد من المنصات، خلال العمليات التي شنها جيش الاحتلال خلال الآونة الأخيرة، لكن في المجمل لا يزال الحزب يحتفظ بمعظم بنيته العسكرية والتسليحية والبشرية، وهو ما يعني أن الإقدام على عملية برية مسألة تحتاج إلى دراسة وتقييم مسبق قبل الإقدام عليها.
سيناريوهات العملية البرية
قبل الخوض في السيناريوهات المحتملة لعملية برية إسرائيلية في جنوب لبنان، يبقى السؤال المحوري هو: ما هي أهداف نتنياهو من التصعيد على هذه الجبهة منذ البداية؟ هذا السؤال يشكل الخيط الأساسي لفهم المشهد بموضوعية أكبر، ومحاولة استشراف ما قد يحدث في المستقبل.
تمحورت تصريحات نتنياهو والنخبة السياسية والعسكرية وقيادة جيش الاحتلال منذ انخراط حزب الله في المعركة في الثامن من أكتوبر/تشرين الأول 2023، حول فك الارتباط بين الحزب كجبهة إسناد وبين المقاومة في غزة، وتحييد الجبهة الشمالية بشكل كامل، وضمان ألا تشكل تهديدًا مباشرًا لدولة الاحتلال، بما يسمح بعودة السكان النازحين الذين يشكلون عبئًا اقتصاديًا وعسكريًا ونفسيًا وسياسيًا على الحكومة الإسرائيلية.
ومع تساقط قيادات الحزب من خلال العمليات النوعية الاستخباراتية منذ مذبحة البيجر في السابع عشر من سبتمبر/أيلول الجاري، وما تلاها من استهداف ممنهج لمرتكزات الحزب العسكرية والقيادية والهيكلية، وإرباك الجبهة الداخلية عبر ضرب معنويات اللبنانيين والدفع نحو موجات نزوح للوسط والشمال، تصاعد منحنى الطموحات إلى ماهو أبعد، حيث الحديث عن منطقة حدودية عازلة، كفاصل أمني قوي، يحول دون استهداف الشمال الإسرائيلي من الداخل اللبناني.
الطموح وصل مداه بعد اغتيال حسن نصر الله، وهو ما يمكن تلمسه من خلال تصريحات نتنياهو التي يحذر فيها المنطقة بأكملها، بأنه لا شيء ببعيد عن يد إسرائيل في الشرق الأوسط، وهي التصريحات التي تعكس حجم الغرور والانتشاء الذي سيطر عليه بسبب ما يحققه من إنجازات على المستوى العسكري والاستخباراتي في الجبهة اللبنانية يعوض به فشله على المستوى الفلسطيني في قطاع غزة.
وإضافة إلى ما سبق، ومع الوضع في الاعتبار قدرات حزب الله العسكرية التي لا يزال يحتفظ بها، وصعوبة تحقيق الأهداف الإسرائيلية السابقة دون القضاء بالكلية على تلك القدرات عبر عمليات برية أو نوعية استثنائية، وفي ظل تحييد المستويين، الإقليمي والعربي، وإبعاد القرار العربي عن الساحة بالكلية، يمكن تحديد 3 سيناريوهات رئيسية تحدد مسار العمليات على الجبهة اللبنانية خلال المرحلة المقبلة، خاصة بعد حشد جيش الاحتلال لقواته على الشريط الحدودي على مدار الأيام الماضية:
أولا: الاكتفاء بالعمليات النوعية التي تستهدف تدمير أكبر قدر ممكن من القدرات العسكرية لحزب الله، خاصة بعد أن أصبح الحزب مكشوفًا بشكل كبير أمام الإسرائيليين، ومع تكثيف تلك العمليات وإيقاع المزيد من الخسائر، قد يضطر الحزب، في ظل حالة عدم التوازن التي يعاني منها، إلى الرضوخ لإملاءات وضغوط الاحتلال والقبول باتفاق تهدئة يقضي بوقف العمليات العسكرية للحزب كجبهة إسناد، ووقف إطلاق النار على الحدود بين الطرفين، وإعادة السكان هنا وهناك.
ويتوقف هذا السيناريو بشكل كبير على موقف طهران مما يحدث، وما إذا كانت ترغب في تصعيد يحفظ ماء وجه الحزب، الذي يُعد أحد أبرز أضلاع محور الممانعة، أو الاكتفاء بما حدث مؤقتًا للحصول على فترة لالتقاط الأنفاس، لحين ترميم الشروخات التي أصابت جدار الحزب وتهيئته لجولة قادمة من المواجهة.
الثاني: في حالة فشل تحقيق أهداف السيناريو الأول، وإصرار الحزب على الاستمرار في عملياته واستهدافه للعمق الإسرائيلي، بدعم ومساندة جبهات الإسناد الأخرى في اليمن والعراق وإيران، فإن حكومة الاحتلال قد ترى في ذلك تهديدًا يفقدها المكاسب التي حققتها وهنا قد تدرس السيناريو الثاني حيث القيام بعملية برية في الجنوب اللبناني حتى جنوب نهر الليطاني.
ويميل أنصار هذا السيناريو، الذي ربما يكون الأقرب من وجهة نظر البعض، إلى إقدام جيش الاحتلال على السيطرة على بعض المناطق في الجنوب اللبناني مثل حاصبيا، الخيام، مرجعيون، العديسة، والناقورة، وذلك بعمق يتراوح بين 5 – 7 كم تقريبًا من الحدود اللبنانية الإسرائيلية، وذلك بهدف تدشين منطقة فاصل أمني على الحدود يساوم بها نتنياهو لاحقُا في الضغط على حزب الله لتقديم تنازلات خاصة بضمان ألا تشكل تلك المنطقة تهديدًا لسكان الشمال الإسرائيلي.
ويتضمن السيناريو ذاته عملية موازية في الجولان، للقضاء على شوكة الحزب هناك، واستهداف كل المنصات الصاروخية التابعة لحلفاء حزب الله في سوريا، لاسيما بعدما شكلت تلك الجبهة تهديدًا للكيان المحتل ولمستوطنات الشمال.
الثالث: هذا السيناريو هو الأكثر جنونًا، وقد يتماشى جزئيًا مع طموحات نتنياهو واليمين المتطرف في إسرائيل، لكن من المتوقع أن يواجه معارضة قوية من حلفاء إسرائيل وشركائها الدوليين، خاصة إذا قررت المضي قدمًا في تنفيذ عملية برية باتجاه بيروت، بهدف تغيير قواعد الاشتباك في المنطقة بأسرها، ورسم شرق أوسط جديد خالٍ من محور المقاومة، بالشكل الذي يقلق الكيان الإسرائيلي، كما يتضمن محاولة تقليم أظافر المشروع النووي الإيراني وتجريد طهران من قوتها، وهو ما يعني رسميًا إعلان حرب إقليمية قد لا تتمكن أي قوة، بما في ذلك إسرائيل وحلفاؤها، من تحمل كلفتها الباهظة المتوقعة.
ورغم تخاذل طهران ومواقفها السلبية تجاه استهداف كبار قادتها منذ بداية حرب غزة وما قبلها، فإنه من المتوقع هذه المرة ألا تقف مكتوفة الأيدي، في ظل محاولة اجتثاث ضلع محورها الأهم ورأس حربتها الرئيسي في المنطقة، التي تحملت كلفة بنائه وتعزيزه حتى أصبح لاعبًا مهمًا على الساحة.
ليس المقصود هنا بالضرورة أن تتدخل إيران في الحرب بشكل مباشر، لكنها على الأقل ستحرك أدواتها في المنطقة، سواء في اليمن أو العراق أو سوريا ولبنان، وستضع كل إمكانياتها وقدراتها التسليحية تحت تصرفهم بشكل كامل، حفاظًا على الحزب من الانهيار.
وفي حال إصرار طهران على الالتزام بسياسات عدم التصعيد، خشية ما قد يحمله ذلك من تداعيات تضع مشروعها على المحك، فلا يُستبعد أن تتدخل لحماية حزب الله من التدمير الكامل والإبقاء على ما تبقى منه، عبر التدخل الدبلوماسي وتبني مبادرات سياسية تهدف إلى تهدئة الأوضاع، حتى وإن كان ذلك يحمل في طياته إقرارًا ضمنيًا بهزيمة الحزب في هذه الجولة.
وفي النهاية، بعيدًا عن ترجيح سيناريو معين على آخر، فإن جميع السيناريوهات مطروحة وقابلة للنقاش في ظل وجود حكومة إسرائيلية يهيمن عليها التوجه اليميني المتطرف. ويعتمد مدى تطبيقها على محورين أساسيين: الأول يتعلق برد فعل حزب الله وقدرته على امتصاص هذه الضربة سريعًا وترتيب البيت الداخلي بأقصى سرعة، بالإضافة إلى حساباته للمرحلة الحالية والمقبلة، أما المحور الثاني، فيتمثل في مقاربات طهران بعد هذا التصعيد الذي يزيد من مأزقها ويضع سمعتها على المحك، إلى جانب الضغوط الإقليمية والدولية التي تدفع نحو فرض حالة من التهدئة قبل المخاطرة بإشعال المنطقة.