ترجمة وتحرير: نون بوست
شرعت الحكومة التركية، مؤخرا، في بذل جهود كبيرة لإصلاح العلاقات مع الغرب. ويأتي ذلك بعد فترة من التقارب غير المسبوق مع روسيا وإيران، الأمر الذي تزامن مع ظهور اتهامات تفيد بأن الولايات المتحدة تشن حربا اقتصادية على تركيا. ولا شك في أن هذا التغيير المفاجئ في موقف أنقرة له علاقة بالأزمة الاقتصادية التي تمر بها تركيا. وعلى الرغم من التوترات السياسية القائمة، إلا أن ألمانيا وبقية دول الاتحاد الأوروبي الأخرى كانت منفتحة على تحسين العلاقات مع أنقرة. ومن الواضح أن ذلك له علاقة بالمخاوف الاقتصادية، حيث أن الأوروبيين يملكون العديد من الاستثمارات في تركيا.
كانت الرسائل التي وجهها الرئيس، رجب طيب أردوغان خلال رحلته إلى نيويورك وزيارته إلى برلين في أواخر شهر أيلول/ سبتمبر بمثابة تأكيد على أن أنقرة تقوم بتعديل مسارها، علما وأن البعض يتساءلون ما إذا كان سيكون هذا التحول دائما. خلال حديثه في مؤتمر، بحضور شركة أعمال تركية أميركية مقرها في نيويورك، أظهر أردوغان قدرا من الثقة بشأن تحسن الوضع، قائلا: “ستتجاوز شراكتنا الإستراتيجية مع الولايات المتحدة، التي مرت بالعديد من الصعوبات في مناسبات عدة، هذه الفترة المضطربة”. وتجدر الإشارة إلى أن نبرته التصالحية قد عززت التوقعات بأن تركيا ستطلق قريبا سراح القس الأمريكي، أندرو برونسون، الذي أدى سجنه المثير للجدل إلى فرض عقوبات أمريكية غير مسبوقة ضد أحد أعضاء حلف الناتو.
من جانب آخر، وفيما يتعلق بالعلاقات مع ألمانيا، فقد قال أردوغان إنه يريد عودة العلاقات كما كانت في السابق. والجدير بالذكر أنه قبل سنة من الآن، اتهم الرئيس التركي السلطات الألمانية بارتكابها ممارسات نازية، وذلك بعد أن منعت أعضاء حزب العدالة والتنمية، الذي يرأسه أردوغان، من إقامة تظاهرات سياسية لحشد أصوات المهاجرين الأتراك في ألمانيا.
ارتفع معدل التضخم الاستهلاكي في تركيا إلى ما يقرب 25 بالمائة، في حين ارتفع تضخم أسعار المنتجين إلى أكثر من 46 بالمائة.
يمكن القول إن الأزمة الاقتصادية في تركيا تعتبر المحرك الأكثر أهمية وراء تغير موقف أردوغان. ويبدو أن الأزمات الاقتصادية التي جدّت في الفترة الممتدة بين شهري آب/ أغسطس وأيلول/ سبتمبر أقنعته في نهاية المطاف بأن النزاع مع الغرب، الذي يسيطر على النظام المالي العالمي، لن يساهم بأي شكل من الأشكال في مساعدة الاقتصاد التركي على التغلب على الاضطرابات التي يشهدها.
في شهر أيلول/ سبتمبر من السنة الماضية، ارتفع معدل التضخم الاستهلاكي في تركيا إلى ما يقرب 25 بالمائة، في حين ارتفع تضخم أسعار المنتجين إلى أكثر من 46 بالمائة. ويقترن هذا الارتفاع غير المسبوق في الأسعار بالاضطرابات التي عرفها مجال الصناعة وقطاع الخدمات بالإضافة إلى ارتفاع معدلات البطالة. وفي خضم أزمة واسعة ومعقدة، يطلق عليها في القطاع الاقتصادي بالتضخم المصحوب بالركود، تتزايد الحاجة الملحة للأموال الخارجية كل يوم.
في الأثناء، لا تزال أسعار صرف العملات الأجنبية مرتفعة رغم الزيادة الكبيرة في سعر الفائدة لدعم الليرة التركية المنهارة والإعلان عن برنامج اقتصادي جديد الشهر الماضي. لكن يبدو أن الإجراءات التي تبنتها أنقرة لم تنجح في كسب ثقة المستثمرين الأجانب. والجدير بالذكر أن معظم القروض الخارجية والاستثمارات الأجنبية المباشرة التي تحصل عليها تركيا من الغرب، تعد من دون الشك العامل الأساسي وراء تطبيق أنقرة لحملة الإصلاحات.
وفقا لبيانات البنك المركزي، وتحديدا في شهر تموز/ يوليو، بلغت قيمة الأصول الأجنبية في تركيا 633 مليار دولار، بما في ذلك 457 مليار دولار من الديون، ثلثها بعملة اليورو. وتمثل البنوك الألمانية والبريطانية والسويسرية والهولندية واللوكسمبورغية نصف الدائنين. في الوقت نفسه، بلغت قيمة الاستثمارات الأجنبية المباشرة 142 مليار دولار، من بينها 138 مليار دولار، وهي نسبة مرتفعة تقدر بحوالي 97 بالمائة، تعود أغلبها إلى الشركات الأوروبية. على سبيل المثال، تتصدر الشركات الهولندية القائمة بقيمة تصل إلى 41 مليار دولار، في حين تبلغ قيمة الاستثمارات الألمانية 18.2 مليار دولار، أما الاستثمارات البريطانية فقد قُدرت بما قيمته 8 مليارات دولار، مع ظهور كل من إسبانيا وإيطاليا ولوكسمبورغ كمستثمرين بارزين آخرين.
في سنة 2017، بلغت قيمة الواردات الألمانية 21.3 مليار دولار، أي 9 بالمائة من إجمالي الواردات التركية البالغة قيمتها 234 مليار دولار
من الواضح أن أوروبا تعد مصدر كل الاستثمارات الأجنبية المباشرة تقريبا، كما أن نصف القروض الخارجية التي تستفيد منها تركيا هي من أوروبا. وفي الوقت ذاته، تعتبر تركيا شريكا تجاريا هاما ووجهة سياحية مفضلة للأوروبيين. ففي سنة 2017، وجهت 47 بالمائة من الصادرات التركية التي تقدر قيمتها بنحو 158 مليار دولار إلى دول الاتحاد الأوروبي. وتصل حصة أوروبا مع احتساب بقية الدول الأوروبية إلى ما يقرب من 54 بالمائة. وفي السنة الماضية، بلغت الصادرات التركية إلى ألمانيا 14.1 مليار دولار، أي نحو 9 بالمائة من إجمالي الصادرات. كما ارتفعت حصة ألمانيا إلى أكثر من 10 بالمائة في الأشهر الثمانية الأولى من سنة 2018.
فضلا عن ذلك، تعتبر تركيا أهم مشتري للسلع الألمانية. ففي سنة 2017، بلغت قيمة الواردات الألمانية 21.3 مليار دولار، أي 9 بالمائة من إجمالي الواردات التركية البالغة قيمتها 234 مليار دولار. في الوقت نفسه، بلغت حصة الاتحاد الأوروبي الإجمالية 37 بالمائة تقريبا، بينما بلغت قيمة الواردات من إيطاليا 11.3 مليار دولار و8 مليارات دولار من فرنسا. من ناحية أخرى، لا تزال تركيا الوجهة المفضلة لدى السياح الأوروبيين على الرغم من تراجع عددهم في السنوات القليلة الماضية. وفي الأشهر الثمانية الأولى من هذه السنة، كان حوالي 9 ملايين سائح في تركيا من أصل 27 مليون زائر أجنبي، من الدول الأوروبية (أعضاء منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية)، بما في ذلك 3 ملايين سائح من ألمانيا. وبعد الروس، يظل الألمان ثاني أكبر مجموعة من السياح يتخذون من تركيا وجهة لهم.
تسارع اندماج تركيا في صلب الاقتصاد العالمي بشكل ملحوظ خلال العقدين الماضيين. فقد تعمقت الروابط الاقتصادية مع الاتحاد الأوروبي بشكل خاص، حيث أصبحت تركيا موطنا للعديد من الاستثمارات الهامة من دول الاتحاد الأوروبي. نتيجة لذلك، باتت الاضطرابات الاقتصادية في تركيا تمثل مصدر قلق للعديد من الأوروبيين أيضا، سواء كانوا مستثمرين أو دائنين أو تجار. ومن الجلي أن المخاطر الاقتصادية التي يمكن أن تواجه الاتحاد الأوروبي تعد السبب وراء ترحيب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، الحذر، بخطوات أردوغان الإصلاحية.
في الوقت الذي تشتد فيه وتيرة المشاكل الاقتصادية في تركيا، بات غضب الناخبين المتضررين من هذه الأزمة يشكل مصدر قلق متزايد لحزب العدالة والتنمية قبل الانتخابات المحلية القادمة التي ستعقد في شهر آذار/ مارس
في المقابل، حرص القادة الألمان على تذكير أردوغان بأن فتح صفحة جديدة يعتمد على الظروف السياسية، حيث ترغب ألمانيا والاتحاد الأوروبي، بشكل عام، في أن تتخذ أنقرة خطوات ملموسة لمعالجة حالات انتهاك حقوق الإنسان وسيادة القانون في تركيا. ويبدو أن برلين ستواصل المطالبة بالقيام بتحركات ديمقراطية، ليس فقط لأنها تتعرض لضغوط داخلية لتكون أكثر قسوة مع أردوغان، ولكن لأن استعادة الثقة في حكم القانون في تركيا يعتبر أمرا حاسما بالنسبة للمستثمرين الأجانب كذلك.
تجدر الإشارة إلى أنه في خضم الحملة التي جاءت على خلفية محاولة الانقلاب الفاشلة التي جدت سنة 2016، استولت أنقرة على مئات الشركات، كما سعت في مرحلة ما إلى توريط شركات ألمانية تعمل في البلاد. من جانبه، أشار أردوغان مرارا وتكرارا إلى أمله في تمكين بلاده من دعم مالي خارجي جديد، في شكل استثمارات مباشرة وقروض. ومن الواضح أنه كان يتطلع أيضا للحصول على مساعدات أوروبية لقواته العسكرية في سوريا، حيث يواجه أردوغان مهمة حساسة للغاية تشمل مهام صعبة متمثلة في التصدي للجماعات المتطرفة في إدلب.
في الوقت الذي تشتد فيه وتيرة المشاكل الاقتصادية في تركيا، بات غضب الناخبين المتضررين من هذه الأزمة يشكل مصدر قلق متزايد لحزب العدالة والتنمية قبل الانتخابات المحلية القادمة التي ستعقد في شهر آذار/ مارس. وللتخفيف من حدة الأزمة بحلول ذلك الوقت، تأمل أنقرة في الحصول على دعم من ألمانيا والاتحاد الأوروبي.
المصدر: المونيتور