مصطلح بات مؤلوفًا لدى جمع كبير من المواطنين الفلسطينيين الذين فقدوا بوصلة المسار الناجع للدفاع عن قضيتهم التي باتت منقسمة بين تيارٍ يؤيد التفاوض على نحوٍ مُطلق، وتيارٍ يرفع السلاح، وبالتالي غير مرغوب فيه إقليميًا ودوليًا، مما أحاله ليكون في عنق زجاجة لا أفق قريبة للخروج منها وفقًا لمشاريع وطنية.
إن طرح مصطلح السلام الاقتصادي كعنوان لحل حالة الانسداد المُهيمنة على القضية الفلسطينية، يدفعنا للتساؤل عن ماهية المصطلح، وإمكان تنفيذه في الأراضي الفلسطينية.
السلام الاقتصادي نظريًا
ينبع مصطلح “السلام الاقتصادي” من نظرية السياسة الليبرالية التي تعتمد، بشكلٍ كبير، على الاتحاد الاقتصادي والمؤسساتي المترابط على نحوٍ وطيد بين الدول، يرتكز المصطلح المذكور على فلسفة التقاء المصالح عن طريق الاتحاد الاقتصادي، مُشيرًا إلى أن الدول المترابطة اقتصاديًا تضطر لحل القضايا السياسة العالقة بينها على نحوٍ توافقي، فالترابط الاقتصادي يُولد ضغط للفائدة المتبادلة التي تُخضع الدول أو الكيانات المترابطة لحلول توافقية، تخوفًا من فقدان الفائدة الاقتصادية المتبادلة بينهما، تلك الفائدة التي تؤدي لخسارة الطرفين خسارة باهظة، في حال أضر كيان بالكيان الآخر.
وفي هذا الإطار النظري، تجدر الإشارة إلى أن المؤسسات الراعية للاتحاد الاقتصادي، تلعب دورًا كبيرًا في مهمة صنع ترابط اقتصادي مُستدام، فهي تقوم بإعداد الاتفاقية الاقتصادية وشروطها بشكلٍ يجعل الدول مرتبطة ببعضها بعض بصورة وثيقة، لا تستطيع إحدى الدول التخلي عن الأخرى، مهما بلغت حدة الخلاف السياسي.
يُطلق على النظرية الصانعة للسلام الاقتصادي اسم “النظرية الفنكوشناليزمية؛ أي الوظائفية التقنية”
أيضًا، تعمل هذه المؤسسات على تقوّية وإدامة علاقات الكيانات المُتحدة عبر توفير بيئة مناسبة لعقد الاجتماعات بين سياسيي واقتصاديي وأمنيي الكيانات المترابطة بشكلٍ دوري، في سبيل إبقاء الحماس الاتحادي موجود، مع توفير الفرص لجميع المواطنين من كلا الطرفين، يتم توثيق علاقات الاتحاد الاقتصادي على جميع المستويات.
وفيما يُطلق على النظرية الصانعة للسلام الاقتصادي اسم “النظرية الفنكوشناليزمية؛ أي الوظائفية التقنية”، تمر هذه النظرية بحسب طارحها، ديفيد ميتراني، بعدة مراحل:
ـ مرحلة زرع بذرة التقارب الاقتصادي: تحقيق تقاربات اقتصادية في مجال تجاري أو مجالات تجارية معينة عن طريق رجال الأعمال والتجار، بما يشمل تحقيق فائدة متبادلة لكلا الأطراف المتعاونة.
ـ مرحلة الاتفاقية التجارية: تُنظم التبادل التجاري وتوسعه وفقًا لمعايير قانونية تضمن حقوق الأطراف المتعاونة.
ـ مرحلة العمل المؤسسي الاتحادي: تنشأ هذه المرحلة بتأسيس مؤسسات اقتصادية تنسيقية، ترفع مستوى التعاون.
ـ مرحلة الترابط الاقتصادي: بظهور فائدة متبادلة وقريبة إلى التساوي بين الأطراف المتعاونة، يُصبح لأصحاب الفائدة، مؤسسات وأفراد، إمكان تحقيق ضغط اقتصادي وإعلامي وسياسي كبير على صناع القرار، لتجاوز الأزمات التي تحصل، ولمواصلة تطوير العمل الاتحادي الذي يُراهن فيه على الفائدة المتبادلة للاستمرار.
وهكذا بعد هذه الخطوات تصبح الدول معتمدة على بعضها اقتصاديًا لحد كبير، وبعد الوصول لهذه المرحلة يتم حل جميع القضايا السياسية بينهم عن طريق الدبلوماسية والتفاهم دون اللجوء لأي وسائل أخرى مثل المقاطعة الاقتصادية أو الحرب العسكرية، إلخ؛ وهذا هو الهدف الذي تسعى السياسة الليبرالية إلى تحقيقه من خلال تلك العملية، ألا وهو إدامة العملية التجارية التبادلية بين الدول مهما كان حجم الخلافات السياسية.
أسست اتفاقية أوسلو ومن بعدها بروتكول باريس لقواعد تعاون اقتصادي مؤسسي اتحادي بين الطرفين، بذرة التعاون الاقتصادي بين الطرفين
وغالبًا ما يتم إظهار الاتحاد الأوروبي، كمثال حي لنجاح هذه النظرية، إذ يُشار إلى أن دول الاتحاد تحاربت بشكلٍ شديد فيما بينها خلال الحرب العالمية الثانية، إلا أنها باتت من أكثر الدول اتفاقًا واتحادًا على صعيدٍ عالمي.
أوسلو والسلام الاقتصادي
يشيع في الأوساط الصحفية أنباء تُشير إلى أن الإدارتين الأمريكيتين السابقة والحاليّة، إدارتا أوباما وترامب، تحاولان تأسيس سلام اقتصادي في فلسطين وبلدان مناطق النزاع في الشرق الأوسط، لكن، المسار التاريخي يؤكّد أن التوجه الأمريكي نحو تأسيس قواعد السلام الاقتصادي لم يظهر للسطح مؤخرًا، بل يعود إلى عهد إدارة الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، ذو التوجه الليبرالي الاجتماعي الحاضن للسلام الاقتصادي، حيث استكمل رعاية مرحلة السلام بين الطرفين الفلسطيني و”الإسرائيلي” التي بدأت على هامش مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، ولكن بتوجهٍ ليبراليٍ اقتصاديٍ تكشفت تفاصيله عبر بروتكول باريس المُوقع عام 1994.
لقد أسست اتفاقية أوسلو ومن بعدها بروتكول باريس لقواعد تعاون اقتصادي مؤسسي اتحادي بين الطرفين، بذرة التعاون الاقتصادي بين الطرفين كانت قائمة منذ احتلال “إسرائيل” للأراضي الفلسطينية كافة عام 1967، حيث بات هناك تبعية فلسطينية كاملة للاقتصاد الإسرائيلي، وجاءت مرحلة الاتفاقية الاقتصادية عبر بروتوكول باريس الذي عمل على تأسيس مرحلة العمل المؤسسي الاتحادي من خلال تأسيس اللجنة الاقتصادية الفلسطينية ـ الإسرائيلية المُشتركة التي يُناطق بها تنسيق سياسات الضرائب والصادرات والواردات وتقاسم العائدات، وغيرها.
وعلى الرغم من مرور اتفاقية أوسلو بمراحل العمل المؤسسي الاتحادي، وتحقيقها لنوعٍ من الترابط الاقتصادي، فإنها لم تؤسس للسلام الاقتصادي، فلم تلبث أن اندلعت انتفاضة الأقصى التي قضت على المسار التفاوضي الفاعل بين الطرفين.
بعد سيطرة حركة حماس على قطاع غزة عام 2007، تجمدت العملية السياسية الاقتصادية، غير أنها لفتت انتباه الجانبين الأمريكي والإسرائيلي إلى محاكاتها للخطة الأمريكية حيال منطقة الشرق الأوسط،
وعن أسباب فشلها، يُشار إلى الطبيعة الأمنية لـ”إسرائيل”؛ تلك الطبيعة التي تجعل الأمن القومي والمصالح القومية فوق كل فائدة اقتصادية أو اعتبار قانوني، فعلى الأرجح، جاءت اتفاقية أوسلو وما تبعها من عمليات تفاوض، على النقيض من الرغبة “الإسرائيلية” في عدم ترك أي ثغرة تؤسس لدولة فلسطينية ذات سيادة، ولو نسبية، لذا كانت هناك، على ما يبدو، رغبة إسرائيلية في أمننة الخطة قدر الإمكان، أو ربما لعب التوجه الإسرائيلي في عدم الاكتراث بمنح الفلسطينيين حقوقهم، والعمل على تصفية قضيتهم وفقًا لأهواء الصهيونية، دورًا في إحباط هذه العملية، أيضًا، عدم ضمان العملية تنمية اقتصادية واجتماعية حقيقية للشعب الفلسطيني، سرعان ما دفع به نحو الانزلاق في الانتفاضة والموجهة المُسلحة، دون الالتفات للفائدة المتبادلة التي لم يرها قسم كبير من الشعب.
السلام الاقتصادي في وقتنا الحاليّ
اليوم وبعد مرور سنوات على اتفاقية أوسلو التي حاول الرئيس الفلسطيني الحاليّ محمود عباس، إعادة تفعيل روحها عام 2005، من خلال إعادة تفعيل مشاريع “السلام الاقتصادية”، وتأسيس مناطق صناعية فلسطينية ـ إسرائيلية مشتركة في جنين وقطاع غزة “إيرز”، يبدو أن هناك إرهاصات توجه أمريكي ـ إسرائيلي لإعادة السلام وفقًا لخطة اقتصادية “أمنية” دون شروط فلسطينية مُسبقة، لكن سيطرة حركة حماس على قطاع غزة، أوقفت هذا التحرك.
خطة كيري الاقتصادية
بعد سيطرة حركة حماس على قطاع غزة عام 2007، تجمدت العملية السياسية الاقتصادية، غير أنها لفتت انتباه الجانبين الأمريكي والإسرائيلي إلى محاكاتها للخطة الأمريكية حيال منطقة الشرق الأوسط، التي كشفتها مؤسسة راند للأبحاث في تقريرها “خطة سلام في سوريا 4”.
هذه الخطة التي تقوم على تأسيس كيانات إدارية مناطقية ترتبط بمركز ضعيف المركزية، مهمته الأساسية رعاية خطط اقتصادية لصالح الكيانات الإدارية المُنقسمة جغرافيًا ونفسيًا وثقافيًا، غير أن أهم ما يميّز هذه الكيانات وجود فائدة اقتصادية تجعل الشاب يركّز على عمله البعيد عن التوجه نحو “أعمال العنف”.
تشمل الخطة، ضخ 4 مليارات دولار من الاستثمارات في الأراضي الفلسطينية، في سبيل رفع معدل الناتج المحلي الفلسطيني بنسبة 50% خلال 3 سنوات
لقد أفصح لأول مرة عن ملامح هذه الخطوة، وزير الخارجية الأمريكي السابق جون كيري، حيث أعلن في المنتدى الاقتصادي العالمي الذي عُقد في 25 من مايو/أيار 2013 في البحر الميت، عن وجود خطة اقتصادية تتضمن تحسين المستوى الاقتصادي في المناطق الفلسطينية، في سبيل تشجيع الفلسطينيين على العودة إلى المفاوضات.
وفيما كانت ترمي خطة كيري الاقتصادية إلى إعادة “بناء الثقة” من أجل تهيئة أجواء مناسبة لعودة الطرفين إلى التفاوض، أشارت إلى ضرورة تقديم بعض التسهيلات الاقتصادية للفلسطينيين، من خلال إزالة بعض الحواجز العسكرية، وتسهيل حركة التنقل، وتوسيع نطاق سيطرة السلطة، لا سيما في مناطق “ج”، وتطوير البنية التحتية، والإفراج عن الأسرى الفلسطينيين المعتقلين قبل أوسلو.
كما تشمل الخطة، بحسب الجزيرة نت، ضخ 4 مليارات دولار من الاستثمارات في الأراضي الفلسطينية، في سبيل رفع معدل الناتج المحلي الفلسطيني بنسبة 50% خلال 3 سنوات، وخفض نسبة البطالة بين الشباب، أيضًا، تشمل الخطة السماح للسلطة باستغلال الفوسفات من البحر الميت وإعطائها حق تطوير حقول الغاز قبالة شواطئ غزة.
غير أن عدم إيلاء السلطة الفلسطينية أهمية كبيرة لهذه الخطة، على اعتبار أن التسهيلات الاقتصادية ليست الهدف المنشود، وإنما عملية سياسية كاملة تشمل إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967، كما أن العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عام 2014، حال دون استكمال العملية.
وبطبيعة الحال، المفاوضات التي يتحدث عنها كيري، تشمل “اللاءات الإسرائيلية” القائمة على رفض إقامة دولة فلسطينية متصلة الحدود الجغرافية على حدود عام 1967 ورفض وقف الاستيطان ورفض الاعتراف بحق العودة ورفض تقسيم القدس، مع الإبقاء على سيطرتها على منطقة الأغوار واعتراف الفلسطينيين بيهودية الدولة.
يعكس توجه الولايات المتحدة و”إسرائيل” نحو دعم خطط “ملادينوف” لإنقاذ غزة بمشاريع تنموية قيمتها 400 مليون دولار، لكن دون منح القطاع ميناء أو مطار مُستقل، دعمهما لأطر الانقسامات الإدارية الجغرافية
وتوضح هذه “اللاءات” والشروط ملامح السلام الاقتصادي الإسرائيلي، ذلك السلام الذي يقوم على انعدام مركزيّة الدول العربية أو بعضها، مقابل تموضع “إسرائيل” في منطقة الشرق الأوسط “كدولة مركزية” تدور الكيانات الإدارية المنقسمة لفيدراليات، والدول الأخرى غير المُقسمة، لكن الخاضعة، في فلكها.
تنفيذ الإدارة الأمريكية الحاليّة ما ترنو إليه “إسرائيل”
وبالتمعن في إجراءات الإدارة الأمريكية الحاليّة حيال القضية الفلسطينية، يُلاحظ أنها تحابي التوجه الإسرائيلي للحل بشكلٍ كبير، فقد ألغت حق الفلسطينيين في القدس، وتحاول تصفية وكالة “الأونروا” لتصفية قضية اللاجئين، ولم تعترض على قانون “يهودية الدولة”، وغيرها من المؤشرات التي تُشير لتنفيذ الإدارة الأمريكية الحاليّة ما تصبو إليه “إسرائيل”.
ويعكس توجه الولايات المتحدة و”إسرائيل” نحو دعم خطط “ملادينوف” لإنقاذ غزة بمشاريع تنموية قيمتها 400 مليون دولار، لكن دون منح القطاع ميناء أو مطار مُستقل، دعمهما لأطر الانقسامات الإدارية الجغرافية التي لم تنزلق فيه حماس، من خلال إيلائها أولوية للمصالحة مع الممثل الشرعي المركزي للفلسطينيين، منظمة التحرير المنبثقة عنها السلطة الوطنية الفلسطينية الخاضعة لهيمنة “فتح”، كما أن قبول الجانب “الإسرائيلي” التفاوض مع حماس يعكس ذات الأمر.
في الختام، تقاسي الساحة الفلسطينية انسدادًا سياسيًا عميقًا بين قطبي فتح وحماس، وهو ما يُمهد الطريق أمام الأطراف الدولية لتأسيس ميزان قوى يحاكي الطموح الإسرائيلية الرامية إلى تصفية القضية الفلسطينية، بما يكفل لها تأسيس كيانات إدارية موالية أو خاضعة بشكلٍ أو بآخر، تؤدي في نهاية المطاف إلى غلق صفحة الصراع على صعيد إستراتيجي، وفي ضوء ذلك، يُصبح رجل الأعمال عدنان مجلي، وموظف البنك الدولي السابق سلام فياض الشخصيات الأنجع أو الأوفر حظًا في خلافة عباس.
ودون إعادة إعمار البيت الفلسطيني، بما يحقق تماسك خلف قرار موحد يصنع فعل وليس ردة فعل، ودون إيجاد بديل دولي حقيقي لرعاية تسوية القضية الفلسطينية، تُصبح بوصلة القضية الفلسطينية مُتجهة نحو تحقيق الطموح الإسرائيلية بفيدرالية أو كونفدرالية.