ارتبط اسمها بإثارة الرعب والفزع في نفوس كثير من السودانيين فما إن تذكر قوات “الدعم السريع” إلا ويتذكر الناس التفلتات وارتكاب الانتهاكات المتكررة الأمر الذي سبب إحراجًا كبيرًا للقوات النظامية في السودان “الجيش والشرطة”.
الأيام الماضية فوجئ سكان أحياء الحاج يوسف وسوبا شرق والكلاكلة “ضواحي الخرطوم” بتنفيذ قوات مدججة بالسلاح تستقل سيارات دفع رباعي حملات حلاقة للشباب الذين يطيلون شعرهم أو من يحلقون حلاقات تراها السلطات منافية للذوق العام.
حملات الحلاقة التي نفذتها القوات المذكورة وجدت استهجانًا شديدًا من أفراد المجتمع باعتبارها تشكل امتهانًا لكرامة الإنسان إضافة إلى أنها غير دستورية من الأساس، إذ لا توجد في القانون السوداني مادة تعطي أي قوة نظامية صلاحيات لتنفيذ مثل هذه الحملات.
الغضب الشعبي وتفاعل الشباب السوداني مع حملة الحلاقة عبر إنشاء هاشتاغ #حلاقين_الدعم_السريع دفع شرطة ولاية الخرطوم إلى تنظيم مؤتمر صحفي نفت فيه قيام أي قوة نظامية بحملات لحلاقة رؤوس الشباب في عدد من أحياء ولاية الخرطوم، وأعلنت ضبط عدد من الأفراد قالت إنهم انتحلوا صفة نظاميين وحلقوا رؤوس المواطنين بمنطقة المعمورة بالخرطوم.
أنشأت “الدعم السريع” من قوات شعبية من بعض القبائل الموالية للدولة لقتال التمرد في عملية محاكاة لتجربة الصحوات في العراق
يأتي هذا النفي في وقت انتشر فيه مقطع فيديو يوثق قيام ضابط كبير بحلق رأس أحد الشباب بطريقة أقل ما توصف به أنها مهينة أمام ضحكات وسخرية القوة المرافقة له وقد تم التعرف عليه لاحقًا كما سنذكر في الأسطر القادمة.
قصة تشكيل قوات “الدعم السريع”
خلال السنوات التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي تولى بموجبه عمر البشير حكم السودان عام 1989 استعان بقوات من المتطوعين أُطلق عليها اسم “الدفاع الشعبي”، حيث تدافع الآلاف من الشباب للمشاركة في الحرب ضد الحركة الشعبية في الجنوب وهي حرب اتخذت طابعًا دينيًا بحسب رغبة الحكومة، وقد أبلت قوات الدفاع الشعبي بلاءً حسنًا في مساندة القوات المسلحة حتى أحكمت الأخيرة السيطرة على معظم مدن الجنوب في الفترة التي سبقت اتفاق السلام الشامل بين الحكومة والحركة الشعبية.
ومع تفجر أزمة دافور في العام 2003، يُعتقد أن القوات المسلحة السودانية رأت أنها بحاجة إلى قوات مسانِدة لمكافحة الحركات المسلحة في الإقليم خاصةً حركتي العدل والمساواة وحركة تحرير السودان، فأنشأت قوات شعبية من بعض القبائل الموالية للدولة لقتال التمرد في عملية محاكاة لتجربة الصحوات في العراق التي استطاعت مواجهة تنظيم القاعدة.
وبالفعل نجحت القوات غير النظامية التي شكلتها الحكومة السودانية في القضاء على جزء كبير من الحركات المسلحة، فضلًا عن استعادة معظم الأراضي التي سيطرت عليها الجماعات المتمردة، لكن الثمن كان باهظًا جدًا، فقد اتهمت الأمم المتحدة ومنظماتها هذه الميليشيات التي أطلق عليها لقب “الجنجويد” بالتورط في ارتكاب فظائع بحق المدنيين، ولأن هذه القوات كانت تقاتل لحساب الحكومة أُحيل ملف دارفور إلى محكمة الجنايات الدولية التي قررت إصدار مذكرة توقيف للرئيس عمر البشير كسابقة لم تحدث في السابق وهي إصدار أمر اعتقال في مواجهة رئيس ما زال على سدة الحكم وليس رئيسًا سابقًا.
ينحدر قائد قوات الدعم السريع “الجنجويد” محمد حمدان من قبيلة الرزيقات، وقد عمل سابقًا في تجارة الإبل والقماش بين دارفور وليبيا ودارفور ومصر حتى اندلاع الحرب في إقليم دارفور عام 2003
وبعد انحسار المعارك في إقليم دارفور رأت حكومة الخرطوم تقنين وضع المليشيات فأطلقت عليها مسمى “قوات حرس الحدود” في البداية ثم الدعم السريع مؤخرًا بإشراف جهاز الأمن والمخابرات حيث تم التخلي عن الطابع القبلي للقوات ومحاولة إدماج مختلف القبائل فيها، واختير لقيادتها في البداية موسى هلال ثم آلت مقاليد الأمور في قيادة الدعم السريع إلى محمد حمدان دلقو الشهير بحميدتي الذي يُقال إنه مَن بادر بالاتصال على الرئيس البشير عارضًا خدماته لمواجهة الحركات المسلحة.
حميدتي (42 عامًا) لا يحمل أي مؤهل أكاديمي مُنح رتبة لواء في القوات المسلحة ثم رُقي لرتبة فريق وهي من ضمن الرتب المقتصرة على ضباط الجيش ممن دخلوا الكلية الحربية، كما أن عمره لم يكن يؤهله للوصول إلى الرتبتين، الأمر الذي أثار ضجةً واسعة داخل القوات المسلحة وأحزاب المعارضة.
قائد قوات الدعم السريع
ينحدر قائد قوات الدعم السريع “الجنجويد” محمد حمدان من قبيلة الرزيقات، وهو قد عمل سابقًا في تجارة الإبل والقماش بين دارفور وليبيا ودارفور ومصر حتى اندلاع الحرب في إقليم دارفور عام 2003، ولم تكن العلاقة بين قائد الدعم السريع والحكومة السودانية ودية في كل الأوقات، إذ انسحب مرتين من القتال لصالح الحكومة واستعصم بقواته في دارفور بعد خلافات مع الجيش تتصل بتقنين أوضاع قواته، وأخرى مع الحكومة التي تعاملت مع قوات الردع السريع في وقت من الأوقات بفظاظة بعد انتهاكات ارتكبتها وثار الرأي العام المحلي والدولي عليها.
كما اصطدم مع وزير الداخلية الأسبق عصمت عبد الرحمن الذي استنجد ذات مرة أمام البرلمان بالجيش لإخلاء منطقة جبل عامر الغنية بالذهب شمال دارفور من نحو 3000 أجنبي وهو ما يُقصد به قوات الدعم السريع التي تُتهم بتجنيد عساكر من دول الجوار الإفريقي، وقد نفى حميدتي ذلك، بيد أن قواته كانت تسيطر بالفعل على جزء كبير من الجبل وتستفيد من الذهب الموجود هناك في واحدة من تفلتاتها التي سيتأتي ذكرها في الفقرة القادمة من هذا التقرير.
أبرز انتهاكات الدعم السريع
منظمة “هيومان رايتس ووتش” وصفت جنود الدعم السريع بأنهم “رجال بلا رحمة”، قائلةً: “الكثير من المدنيين قتلوا على يد قوات الدعم السريع عندما رفضوا مغادرة منازلهم أو تسليم مواشيهم، أو عندما حاولوا منع مقاتلي قوات الدعم السريع من اغتصاب أفراد أسرهم.”
قوات الدعم السريع متورطة في قتل 200 من متظاهري سبتمبر 2001 بالرصاص الحي
ونقلت صحيفة “السودان اليوم” أن قوات من “الدعم السريع”، حاصرت العام الماضي، مبنى شرطي رئيس يتبع لمكافحة إدارة المخدرات، في قلب العاصمة السودانية الخرطوم، مطالبةً بفك احتجاز أحد أفرادها الموقوفين على ذمة التحقيقات.
وهدد قادة القوات بشن حرب على أفراد مكافحة المخدرات بأم درمان، ما لم يتم إطلاق سراح عبد الله الحر، وهو ضباط بالقوات معتقل على ذمة تورطه في قتل فرد بوحدة مكافحة المخدرات خلال عملية مطاردة لتجار “بنقو”.
ولم تسلم ولاية كسلا الحدودية “شرقي البلاد” من انتهاكات قوات الدعم السريع، إذ تحرّش جنديان منهم بفتاة من حي الميرغنية مطلع العام الحاليّ بغرض اغتصابها، ولكن رآهم صاحب بقالة وتصدّى لهم وهو أحد شباب الحي دافع بقوة عن الفتاة، وحاول فردا الدعم السريع إثناء الشاب عن حماية الفتاة بتخويفه ولكن لم يتراجع، فقاما بإطلاق النار عليه.
ولاية شمال كردفان القريبة من إقليم دارفور كانت قد شهدت احتجاجات واسعة اندلعت في مدينة الأُبيِّض، في أعقاب ارتكابها حوادث مختلفة من قتلٍ واغتصابٍ ونهب، كان آخرها قتل أحد المواطنيين لاعتراضه محاولتهم سرقة متجره بالإكراه مما أدخل حكومة الإقليم في حرجٍ واضح تعهد بموجبه والي الولاية أحمد هارون بإخراج القوات خلال 72 ساعة.
كما اشتكى مواطنون بمدينة شندى من تصرفات مليشيا الدعم السريع الموجودة بمعسكر المعاقيل، مشيرين إلى أنها اصبحت تشكل خطرًا على أهالي المنطقة، بسبب اعتداءاتها على المواطنين، بصورة وحشية.
ويعتقد كذلك على نطاقٍ واسع بأن قوات الدعم السريع متورطة في قتل 200 من متظاهري سبتمبر 2001 بالرصاص الحي، وأن من فتحوا النيران على الشباب السلميين ليسوا سوى مليشيات يعد الدعم السريع إحداها.
الجيش السوداني أقر بأن تجربة قوات الدعم السريع اعترتها ما أسماه “هنّات”
وفي أحدث انتهاك قبل أيام، روى الإعلامي بقناة سودانية 24 جهاد حسين، عبر صفحته بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك حادثة الاعتداء عليه وأصدقائه بواسطة حافلة تحمل جنودًا من قوات الدعم السريع انهالوا عليهم بالضرب دون أسباب داخل العاصمة الخرطوم الأسبوع الماضي، وقال جهاد حسين إن الجنود الذين اعتدوا عليهم عرف أنهم مخمورون من خلال الرائحة المعهودة التي يستطيع أي شخص التعرف عليها.
والحادثة الأخيرة التي وقعت للإعلامي جهاد إلى جانب حلاقة رؤوس الشباب دعت الشرطة إلى الإسراع بعقد مؤتمر صحفي قال فيه المدير إن هناك جماعات تنتحل صفة القوات النظامية تم توقيفها، بينما أصدرت قيادة قوات الدعم السريع بيانًا نفت فيه تورط منسوبيها في واقعة الحلاقة إلا أن الصحفي ناصف صلاح الدين تعرّف على العميد بقوات الدعم السريع جدو حمدان الملقب بـ(أنشوك) يقوم بنفسه بحلاقة شعر أحد الشباب وهو الضابط الذي ظهر في مقطع الفيديو.
اللافت أن الجيش السوداني أقر بأن تجربة قوات الدعم السريع اعترتها ما أسماه “هنّات”، لكن في نفس الوقت كانت صاحبة النصيب الأكبر في استتباب الأمن بإقليم دارفور وكبح نشاط الاتجار بالبشر بعد إلقاء القبض على نحو 1500 من المهربين بحسب بيان لوزير الدفاع.
ومع ذلك سعت الحكومة في ضمها للقوات المسلحة غير أن قوات الدعم السريع رفضت، في وقت سابق، لرغبتها في أن تظل حرة، بينما لم يبدِ الجيش، وفق تسريبات، أي رغبة في ضم تلك القوات بسبب الانتقادات التي توجه إليها وما يشاع عنها من عدم انضباط وتورطها في جرائم قتل وسلب ونهب واغتصاب.
وكان حميدتي قد دافع عن الدعم السريع قائلًا في مؤتمر صحفي: “قوّاتنا منضبطة ولا يصدر عنها أي انتهاكات، إنما يقوم بها آخرون بالمنطقة التي يتزامن خروجهم منها”، ومعترفًا بوجود انتهاكات، “قد يحدث انفلات داخل قواتنا، لكنها فردية، ونحسمها مباشرة، فهم ليسوا ملائكة، وقد تحدث أمور مشابهة مع أي قوات أخرى”.
الحصانة الكبيرة التي تتمتع بها الدعم السريع تثير خوف آخرين نظرًا لأن الحكومة اعتقلت زعيم حزب الأمة المعارض، الصادق المهدي قبل أربع سنوات، لانتقاده المليشيا واتهامه لها بارتكاب جرائم عدة وضمّ أجانب
لكن كثيرين باتوا يتخوفون من تمدد هذه القوات باعتبارها مليشيات لم تنل تعليمًا ولم تتلق تدريبات عسكرية صارمة وبالتالي لن تخضع لأي قانون كالقوات النظامية التي تتبع تقاليد عسكرية راسخة على عكس مليشيات الدعم السريع التي تمنحها السلطات حصانة وقوة ضاربة تجعلها في مأمن عن أي إجراءات قد تتخذها أجهزة نظامية كالجيش والشرطة.
فيما لا يخفي مراقبون مخاوفهم من طموح حميدتي وظهوره الإعلامي المكثف، الأمر الذي يهدّد استقرار البلاد ويحوّلها إلى دمار بعد الامتيازات التي منحتها الحكومة لقواته التي يقدر عددها بـ30 ألف جندي رغم أن الرجل رفض الاعتراف بالعدد الحقيقي في حوار مع قناة سودانية 24.
والحصانة الكبيرة التي تتمتع بها الدعم السريع تثير خوف آخرين نظرًا لأن الحكومة اعتقلت زعيم حزب الأمة المعارض، الصادق المهدي قبل أربع سنوات، لانتقاده المليشيا واتهامه لها بارتكاب جرائم عدة وضم أجانب، ويؤشر اعتقال الصادق ثم خروجه إلى المنفى الاختياري لاحقًا بسبب مجرد انتقادات وجهها للدعم السريع مدى حساسية الدولة من الهجوم على القوات حتى لو بمجرد الحديث العادي.
ويجزم كثيرٌ من الناشطين أن القوات التي قامت بالحلاقة للشباب السوداني تابعة للدعم السريع بنسبة 100% ولكن يصعب على الشرطة بالطبع الاعتراف بوجود مجموعات متفلتة داخل العاصمة مما سيكون فضيحة كبرى للقوات النظامية وللحكومة ككل.
ويعتقد على نطاقٍ واسع أن قوات الدعم السريع ترتبط ارتباطًا مباشرًا مع الرئيس عمر البشير الذي كثيرًا ما يشيد بها ولكن لا توجد صداقة دائمة في عالم السياسة والخطر يتهدد البلاد من هذه القوات في حالة مغادرة البشير لكرسيه في أي لحظة كما أن انتشار الدعم السريع في العاصمة الخرطوم ينذر بالمزيد من الرعب والخوف باعتبارها قوة متفلتة لا انضباط لها هذا بالإضافة إلى الطموحات الكبيرة التي يتميز بها قائدها محمد حمدان حميدتي الرجل الذي مُنح رتبة فريق دون أن يدخل الكلية الحربية السودانية.
ولذلك ينبغي وضع حد لهذه الانتهاكات بإعادة دمج قوات الدعم السريع في المجتمع السوداني والاستفادة من برامج منظمات الأمم المتحدة في هذا الإطار، أما إذا رأت الدولة ضرورة وجودها فيجب تقديم المتورطين منهم في انتهاكات للعدالة ومن ثم النظر في كيفية إخضاعها لتدريب عسكري صارم تعرف فيه حدوها ونطاق صلاحياتها.