بينما تتوالى الضربات الإسرائيلية القاسية في لبنان ضد “حزب الله”، تتوجه الأنظار أيضًا نحو سوريا، التي يؤكد خبراء ومحللون استراتيجيون أنها لن تكون بمنأى عن عاصفة عسكرية أطلقتها تل أبيب، والراجح أنها لن تتراجع عنها.
وفي حين بدا أن ما يحدث في جنوب لبنان وضاحية بيروت الجنوبية مفاجئًا للبعض، إلا أنه في الوقت نفسه كان متوقعًا برأي آخرين، إذ أطلق رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، منذ الأيام الأولى للعملية العسكرية الانتقامية “السيوف الحديدية” في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، تصريحات مفادها أن شكل الشرق الأوسط الحالي سيتغير تمامًا، وهذا ما يعني أن المعركة لن تكون فقط ضد حركة حماس في غزة، إنما كان القطاع مجرد “جس نبض عسكري”، لإطلاق مرحلة جديدة كليًا في المنطقة.
يمكن القول إن “إسرائيل” استطاعت استدراج “حزب الله” لسيناريو كان نتنياهو يتمناه بشدة، فخلال سنة كاملة، اتخذت تل أبيب استراتيجية محدودة في الرد على صواريخ “حزب الله” بالجبهة الشمالية، ويبدو أنها أوهمت قادة الحزب بأنها عاجزة عن فتح معركتين متزامنتين في غزة وجبهة الشمال، حتى إن محللين وصحفيين موالين لـ”حزب الله” خرجوا ليصرحوا مرارًا، بأن “إسرائيل” عجزت عن القضاء على حماس، فكيف يمكنها فتح معركة ضد “حزب الله” وهو أقوى من حماس مئات المرات؟
علاقات عسكرية متشابكة
الواقع أن أنصار “حزب الله” تجاوزوا تصريحات نتنياهو السابقة بشأن تغيير الشرق الأوسط، واعتبروها مجرد “حرب نفسية” لا تعكس حقيقة ميزان القوى، في ظل فكرة مفادها أن “إسرائيل” ستعجز عن فتح عدة جبهات متزامنة، وساعدهم في هذا التضليل مواقع عبرية نشرت عدة تقارير عن حالة انهيار في المنظومة العسكرية للكيان، مع تهرب المستوطنين من الخدمة العسكرية وفرار المئات من جنود الاحتياط، وحالة الإحباط النفسي التي تسود مؤسسة الجيش، وهذا ما كان فخًا مُمنهجًا بغض النظر عن واقعيته من عدمها.
من نافلة القول إن “حزب الله” ليس صنيعة إيرانية بحتة، إذ كان حافظ الأسد هو صلة الوصل الرئيسية بين الجانبين، سواء على المستوى السياسي أم العسكري، وازداد هذا التنسيق الثلاثي مع بداية عهد بشار الأسد، الذي انتقلت سوريا معه من مرحلة الوساطة بين إيران و”حزب الله”، إلى مرحلة جديدة أصبح فيها الحزب أكثر قوةً وخبرة وشعبية بعد الانسحاب الإسرائيلي من لبنان عام 2000، وحرب يوليو/تموز 2006، كما أصبح “حزب الله” أكثر تغلغلًا وارتباطًا حيويًا وعضويًا بنظام الأسد، وهو ما حاولت “إسرائيل” كبحه من خلال رسالة اغتيال عماد مغنية في قلب دمشق عام 2008.
جاءت الثورة السورية فرصة ذهبية لـ”حزب الله” في مرحلة التحول التاريخي من مرحلة “الربيب” لدمشق، إلى مرحلة “الشريك والداعم”، وتدخل الحزب منذ الأيام الأولى في إرسال مقاتلين وأمنيين لقمع المظاهرات السلمية، وبعد مرحلة العسكرة في 2012، أعلن حسن نصر الله التدخل العسكري رسميًا في سوريا، ليصبح الحزب بمثابة جيش داخل جيش.
يمكن التأكيد أن مرحلة ما بعد الثورة السورية قلبت الوضع السابق في العلاقة ما بين دمشق و”حزب الله”، ففي حين كانت دمشق هي الواسطة والصلة بين الحزب وإيران، أصبح الحزب فعليًا هو الصلة والواسطة بين طهران ودمشق، ويمكن التأكيد أيضًا أن تأثير “حزب الله” في سوريا كان أكبر من تأثير إيران، لأن الحزب كان هو المنسق العسكري لجميع الميليشيات الولائية المشاركة في الحرب السورية، بما فيها العراقية والأفغانية والباكستانية، ولم يختلف هذا التأثير بعد التدخل الروسي في سبتمبر/أيلول 2015، لأن الدور الروسي كان في الجو، بينما بقي “حزب الله” هو الذي يضبط إيقاع الجبهات في الأرض، بما يمتلكه من خبرة عسكرية وضع ثقلها في دعم جيش النظام السوري وتدريبه.
من هنا، أصبحت قوة “حزب الله” في سوريا وقدرات جيش الأسد، بمثابة توأم سيامي يصعب فصله، وترتفع نسبة التماهي وتنخفض بين منطقة وأخرى، ففي حين تنخفض شرق البلاد بسبب وجود عدة فصائل عراقية، بينها الحزب الذي حمل اسم الحزب اللبناني، “حزب الله” العراقي، فهي ترتفع في مناطق مثل حمص وريف دمشق ودرعا والقنيطرة.
توغل بري في سوريا
كل ما سبق يمكن أن يضعنا بصورة المشهد الحالي أو القادم في سوريا، في مرحلة نستطيع تسميتها بمرحلة “فرد الأوراق فوق الطاولة”، بعد أن كانت الحوارات والرسائل تجري من تحتها، أو يمكن تسميتها بمرحلة نهاية الدبلوماسية.
وفقًا لطبيعة التداخل الجيوسياسي والعسكري بين “حزب الله” ونظام الأسد، ستكون سوريا في قلب العاصفة التي تدور حاليًا في لبنان، ورغم أن نظام الأسد تجنب خلال الأشهر الماضية الانخراط عسكريًا أو سياسيًا مع ما يجري في جبهتي غزة وجنوب لبنان، فإن الواقع الحالي يحتم عليه ألا يكون طرفًا محايدًا، بعد عزم تل أبيب تنفيذ مهمة التوغل البري في جنوب لبنان، مهما كان الثمن.
قد تكون التسريبات التي أوردتها صحيفة “الأخبار” اللبنانية في 11 سيتمبر/أيلول الحالي، تعطي صورةً أولية عن السيناريو الذي سيدور داخل الأراضي السورية، إذ تحدثت الصحيفة عن خطة إسرائيلية تقضي بأن الجيش الإسرائيلي قد يُضطر في بداية أي عملية عسكرية داخل لبنان، إلى قطع الطريق على أي إمداد بري يحتاج إليه “حزب الله”، سواء من سوريا أم من العراق، وقطع التواصل بين البقاع والجنوب، وأنه لتحقيق ذلك، سيدخل إلى مناطق الجنوب والجنوب الغربي لسوريا، ويتقدم شرقًا باتجاه عمق لبنان بغية قطع الطريق بين البقاع والجنوب.
ويظهر أن الجيش الإسرائيلي تجهز قبل نحو عامين لتطبيق هذه الخطوة، عبر إنشاء مشروع “طريق سوفا 53″، بعمق نحو 200 متر في محافظة القنيطرة، مع إمكانية توسيع هذا الممر بالتزامن مع إطلاق مرحلة التوغل البري في جنوب لبنان.
وقبل هذه التسريبات بنحو 5 أشهر، وتحديدًا في 11 أبريل/نيسان، أكد موقع “واللا” العبري، المقرب من المخابرات الإسرائيلية، أن “حزب الله” يخطط لشن هجوم ضد “إسرائيل” انطلاقًا من الأراضي السورية، وأن الحزب بدأ بنقل عناصره إلى المنطقة الحدودية استعدادًا لذلك، وأوضح الموقع أنه “ليس واضحًا ما إذا كانت الموافقة على ذلك جاءت من بشار الأسد أم لا”.
ضربات تغطي سوريا
في كلتا الحالتين، وسواء أكانت الموافقة من بشار الأسد أم لا، فإن القوات السورية لن تكون بموقف حيادي تجاه الضربات الإسرائيلية ضد “حزب الله” وعموم الفصائل الإيرانية، والتي ستطال غالبية الخريطة السورية، من الحدود السورية العراقية شرقًا، وصولًا لمنطقة الجولان في الجنوب الغربي، وفقًا لما أعلنه الجيش الإسرائيلي قبل يومين من فرض حصار عسكري على لبنان.
ويعني فرض الحصار العسكري، بحسب إعلان الجيش الإسرائيلي، إغلاق المنافذ البرية والبحرية والجوية بغية عدم وصول أي أسلحة من إيران أو سوريا لـ”حزب الله”، وهذا ما يعني أيضًا أن الممر البري الوحيد في طريق الأسلحة الإيرانية لـ”حزب الله”، في سوريا، سيكون في قلب الضربات الإسرائيلية.
ويشمل الممر البري الممتد بين الحدود مع العراق وصولًا للحدود مع لبنان، عدة منافذ حاول الطيران الإسرائيلي والأمريكي خلال السنوات الماضية تحييدها، انطلاقًا من منطقة الهري في البوكمال، مرورًا بمناطق البادية وصولًا إلى ريفي حمص ودمشق، وإذا كانت تلك الضربات في السنوات الماضية محدودة ومتباعدة، فالمتوقع أنها ستكون خلال الأيام والأسابيع القليلة القادمة، أكثر عنفًا وأشد تواترًا.
نظريًا، يمكن لأحد أن يقول إن نظام الأسد يستطيع ببساطة أن يتخذ موقف الحياد إزاء تلك الضربات، لكن تفصيلًا بسيطًا سيجعل هذا الافتراض بعيدًا عن الواقعية، بسبب التداخل الحيوي في المواقع العسكرية بين “حزب الله” وقوات نظام الأسد، ولعل أبرز دليل على ذلك، وهو حديث نسبيًا، العملية العسكرية الإسرائيلية في منطقة مصياف بريف حماة، في 12 سبتمبر/أيلول الحالي، التي قُتل فيها عناصر من المخابرات العسكرية السورية كانوا في نفس الموقع المُستهدف، وهو مركز البحوث العلمية الذي تتخذه إيران كمنشأة لتطوير الأسلحة، وفق الصحافة الإسرائيلية.
قد لا تؤثر الضربات الإسرائيلية في الأراضي السورية حاليًا، بشكل مباشر على نظام الأسد، باستثناء سقوط قتلى بأعداد كبيرة في قواته المنتشرة قرب مواقع “حزب الله” أو الفصائل الإيرانية الأخرى، لكن الثابت أن بشار الأسد سيكون في المرحلة القادمة أمام خيارات صعبة، في حال قررت “إسرائيل” توسيع عملياتها الجوية والبرية داخل الأراضي السورية، ولن يتمكن من مواصلة دفن رأسه بالتراب إلى النهاية.