لا تقتصر السياحة في تركيا على فصل معين أبدًا، إذ ساعدها تنوّعها الجغرافيّ على جعلها قبلةً سياحية مميزة في جميع أوقات العام ومواسمه. لكن قد يكون الخريف هو أجمل الفصول وأنسبها لزيارة المنطقة، لا سيّما بعد انتهاء ذروة الصيف وموجات الحرّ الشديدة التي تهبّ على كثيرٍ من مدنها وبلداتها. فمن الشواطئ الهادئة إلى الغابات الكثيفة، يجد السائح أمامه الكثير من الخيارات التي تمكّنه من قضاء أوقاتٍ ممتعة وغنية بالثقافة والتاريخ والحضارات في تركيا خلال الخريف.
وبعيدًا عن جوّ الشواطئ والعطل الاستجمامية، ثمّة الكثير من المدن أيضًا التي تحمل في أزقتها وحجارتها كتبًا تاريخية عريقة، بحيث يمكن للسائح المهتمّ بالتاريخ والحضارات والثقافات المختلفة، أنْ يتجوّل بين ثناياها مستكشفًا ما تقدّمه له من قصص وحكايا وروايات. واحدة من بين تلك المدن بكلّ تأكيد إسطنبول، حيث يعدّ الخريف من أكثر أوقات العام جمالًا في المدينة، بعيدًا عن رطوبة وحرّ الصيف القاسية التي يمكن لها أنْ تكون عثرة في وجه تمتّعك الكامل بالمدينة بكلّ ما فيها من تاريخٍ وعراقةٍ وجَمال.
مدينة ماردين
تبدو المدينة لرائيها للوهلة الأولى كقلعةٍ عتيقةٍ مصنوعة من الحجارة التاريخية التي وُجدت يومًا ما ثمّ اختفت. وما إنْ تقترب عيناك منها، حتى تتأكد أكثر أنها بالفعل مدينةٌ قادمة من عمق التاريخ والعصور الوسطى. فصخور بيوتها الصلبة، وأزقتها الضيّقة ومعالمها الفارسية والبيزنطية والإسلامية لهي أكبر دليلٍ على عمق ذلك التاريخ الذي نتحدث عنه. وألسنة سكاّنها العربية والتركية والكردية والآرامية السريانية لهي أوضح دليلٍ على تنوّع ذلك التاريخ وتشعّب جذوره.
يعود أصل تسميتها إلى اللفظة الآرامية التي تعني “القلعة”. أمّا التاريخ فيرجع إلى العصر الآشوري في الألف الأول قبل الميلاد. وقد تعاقبت عليها الحضارات المختلفة والأديان السماوية المختلفة، لذلك ستجد الكثير من قلاعها وقد تحوّلت لجوامع أو كنائس أو كنس.
الجامع الكبير في ماردين
ولعلّ أقرب المسارات التاريخية التي دخلتها المدينة في العصر الحديث هو ضمّها عام 1923، على إثر معاهدة لوزان، إلى تركيا بعد أنْ كانت تقبع لحكم بلاد الشام لسنواتٍ عديدة، ولهذا تجد الكثير من أبنائها ينتمون للأصول السريانية أو العربية الشاميّة. وعلى هذا، تُعتبر ماردين، الواقعة في الجنوب الشرقيّ لتركيا، واحدةً من المدن التي تروي حكايا وقصص السابقين ممّن عاشوا على أرضها بشكل كامل دون أنْ يعبث بها الزمن أو ينسخ منها شيئًا.
السوق المسقوف في المدينة
أما أشهر معالمها التي يمكن للسائح التجوال فيها فهي الجامع الكبير وجامع الشهيدية وجامع الريحانية وكنيسة مارشمونة وكنيسة العذراء وسوق المدينة المسقوف. وفيما يتعلّق بطعامها ومأكولتها فهناك الكباب الماردينيّ والمحاشي التي تشتهر بها المدينة.
مدينة سيدا القديمة في أنطاليا
في شبه جزيرةٍ صغيرة، تقع Side، المدينة اليونانية القديمة على الساحل جنوب البحر الأبيض المتوسط في تركيا، حيث تعتقد كتب التاريخ أنّها تعود للقرن السابع قبل الميلاد حيث استوطنها اللّيديّون قبل أن تقوم فيها الحضارة الإغريقية ومن بعدها المقدونية بقيادة إسكندر الأكبر ومن ثمّ الرومانيّون الذين تم هزيمتهم من قبل السلاجقة والدولة السلجوقية حيث حكموا المدينة قبل أنْ تتعاقب عليها الدولة التي جعلت من سيدا أحد المدن التركية إلى يومنا هذا.
مشهد عام لمدينة سيدا ويظهر فيه المدرّج الروماني الكبير
وبجانب طبيعتها المدهشة حيث المياه والجبال، فسيدا هي وجهة سياحية جيدة لمحبّي التاريخ والحضارات القديمة، حيث يُعدّ مدرّجها الروماني من أكبر المدرّجات الرومانية في العالم إذ يتّسع لما يُقارب 17 ألف شخصٍ في الوقت نفسه، أمّا متحفها التاريخيّ فيحوي على العديد من الآثار التاريخيّة التي خلّفتها الحضارات المختلفة التي تعاقبت على المدينة.
جزيرة بوزجا في شاناكاله
تخبرنا الحفريات التي تم العثور عليها في مقبرة الجزيرة، والتي كانت تُعرف باسم “Leukophrys” في العصور القديمة و “Tenedos” في الميثولوجيا اليونانية، بأنّ تاريخها من المرجّح أنْ يعود إلى عام 3000 قبل الميلاد. فالنقور التي عُثر عليها هناك، تحوي في إحدى جانبيها صورةً لإله السماء والصاعقة في الميثولوجيا الإغريقية “زيوس”، ولزوجته اآلهة المرأة “هيرا” على الجانب الآخر. ونظرًا لعمقها التاريخيّ، فلا عجب أنّ العديد من الحضارات قد مرّت على الجزيرة واسوطنت بها، فاستقبلت كلٌّ من من البلاسكيين والفينيقيين والأثينيين واليونانيين والفرس والإسكندر الأكبر والبيزنطيين والجنويين والفينيسيين ثمّ لاحقًا العثمانيين كما تروي الكتب التاريخية.
ما يميّز الجزيرة أكثر من غيره أنّ زائرها يستشفّ النمط اليوناني التقليديّ في العمارة والبناء والحياة، فقد أدى القرب الجغرافي للجزيرة من الجزر اليونانية المقابلة، عوضًا عن التقارب التاريخيّ بينها، إلى سهولة التنقّل بين تركيا واليونان، الأمر الذي أدى إلى جعل الجزيرة تنصبغ بالطراز اليوناني المعماريّ الذي لوّن تفاصيلها باللونين الأزرق والأبيض، وملأ أزقتها بالورود المتسلقة ذات الألوان الزاهية الجميلة.
مدينة آرتفين
على سواحل البحر الأسود، تقع آرنفين، أو كما تُسمّى “بوابة تركيا على القوقاز”، نظرًا لقربها من حدود تركيا مع جورجيا، و”جارة السماء” نظرًا لارتفاعها الكبير عن سطح البحر. أمّا أكثر ما يميّز المدينة سياحًا فهو التنوع اللامحدود لتضاريسها الطبيعية بين الشلالات والأنهار والبحيرات والغابات الكثيفة والبحر الأسود والوديان والمنحدرات العديدة.
مدينة أنطاليا
أمّا مدينة أنطاليا، فيعدّ خريفها وقتًا مناسبًا وفرصةً ممتازة للاستمتاع بآخر ما يتبقّى من دفء وشمس الصيف كلّ عام، لا سيّما وأنّ المدينة، الواقعة على ساحل البحر الأبيض المتوسط في الجنوب الغربيّ لتركيا، تبقى أكثر دفئًا في هذا الموسم من معظم سواحل أوروبا، ما يجعلها مقصدًا غنيًّا لمحبّي السباحة والرياضات البحرية خلال هذا الموسم.
وفي قلب المدينة، تقع “كاليتشي Kaleiçi “، أو ما يُعرف بأنطاليا القديمة، المعروفة بآثارها التي تعود إلى حضارات مختلفة تعاقبت عليها، كالرومانية والبيزنطية والسلجوقية وكذلك العثمانية التي تركت بصمتها على المدينة ومعمارها. أمّا شكلها الحالي فيغلب عليه الطابع البيزنطي، بأسواره العالية والضخمة وشوارعه وأزقته الضيقة. بالإضافة إلى التأثير الذي تركته العمارة العثمانية بجوامعها ومناراتها التي تطل على ميناء المدينة صغير.وقد زار الرحّالة العربيّ “ابن بطوطة” أنطاليا ومدينتها القديمة ما بين الأعوام 1335 و1340 ذاكرًا شوارعها الضيقة وبيوتها التركية واليونانيّة.