ليس ما يجري هذه الأيام بين روسيا ودول غربية عديدة فيلمًا سينمائيًا من وحي الحرب الباردة، إنها الحرب على القرصنة الإلكترونية التي تمارسها موسكو – وفق الغرب – على مؤسسات عالمية ومنذ سنوات، لكن لماذا الآن فقط تفتح أكثر من دولة ملفات الجواسيس الروس المشتبه فيهم؟ وهل دخول بلد كهولندا على خط الاتهامات الموجهة لروسيا مؤشر على مرحلة جديدة من التوتر؟ وما الأسس التي بنى عليها الأمريكيون والهولنديون وقبلهم البريطانيون اتهاماتهم لروسيا وأذرعها الاستخباراتية؟
الطوق يحيط أكثر بوكالة الاستخبارات العسكرية الروسية
عود على بدء في التوتر بين روسيا والغرب، فقد اختارت هولندا هذا التوقيت لتكشف طرد 4 عملاء روس وإحباط محاولة قرصنة نظام المعلومات لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية، واستنادًا للسلطات الهولندية فإن العملاء الـ4 أعدوا سيارة بتجهيزات إلكترونية في موقف سيارات بإحدى مناطق لاهاي قرب مقر منظمة حظر الأسلحة الكيميائية قبل أن تعتقلهم الشرطة.
طردت هولندا 4 عملاء روس بعد إحباط محاولة قرصنة نظام المعلومات لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية
وشرح رئيس الاستخبارات العسكرية الروسية اللواء أونو إيشيلشيم أن 4 عملاء روس وصلوا إلى هولندا في الـ10 من أبريل/نيسان الماضي، وتمّ توقيفهم في هولندا في 13 من الشهر ذاته، وبحسب الجهاز الهولندي فقد كان هؤلاء يخططون للسفر إلى سويسرا، وتحديدًا لاستهداف مختبر للمنظمة مخصص لتحليل عينات من الأسلحة الكيميائية.
وبالتدقيق في تفاصيل الرواية نجد الواقعة تعود إلى أبريل/نيسان الماضي، الشهر نفسه الذي كانت تحقق فيه منظمة حظر الأسلحة الكيميائية في تسميم العميل المزدوج سيرغي سكريبال وابنته في بريطانيا، وتحقق كذلك في المادة المستخدمة في الهجوم الكيماوي على مدينة دوما السورية، ما يشير إلى المحاولة الروسية لطمس نتائج التحقيق.
وبعد أن أغدقت السلطات الهولندية على وسائل الإعلام تفاصيل العملية التي تعود إلى شهور مضت، أعادت الاتهامات الهولندية روسيا إلى عمق الاتهامات التي تواجهها في هذا الصدد، وهي الحملة التي استمرت باتهام بريطانيا وأستراليا لأجهزة الاستخبارات العسكرية الروسية بشن بعض أكبر الهجمات الإلكترونية خلال السنوات الأخيرة، من بينها هجوم على اللجنة الوطنية للحزب الديمقراطي الأمريكي خلال الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016.
الجديد في الحملة على روسيا هو التنسيق بين أكثر من دولة لنشر غسيل موسكو الملطخ بعمليات قرصنة وُصفت بأنها “سلوك متهور ينبغي أن يتوقف”
ووصلت هذه الحملة إلى ذروتها مع إعلان وزارة العدل الأمريكية توجيه تهم إلى 7 عناصر في الاستخبارات العسكرية الروسية الروسية، كانت جريمتهم شن هجمات إلكترونية على هيئات رياضية وشركة أمريكية متخصصة في الطاقة النووية نُسبت إلى الكرملين، وشملت عدة دول بينها هولندا وكندا وبريطانيا وأستراليا.
وتذكر وزارة الدفاع الأمريكية أن 3 من الـ7 الملاحقين هم من ضمن 12 مسؤولًا اتهمهم المحقق روبرت مولر، في يوليو/تموز الماضي، بالتدخل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016، وتوضح واشنطن أن الملفين منفصلان لكنهما يتقاطعان، بعد قطعت وجهت بريطانيا اتهامًا مباشرًا للمخابرات العسكرية الروسية بالوقوف وراء الهجمات الإلكترونية بأوامر من الكرملين.
وفي أقوى لغة موجهة إلى موسكو منذ الحرب الباردة، قالت بريطانيا إن روسيا أصبحت “دولة منبوذة”، في هذه الأثناء شجب قادة الاتحاد الأوروبي الهجوم على المنظمة واعتبروه عملًا يقوض القانون الدولي والمؤسسات الدولية، ويُظهر أن الغرض الرئيسي لروسيا هو ازداء المنظمة، لترد الخارجية الروسية على الاتهامات الغربية بالقول إنها “نتاج خيال خصب لشخص ما، ونوع من خليط عطور شيطانية”.
أغدقت السلطات الهولندية على وسائل الإعلام تفاصيل العملية التي تعود إلى شهور
وكان وزير الخارجية البريطاني جيرمي هانت قد اعتبر أن ما ظهر في هولندا من أدلة يُبدد مختلف الشكوك المتعلقة بقضية سكريبال وتوعد روسيا بفرض عقوبات جديدة، بينما تنفي المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاوفا صحة تصريحات بريطانيّة اتهمت الاستخبارات الروسية بالوقوف وراء هجمات إلكترونية في عدة دول، وتقول إنها رُبطت بقضية سكريبال بشكل خيالي ودون تدقيق.
“ليس لروسيا صديق سوى الأسطول الحربي والجيش”
الاتهامات الغربية لموسكو بالحرب الإلكترونية ليست جديدة، لكن الجديد فيها هذا التنسيق بين أكثر من دولة لنشر غسيل موسكو الملطخ – استنادًا إلى تلك الدول – بعمليات قرصنة وُصفت بأنها “سلوك متهور ينبغي أن يتوقف”.
هذه التطورات تأتي في ظل اقتراب موعد لندن المفترض لمزيد من التفاصيل بشأن تورط روسيا في تسميم العميل المزدوج سيرغي سكريبال في مدينة سوسبيري
فمثلًا، تقف كندا مع حلفائها الغربيين فى تحديد وكشف سلسلة من عمليات القرصنة تمت بأمر الجيش الروسى، فقد أعلنت كذلك أن هجمات معلوماتية استهدفتها قبل عامين، وطالت مركزًا لأخلاقيات الرياضة ووكالة لمكافحة المنشطات، ورجحت مسؤولية أذرع الاستخبارات الروسية عن ذلك، وكأنما الطوق يحيط أكثر بوكالة الاستخبارات العسكرية الروسية.
هذه التطورات تأتي أيضًا في ظل اقتراب موعد لندن المفترض لمزيد من التفاصيل بشأن تورط روسيا في تسميم العميل المزدوج سيرغي سكريبال في مدينة سوسبيري، ولو أثبتت نتائج التحقيقات تورط روسيا، فإن موسكو – بحسب محللين – ستبعث برسالة إلى الغرب مفادها أنها أصبحت ضمن المعادلة العالمية كقوى عظمى، وينبغي أن يهابها الجميع.
ومن شأن هذه التطورات أن تغذي الخلاف بين روسيا والغرب الذي بدأ في أغسطس/آب 2008 بتدخل روسيا بشكل سريع إلى جانب جمهورية أوسيتيا الجنوبية الانفصالية الموالية للروس وقصفت مدينة غوري الجورجية ومطارًا عسكريًا في شرق البلاد، فاستغاثت جورجيا بالغرب بعد الرد الروسي، لتتوالى بعد ذلك الردود الأوروبية والغربية الرافضة لـ”الإمبريالية” الروسية، وتحذيرات أوروبية لروسيا من أن الحرب ستؤثر على العلاقات مع روسيا.
وجَّه القضاء الأمريكي تهمًا إلى 7 عناصر في الاستخبارات العسكرية الروسية الروسية
ثم ازدادت العلاقت سوءًا بين روسيا وعدد من الدول الغربية في أعقاب أزمة أوكرانيا 2014، عندما انهالت الاتهامات الدولية لروسيا بدعم الانفصاليين الأوكرانيين الذين أعلنوا جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك جنوبي شرق البلاد الناطق بالروسية، وأعلنت الولايات المتحدة فرض عقوبات على روسيا بعد ضم القرم، وعلَّق قادة مجموعة السبع مشاركتهم في قمة الثمانية التي كانت مقررة في سوتشي الروسية.
وبعد سنوات من كونها طرفًا أساسيًا في الحرب السورية، منذ تدخلها في سبتمبر/أيلول 2015، أعلنت روسيا، وبالتوازي زمنيًّا مع حادث تسميم سكريبال، أنها ضد وجود “قوات أجنبية” على الأراضي السورية، ورد الغرب بـ”تجريم” استخدام الأسلحة الكيماوية، في إشارة إلى الاستخدام الروسي لها في سوريا.
إذا كانت الحرب بلا بارود فذلك لا يعني أنها بلا عواقب
قد يؤثر صدى الحرب الباردة بين روسيا والدول الغربية على علاقات روسيا بالعالم، لكن الأهم، كيف سترد روسيا على حملة تعتبرها “مسيسة دعاية مغرضة” ضدها؟، فهي التي تمسك بخيوط ملفات إقليمية ودولية من العيار الثقيل، في عهد رئيس ترعرع داخل أحد أكبر وأشهر أجهزة الاستخبارات في العالم (KGB).
تشكل هذه التطورات مرحلة استمرارية من التصعيد تنتقل خلالها العلاقات الروسية مع هذه الدول إلى الأسوأ
وبحسب مراقبين، تشكل هذه التطورات مرحلة استمرارية من التصعيد تنتقل خلالها العلاقات الروسية مع هذه الدول إلى الأسوأ، فالغرب يبدو متفقًا على موقف واحد، بالتوازي مع الموقف الأمريكي، ففي وقت سابق طردت واشنطن 16 دبلوماسيًا روسيًا بعد تسميم سكريبال، كذلك اتخذت 14 دولة من الاتحاد الأوروبي إجراءات مماثلة وإن بدرجات مختلفة، فبولندا على سبيل المثال رحلت 4 دبلوماسيين روس، بينما أستونيا اكتفت بالملحق العسكري الروسي.
ومن المتوقع أن تواجه روسيا موقفًا غربيًا موحدًا قد يعقبه فرض عقوبات، فقد أعلن رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك أنه سيضع مسألة “الأمن السيرباني” على جدول أعمال المجلس الأوروبي القادم، لكن في المقابل يرى البعض أن دول الغرب تفتقد إلى الكثير من الأوراق في مواجهة روسيا، في ظل ضعف الاتحاد الأوروبي بعد خروج بريطانيا، والانقسامات السياسية التي تطول معظم دول الاتحاد من الداخل بعد تصاعد موجة اليمين المتطرف، والأزمة الاقتصادية الخانقة التي تطول العديد من دول الاتحاد الأوروبي.
كما تعتبر روسيا نفسها قوة عظمى اقتصادية وعسكرية وجغرافية، وهي متحالفة مع العملاق الصيني سياسيًا واقتصاديًا، كما أنها عضو دائم في مجلس الأمن، وليس بوسع الغرب إلغاء عضويتها هذه، وتملك روسيا أوراقًا ضاغطة على العديد من الدول الغربية، لا سيما ألمانيا التي تستورد منها حاجتها من الغاز الطبيعى.
وزيرة الدفاع الهولندية أنك بيليفلد تتحدث خلال مؤتمر صحفي في لاهاي
ويرى مراقبون أن جرأة موسكو في تنفيذ مثل هذه العمليات يمثل طموح القيادة الروسية إلى استعادة مكانتها كدولة عظمى ينبغي الخوف منها، لذلك عندما هددت ماي بطرد الدبلوماسيين، ردت السلطات الروسية بأنها دولة عظمى ولا تخضع للتهديدات، فعلقت ماي على هذا الرد بأن المملكة المتحدة أيضًا دولة عظمى ولا تقبل التهديدات أو الهجمات
لكن ما حصل مسبقًا في نظر المتخصص في الشؤون الروسية الدكتور زياد منصور “فاجأ بوتين، فذهب ضحية سياسته الإمبراطورية، وعلى عكس روسيا، ربح الغرب اقتصاديًا عبر تجميد حسابات شخصية لرجالات مقربة من بوتين ورئيس الوزراء الحاليّ ديمتري ميدفيديف، ما لجم وحدّ الكثير من الطموحات الروسية في الجمهوريات السابقة، بعد الانهيار المفاجئ للروبل وأسهم بورصة موسكو والجهد الكبير لإعادة التوازن المالي إلى السوق الروسية.
ولا شك أن للإدارة الأمريكية وبعض الدول الغربية الكثير من الوقائع التي قد تؤذي بوتين شخصيًا، وهذا ما تلعب عليه الدبلوماسية الأمريكية ووسائل الإعلام لتليين موقفه، ومن بينها ما سيق في بعض الإعلام الأمريكي عن ثروات بوتين في الغرب وعلاقاته مع رجال أعمال روس في مجال الطاقة كغينادي تيمشينكو الذي له استثمارات في شركات طاقة كشركة “غونفر” المعروفة في الولايات المتحدة، وتيموشينكو من بين الشخصيات التي جرى تجميد أنشطتها في الغرب.