في الدروس النظرية والمثاليات المتعلقة بالسياسة نجد أن الحكومات وجدت لتخدم شعوبها، وقد بلغنا أن الحكومات المنتخبة هي الأكثر خدمة لشعوبها، ومعنية دومًا بالنتائج لتواصل تطوير قدراتها، في تونس يبدو أن الأمر يختلف كثيرًا عن دروسنا التي لقناها ونلقنها بشعور من يؤدي واجبًا أكثر مما ينجز عملاً يبتغيه.
حكومتنا تفقرنا، فنستورد غذاءنا ونحن بلد زراعي طالما افتخرنا بأننا كنا ذات يوم مطمورة روما، وتفقرنا فتهرب نخبتنا إلى أعمال في الخارج رامية خلف ظهرها مستقبل البلد الذي رباها فلم تجد فيه ما يعادل جهدها فيه.
سأتحدث عن أمرين متباعدين في الظاهر: استيراد الحليب وتصدير المهندسين، لكنهما علامتان على فشل حكوماتنا في خلق أمل لشعب في بلده.
معضلة الحليب الدورية
عقدت الحكومة صفقة لتوريد الحليب ووضعت دعمًا يخفف السعر على المستهلك ويذهب الدعم للبلد المنتج، على هامش هذه الدعوة خاض أنصار الحليب التركي وأنصار الحليب الفرنسي معركة سخيفة انتهت بفوز الحليب البلجيكي، تلك معركة من طبيعة تفكير النخبة التونسية المهيمنة على المشهد هذه الأيام، أما المعركة الحقيقة فهي التي تبدأ بالسؤال لماذا نستورد الحليب ونحن بلد زراعي؟ هذا السؤال لا تطرحه الحكومة لأنه يؤذن بسقوطها.
يمكن لتونس أن تحقق اكتفاءها الذاتي من إنتاج الحليب ومشتقاته (وقد فعلت ذات يوم) ويمكنها أن تطور صناعة الأجبان وهي تفعل، غير أنها تتعرض إلى مشكلة دورية، إذ لها فصلان للحليب فصل فيض في الإنتاج يكون في الشتاء حتى أول الربيع وفيض شح يكون في آخر الصيف حتى أول الشتاء (دورة طبيعية لخصوبة الأبقار الحلوب).
الحليب في تونس مسقف السعر بينما المستورد يكون بسعر بلد المنتج تدفع الدولة الفارق من صندوق التعويض
في فصل فائض الإنتاج يتعرض المربون إلى معضلة تقنية، فليس في تونس ما يكفي من معامل التصبير والتجفيف، فيتم إتلاف المنتوج غالبًا على باب المعامل، حيث ينتظر الفلاح أو تاجر الحليب حتى يروب الحليب فلا يقبل منه ولا يجد له سوقًا بالتفصيل فيتلفه في المجاري.
يحل موسم الشح فلا تجد المعامل كفايتها من الحليب الطري فيقل الحليب المعلب في السوق فتضطر الحكومة إلى التوريد، وتواجه مشكلة في التسعير فالحليب في تونس مسقف السعر بينما المستورد يكون بسعر بلد المنتج وتدفع الدولة الفارق من صندوق التعويض.
قال جميع الخبراء المتدخلين في الموضوع أن الحل في بعث المزيد من وحدات التصنيع خاصة الحليب المعقم لفترة طويلة تغطي فترات الشح، لكن ذلك لم ينجز بل تراجع فقد أغلقت على الأقل وحدتان كبيرتان كانتا تغطيان حاجة الشمال الغربي والوسط هما معمل حليب الشمال ومعمل حليب باجة وهما من أكثر المناطق تربية للبقر الحلوب بحكم برودة المناخ الملائم للبقر ذي الأصول الأوروبية وهناك وحدات تصنيع أخرى في الساحل مهددة بالإغلاق لأسباب غير مفهومة.
نتج عن ذلك عَرَضٌُ مرضي آخر هو أن الفلاحين ومربي الأبقار تخلصوا من الأبقار خاصة الصغيرة منها بالبيع إلى الجزائر وهناك حركة نشيطة لتهريب الأراخي (صغار الأمهات) إلى الجزائر عبر الحدود الغربية.
أين الصناعيون في المجال الغذائي؟ إنهم لا يحضرون عند السؤال بل يحضر التجار فينصحون الحكومات بالحل الأسهل، الاستيراد، فتحل الأزمة ظرفيًا ثم ننتظرها في آخر كل صيف.
لا يتعلق الأمر هنا بتوطين تقنية من قبيل النانو تكنولوجيا ولا حتى بتقنية صناعة الإبر الطبية بل بتربية البقر وحلبه بعد توفير الأعلاف المناسبة.
أصدرت نقابة المهندسين منذ أيام رقمًا مفزعًا، فأكثر من 10 آلاف مهندس تونسي غادروا البلد إلى أوروبا والخارج عامة خلال السنوات الثلاثة الماضية
تقاليد تربية البقر المحلية يتقنها الفلاحون منذ قرون، وليس فيها علم باهر أو معجز لكن اللجوء إلى الحلول الأسهل سياسة متبعة تريح الحاكم من ضغط الشارع ولا تعالج مشكلة فقر البلد، يقاوم الفلاحون فرادي ثم يصدرون أبقارهم أو تذبح فتباع لحمًا، ومثلما يقاوم الفلاحون وينهزمون يقاوم خريجو الجامعات فرادي ثم يركبون البحر إلى أوروبا بطرق شرعية وغير شرعية، تصدير لا توريد هذه المرة لكن تصدير لزبدة تونس أي أبناؤها الذين صرفت عليهم دم القلب ليكونوا مهندسين وأطباء وكوادر دولة.
الخبرات التونسية: الهروب الكبير
أصدرت نقابة المهندسين منذ أيام رقمًا مفزعًا، فأكثر من 10 آلاف مهندس تونسي غادروا البلد إلى أوروبا والخارج عامة خلال السنوات الثلاثة الماضية، وأصدرت وزارة الشؤون الاجتماعية رقمًا مفزعًا آخر، فأكثر من 60 ألف تونسي غادروا البلد بطريقة نظامية للعمل خارجه، منهم عدد كبير من الأطباء المختصين والإطارات الصحية ولم يعرف أبدًا رقم المهاجرين السريين الذين ركبوا البحر على زوارق الموت وطبعًا لم نعرف رقم الذين غادروا للدراسة ولم يعودوا أبدًا.
نسق هجرة متسارع، الأدمغة صغيرها وكبيرها (خبرات في كل الأحوال) تترك البلد للفراغ، وقد أعلن وزير تعليم عال بالصدفة أنه سعيد بتصدير الكفاءات دون أن يكشف القدرات المتبقية لديه، فالجامعة التونسية تفقر كل يوم بخروج أكثر أساتذتها تجربة للخليج ولأوروبا دون أن يتم تعويضهم بجيل شاب متخرج وعاطل يطرق أبواب الهجرة هاربًا بروحه من العطالة الفكرية والمالية، وقد أغلقت دونه أبواب الجامعة.
أين سينتهي هذا المسار الكارثي؟
نتوقع يقينًا أن الفلاح التونسي سيزداد فقرًا وأن الريف مقدم على فقر أكبر بالنظر إلى شح الاعتماد الموجه للريف، فليس مربو الماشية وحدهم من تتخلى عنهم الحكومات بل منتجو الخضر والغلال (تونس استوردت البصل من مصر).
كل موظف تونسي جديد يرى الآن أن البيت الخاص والسيارة الخاصة والزواج المحترم صارت أماني مستحيلة
نتوقع أن كل خريج جامعة الآن يستعد للهجرة لأنه عرف أن مصيره هنا إلى بوار مهني، فلا المؤسسات الخاصة تنتدبه وتعطيه أجرًا يعادل جهده ولا العملة الوطنية تكفيه أجرًا في ظل انحدار كارثي لقيمة الدينار (دخلت تونس شهر أكتوبر بقيمة 3 فاصل 3 لليورو مقابل الدينار و 2 فاصل 8 للدينار مقابل الدولار).
كل موظف تونسي جديد يرى الآن أن البيت الخاص والسيارة الخاصة والزواج المحترم صارت أماني مستحيلة، انعكس ذلك على سوق العقارات التي ترفض أي تخفيف في الكلفة والسعر، وتظهر الآن سلوكيات جديدة هي انعكاس مباشر للهجرة، ففارق العملة يحرك الآن سوق العقارات (الجميع يردد في المجالس إذا عندك يورو أشر العقار)، لا يورو إلا بالهجرة، وكثير من الهجرة لا يعود وإن طمع سوق العقار في تنشيط بالصدفة.
أين الحكومة من كل هذا؟ إنها لا تهتم وبدايات النقاش في الموازنة التي بدأت تظهر للعيان قبل النقاش الرسمي في البرلمان هي كيف تتخلص من مؤسسات القطاع العام المفلسة أو الموشكة على الإفلاس أي الخوصصة وفرض ضرائب جديدة باسم يثير ضحك التونسيين الحزين (تعبئة الموارد الضريبية).
من سيرمي المفتاح تحت الباب؟ واع تمامًا بالصورة السوداء التي أراها لكني لم أسمع تونسيًا في الأشهر الأخيرة يود البقاء بالبلد، فحتى جرايات المتقاعدين تصلهم الآن بصعوبة بالغة وبعضهم يتحدث عن تسول المتقاعدين، آه هناك شاغل ممتع الآن في تونس عودة معركة اليسار مع حزب النهضة، لنتابع المعركة فالحليب البلجيكي لذيذ.