45 عامًا مضت على حرب أكتوبر المجيدة 1973، تلك الحرب التي أعادت رسم الخريطة السياسية والجغرافية لمنطقة الشرق الأوسط بصورة حطمت الكثير من الأساطير الوهمية التي صدرها الصهاينة عن قوتهم التي لا تقهر وعتادهم الذي لا ينهزم، وأعادت الكرامة العربية التي أُهدرت على أقدام جيش الاحتلال فوق تراب سيناء والسويس وصولاً إلى القاهرة.
أربعة عقود ونصف على تلك المعركة العسكرية التي كان النصر فيها حليف المصريين والعرب، قطعت فيها تل أبيب والقاهرة أشواطًا كبيرة من التأرجح بين التقارب والتباعد، شهدت خلالها موجات متلاطمة من المد والجذر على شاطئ التطبيع الذي تهرول له دولة الاحتلال بهدف خلق أمر واقع في المنطقة.
هل ما زال المصريون ينظرون إلى “إسرائيل” على أنها الدولة العدو؟ سؤال بات يطرح نفسه خلال السنوات الأخيرة على وجه الخصوص في ظل القفزات السريعة التي يقفزها النظام المصري الحاليّ بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي لإحداث التقارب مع الجانب الإسرائيلي، لتتحول العلاقات بين الجانبين من تطبيع “الضرورة” كما كانت تُوصف، إلى شيء أكبر من ذلك؛ يُمكن وصفه بالشراكة الوثيقة بين البلدين.
مسار التطبيع المتعرج
منذ حرب أكتوبر وتوقيع اتفاقية “كامب ديفيد” اتخذت العلاقات السياسية بين مصر و”إسرائيل” مسارًا متعرجًا اختلف في كل مرحلة سياسية عن تلك التي سبقتها، حيث شهد زخمًا غير متوقع في عهد الرئيس الراحل محمد أنور السادات بصفته من وقع على الاتفاقية، إذ رفع شعار “خطوة من جانب إسرائيل بخطوتين من جانب مصر”.
ومع تولي حسني مبارك مقاليد الأمور عقب اغتيال السادات شابت العلاقات مع تل أبيب بعض مظاهر التوتر، استهلها الرئيس بالتحفظ على دعوة رئيس الوزراء الإسرائيلي لزيارة القدس لاستئناف مفاوضات الحكم الذاتي واشترط إجراء المفاوضات خارج القدس المحتلة، واستدعاء السفير المصري من تل أبيب بسبب اعتداء “إسرائيل” على لبنان عام 1982، وإن أعيد مرة أخرى بعد عودة طابا لمصر.
وظلت العلاقات بين البلدين أسيرة ما يعرف بـ”السلام البارد” حتى عام 2004، حيث دخل التطبيع بين البلدين مرحلة جديدة من التطور، إذ وقعت مصر اتفاق المناطق الصناعية المؤهلة (الكويز) واتفاق تزويد “إسرائيل” بالغاز الطبيعي، وظلت ترفضهما منذ عام 1996، وذلك رغم استمرار اعتداءات “إسرائيل” على الشعبين الفلسطيني واللبناني آنذاك، وهو ما قوبل بموجة اعتراضات وانتقادات شعبية وسياسية.
مع وصول عبد الفتاح السيسي للحكم في يونيو/حزيران 2014 تغيرت موازين العلاقات بصورة غير متوقعة، إذ أبدى وقتها انفتاحًا كبيرًا على توطيد العلاقات مع “إسرائيل”
وقد انطوى التطبيع على ثلاثة مستويات شملت التطبيع السياسي والتطبيع الاقتصادي والتطبيع الثقافي، وكان لكل منها آلياته ومراحل تنفيذه، حسبما أشارت الدكتورة عواطف عبد الرحمن، رئيس قسم الصحافة بكلية الإعلام جامعة القاهرة، في مقال لها تحت عنوان “التطبيع بين مصر وإسرائيل.. الحصاد المر والتحديات“.
عبد الرحمن أشارت إلى أن التطبيع تدرج ابتداءً بالمستوى السياسي مع دول المواجهة: مصر وفلسطين والأردن، ثم المشروع الإسرائيلي للتطبيع مع سوريا من واقع ما عبرت عنه المفاوضات إلى التطبيع مع العراق في ظل الاحتلال الأمريكي ثم الدول العربية التي أقامت علاقات رسمية مع “إسرائيل” وشملت المغرب وتونس وموريتانيا وعمان وقطر، متجاوزًا ذلك إلى التطبيع الاقتصادي والثقافي.
مسار متعرج للعلاقات المصرية الإسرائيلية منذ توقيع اتفاقية “كامب ديفيد”
حميمية العلاقة
بعد ثورة 25 نياير دخلت العلاقات بين القاهرة وتل أبيب نفقًا آخر من التأرجح، حيث حبست الدبلوماسية الإسرائيلية أنفاسها طوال فترة حكم المجلس العسكري ثم حكم الرئيس المعزول محمد مرسي، حيث اتسمت العلاقات بين البلدين وقتها بفتور حذِر، بلغ ذروته إبان العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في 2012، حين أرسل مرسي رئيس وزرائه هشام قنديل إلى هناك في رسالة ضمنية مفهومة المعنى.
لكن ومع وصول عبد الفتاح السيسي للحكم في يونيو/حزيران 2014 تغيرت موازين العلاقات بصورة غير متوقعة، إذ أبدى وقتها انفتاحًا كبيرًا على توطيد العلاقات مع “إسرائيل”، تجاوز ما استقر عليه الوضع إبان توقيع “كامب ديفيد” لتتحول العلاقات بين الجانبين من تطبيع وصف في السابق بـ”الضرورة” إلى آخر أطلق عليه “الشراكة الوثيقة”.
في الـ6 من سبتمبر الماضي، قال رئيس وزراء “إسرائيل” بينامين نتنياهو: “التعاون مع الدول العربية أكبر من أي فترة كانت منذ إقامة “إسرائيل”، وما يحدث اليوم لم يحدث مثله في تاريخنا والتعاون قائم بقوة وبمختلف الأشكال والطرق والأساليب، رغم أنه لم يصل للحظة العلنية، لكن ما يجري تحت الطاولة يفوق كل ما حدث وجرى بالتاريخ”.
“التطبيع الشعبي مع الإسرائيليين أمر لا يمكن تحقيقه، وأطالب بإسقاط الجنسية عن كل مصري يتعامل مع “إسرائيل” بأي نوع من أنواع التطبيع خارج السلطة الرسمية” الدكتور جمال زهران
وكانت زيارة وزير الخارجية المصري سامح شكري للقدس ولقائه برئيس الوزراء الإسرائيلي في يونيو 2016 بمثابة تدشين لمرحلة جديدة من العلاقات المصرية الإسرائيلية لا يعرف مداها أحد غير القائمين على صنع القرار في البلدين، إلا أن الجانب الاقتصادي سيظل أحد المنافذ التي تتلاقى فيها علاقات البلدين.
هذا بخلاف لقائي السيسي ونتيناهو العلنيين على هامش المشاركة في اجتماعات الأمم المتحدة، أحدهما قبل عام والآخر قبل عدة أيام، فضلاً عن اللقاءات الأخرى السرية التي جمعتها في العقبة الأردنية والقاهرة حسبما كشفت بعض الصحف الإسرائيلية ذلك، في إطار التنسيق بين مصر و”إسرائيل” والأردن لما يسمى بـ”صفقة القرن”.
التفاهم بين الجانبين تجاوز السياسة بمراحل، ورغم العقيدة العسكرية المصرية المبنية على العداء لدولة الاحتلال، فإنه خلال السنوات الأخيرة حدثت بعض التفاهمات بين جيشي البلدين، عندما وافق الجانب الإسرائيلي على تقدم القوات المصرية بشمال سيناء لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في المناطق التي يحظر فيها وجود كثيف للقوات المسلحة المصرية طبقًا لاتفاقية كامب ديفيد، هذا بخلاف ما أثير بشأن قيام جيش الاحتلال ببعض العمليات المساندة للقوات المصرية في تلك المنطقة.
تقارب اقتصادي وسياسي وعسكري غير مسبوق بين القاهرة وتل أبيب خلال السنوات الأخيرة
هل “إسرائيل” لا تزال عدوة؟
رغم تغير الخطاب السياسي والإعلامي والثقافي بشأن الموقف من “إسرائيل”، كونها باتت شريكًا في العديد من الملفات، لا سيما في السنوات الأربعة الأخيرة، ومحاولة القضاء على الصورة الذهنية القديمة التي ظلت فيها دولة الاحتلال كيانًا مغتصبًا لدولة عربية، ويسعى لتفكيك الأخرى، إلا أن الشارع المصري ما زال يتعامل مع الكيان الصهيوني على أنه العدو الأوحد في المنطقة، رغم مساعي اختلاق أعداء جدد لتخفيف درجة التركيز على الحليف الإسرائيلي.
الدكتور جمال زهران أستاذ العلوم السياسية والبرلماني الأسبق، يرى أن التطبيع الشعبي مع الإسرائيليين أمر لا يمكن تحقيقه، مطالبًا بإسقاط الجنسية عن كل مصري يتعامل مع “إسرائيل” بأي نوع من أنواع التطبيع خارج السلطة الرسمية المرغمة على التعامل في إطار الاتفاقية الدولية الموقعة، في إشارة منه إلى “كامب ديفيد”.
زهران في حديثه لـ”نون بوست” دعا إلى ضرورة دعم مقاومة التطبيع بشتى الصور، وذلك عبر دعم المقاومة الفلسطينية بالوسائل المادية والعسكرية، لافتًا إلى أن الدم لا يحل إلا بالدم، هؤلاء الصهاينة فرضوا نفسهم بالقوة، ولن يخرجوا إلا بالقوة”، كما طالب بطرد السفراء ومماسة الضغط الشعبي على الحكام العرب لدعم فلسطين وقضيتها ومناهضة مخططات التطبيع.
فيما استبعد أستاذ العلاقات الدولية طارق فهمي، وجود أي تطبيع شعبي مع “إسرائيل”، لافتًا إلى أن العلاقات الدبلوماسية بين البلدين لا تعدو كونها مسارًا لتخفيف حدة التوتر الشعبي بين البلدين، وأنه رغم الجهود المبذولة لتفعيل مسار التطبيع، فإن تجاوزه للصف الأول من القيادات أمر صعب.
وأشار فهمي أن السلام الشعبي بين البلدين منذ اتفاق السلام “مجمد”، لافتًا إلى أن ما يثار في الإعلام بين الحين والآخر عن التطبيع ليس إلا “استعراض إعلامي” بين النظامين لا علاقة له بالشارع المصري الرافض تمامًا لخطوات التطبيع.
حالة العداء بين الشعبين المصري والإسرائيلي لن يمحيها صفقات ولقاءات سياسية متلفزة بين القيادات خاصةً لدى الأجيال القديمة.. إبراهيم فايد
من جانبه أشار الكاتب الصحفي إبراهيم فايد المتحدث الإعلامي الأسبق للمجلس القومي المصري للعمال والفلاحين إلى أن ما تسعى إليه الدولة المصرية من تقريب لوجهات النظر وتوطيد العلاقات مع العدو الصهيوني على المستويات كافة هو ضرب بعرض الحائط لمشاعر المصريين الذين قدموا شهداء ومصابين من عام 1948 إلى 1973.
فايد أضاف لـ”نون بوست” إلى أن الأمر بالنسبة للشعب المصري يختلف تمامًا عنه بالنسبة للقيادة السياسية التي ما سعت إلا لتنفيذ إستراتيجيات خاصة بها لا تمت بصلة لتوجهات الشعب وأيديولوجياته الراسخة بالعداء ضد “إسرائيل”، الأمر كذلك ينطبق على الشعوب العربية كافة التي اعتادت الخذلان من حكامها في تلك القضية تحديدًا، على حد قوله.
مختتمًا حديثه بالتأكيد على أن حالة العداء بين الشعببن المصري والإسرائيلي لن يمحيها صفقات ولقاءات سياسية متلفزة بين القيادات خاصةً لدى الأجيال القديمة وحتى مواليد التسعينيات على أقصى تقدير، أما ما عدا ذلك فقد تتغير الصورة الذهنية بالنسبة لهم ونراهم غير عابئين بأي من القضايا وملفات القومية العربية الشائكة.
وهكذا ورغم مرور 45 عامًا على حرب أكتوبر المجيدة، ورغم مساعي التقريب تحت مسميات عدة، تظل “إسرائيل” العدو الأبرز للشعب المصري أو على الأقل النسبة العظمى منه، ولكن يظل التحدي الأهم الذي تواجهه حركات مقاومة التطبيع الشعبي ضرورة تطوير قدراتها التنظيمية وتعزيز قنوات التواصل والتنسيق وتحسين تدفق المعلومات بينها وتطوير الاستفادة من المستحدثات التكنولوجية في مجال الاتصال والإعلام والمعلومات خصوصًا في ظل الحملة القوية التي تشنها أجهزة الدولة من أجل مناهضة مثل هذه التحركات.